0


aziz.alassa@yahoo.com
لا شك في أن الصراع على الأرض الفلسطينية شمل كل ذرة من تراب فلسطين؛ من بحرها إلى نهرها. ولا شك في أن القدس؛ الجغرافيا والديموغرافيا هي البؤرة التي فيها يتركز الصراع، في أَوْجِهِ، وعلى أرضها تحسم أمور عديدة؛ فهي التي تحدد من المنتصر ومن المهزوم في هذا الصراع القائم منذ حوالي مائتي عامٍ، بلا انقطاع. كما أنه مما لا شك فيه، أن التاريخ لن يرحم متخاذلاً بحق فلسطين وأهلها، أما من يتخاذل بحق القدس وأهلها، فرادى وجماعات، وأياً كان موقعه ومكانته؛ السياسية والاجتماعية والدينية، فإنه سيُعلّق على سارية التاريخ؛ لا يستر سوءته شيء، مفضوحاً، مذموماً أمام الله والتاريخ وأمام الأجيال القادمة.
وعلى هذه القاعدة فلنتوقف أمام ما يجري على أرض القدس من أحداثٍ، تزدحم بها أيام القدس ولياليها؛ فمع كل رمشة للعين وحركة لحدقتها. هناك محاولة، جادة، لـ (تهويد) بلاطة أو غرفة أو شقة أو مبنى أو مؤسسة، أو تزوير للتاريخ والجغرافيا.
تتم تلك المحاولات وفق أجندة عقائدية يستند إليها (اليهود)، مدعومة بالمال (الوفير) القادم من رجال أعمال ومليونيرات على مستوى دولي. ويتم إسناد ذلك بالقوة العسكرية المسلحة بأقصى ما توصل إليه العقل البشري من أسلحة فتاكة. ويقف خلف ذلك (حكومة)، معترف بها (دولياً!!)، تسن القوانين وتنظم اللوائح والنظم التي (تشرعن!!) عمليات التهويد تلك. وفوق هذا كله تلتحم دول عظمى وصغرى، وهيئات ومنظمات دولية لكي (تشرعن!!) كل ما يقوم به الاحتلال، لينتهي الأمر بتشكيل حماية تامة لأي ممارسات عدوانية تتم بحق الفلسطينيين، بشكل عام، والمقدسيين بشكل خاص.
ويقابل هذا الضغط مقدسيون أحرار؛ لا يقبلون الضيم ولا الخنوع، أياً كان ثمن ذلك الصمود في مواجهة المحتلين، ويستندون في ذلك إلى مفاهيم عقائدية ومبادئ وأخلاق تربوا عليها، كابراً عن كابر، تتلخص في أن كل من يساعد على تسريب أي جزء من القدس، يوصم بالعمالة والخيانة التي تعني العذاب، والخزي، في الدنيا والآخرة. وعليه؛ فإن كل من يخضع لتلك الضغوط الاحتلالية، ويضعف أمامها، يحكم على نفسه بالخروج من بين المقدسيين صاغراً-كسير الجناح، ليتلقفه الاحتلال وأجهزته الأمنية التي لا تألُ فيه إلاً ولا ذمة؛ فلا ترعاه ولا توفر له أي شكل من أشكال الحماية (ببعديها المادي والمعنوي)، لينتهي أمره، مشرداً هائماً على وجهه؛ بلا مكان يؤويه ولا مال يكفيه.
أما الأحرار من المقدسيين، وهم الغالبية المطلقة، فإنك تجد الواحد منهم يقف شامخاً وهو يواجه الاحتلال وجبروته وقوّته (الفتاكة)، ويتباهى بفقره الذي يعالجه بالإباء وعزة النفس؛ دون أن يلتفت لأي غنى مشبوه. ونظراً لكثرة تلك الأمثلة وتعددها، كمّاً ونوعاً، فإنني أشير إلى "أبو محمد"؛ ذلك المقدسي-الشجاع القابض على دكانته الصغيرة في باب السلسلة (أحد أبواب المسجد الأقصى)، فعندما عرفته بنفسي، استقبلني، وحمَّلني أمانة، لا أملك إلا أن أنقلها كما هي دون نقصان:
1. أشار، هذا المقدسي-الحر إلى سلسلة متصلة من المساكن التي تعلو الشارع، وقد قطنها المستوطنون؛ بعد أن تم طرد ساكنيها الأصليين، وهم من المسلمين. ولم يغادر هذا المشهد قبل أن يشير إلى أنه سبق لحظة الطرد تلك، انفجار قنبلة صغيرة في (ياخور) للحمير كان يقع في تلك المنطقة؛ فوفر الاحتلال لنفسه حجة أن أولئك السكان (المسلمون) هم من يهددون أمن "إسرائيل"!!
2. أما كيف تم تهجيره، هو وأسرته، من حييه الأصلي، فيقول: عرض الاحتلال علينا مبالغ مالية كبيرة لمغادرة المنزل، فرفضنا. فبدأ بالحفر حول البيت، وهو يقترب، شيئاً فشيئاً من نقاط توازن البيت وارتكازه، إلى أن فوجئنا، ونحن نتناول طعام الغداء يوم جمعة، بانهيار طولي للمنزل لم يشمل الجهة التي نحن فيها. فبقينا مكاننا لثلاثة أيام، حتى جاء الأهل والأصدقاء وأقنعونا بخطورة الموقف، ووفروا لنا سكناً آمناً. فغادرنا، وبقي الاحتلال يراقب الموقف، وبعد مغادرتنا رمم ما أتلفه ونحن هناك، ثم أعد البيت وأهَّلّه وأسكن المستوطنين مكاننا.
3. ضرب لنا مثلاً آخر على الصمود والتفاني في المواجهة، أن هناك بيتاً يعود لجده من أمه، يتكون من (35) غرفة قام الاحتلال بمصادرته وإسكان المستوطنين فيه. وها هو يلاحقنا الآن لكي نتنازل عنه، مقابل مبالغ من الأموال.
لم يتوقف "أبو محمد" عن الحديث ولم أتوقف أنا عن الاستفسار حتى توصلنا، معاً، إلى قرار وطني-حر لا يقبل المساومة؛ وهو أن المقدسيين ومن خلفهم أبناء الشعب الفلسطيني سيبذلون الغالي والنفيس في مواجهة مخططات الاحتلال وبرامجه الهادفة إلى تهويد القدس؛ بالقوة والترهيب والإغراءات المالية وشراء ذمم ضعاف النفوس. وأن الكل يتوجه إلى أحرار الأمة وشرفائها، من القابضين على جمر دولة فلسطين الحرة المستقلة وعاصمتها القدس، والمؤمنين بقوله تعالى: "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا" (المعارج: 5-7). وعدم التخاذل والتراجع، أياً كان الثمن، وعدم الاستجابة لنداءات الخضوع والاستسلام القائمة على الخوف من الاحتلال وبطشه، استجابة لقوله تعالى: "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا" صدق الله العظيم.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 31/8/2014م، ص17

إرسال تعليق Blogger

 
Top