0
في ذكراها الـ (68):
النكبة متعددة الأبعاد: النكبة الثقافية أنموذجًا
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 15/05/2016م، ص: 19
عزيز العصا
لا شك في أن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني لم تكن عبارة عن حدث آني في يوم محدد وسنة محددة؛ وإنما هي نتاح حرب طويلة الأمد، كانت ذروتها خلال الفترة 1947-1949 من القرن الماضي، أودت بالشعب الفلسطيني مشتتًا في أصقاع المعمورة، وما نجم عنها من مآسٍ هددت هويته الوطنية؛ نتيجة النمو السريع والصادم للكيان الذي أقيم على أرضها، بعد أن تمكن من طرد أصحاب الأرض الأصليين، والعمل على محو أثرهم وآثارهم، الممتدة لبضع آلاف من السنين، باستخدام القوة المفرطة.
إلى جانب العمليات العسكرية، كانت تجري على قدم وساق تم تنفيذ عمليات المصادرة والنهب، للكتب والتحف الأثرية أيضًا، وكل أصناف الهواة أو رجال الأعمال استولوا عل الأثريات، والمكتبة الوطنية استولت على الكتب، والجيش استولى على المواد الغذائية... وهكذا. ومجمل قيمة الخسائر: قدرها وزير الخارجية "موشيه شرتوك" في خمسينيات القرن الماضي بما قيمته مليار دولار.
لذلك؛ فإن هذه النكبة متعددة الأبعاد والصور والأشكال. ومن بين تلك الأبعاد، هناك البعد الثقافي للنكبة، الذي هو "أيضًا" متعدد الأنواع والأشكال، إذ يشمل هدم وتمزيق وتشتيت الأثر الحضاري والعمراني والتاريخي والصور الثقافية بأشكالها كافة: المادية وغير المادية. ذلك الأمر هو "النكبة الثقافية"، التي لا تقل وجعًا وألمًا عن أوجاع وآلام الأبعاد الأخرى للنكبة كفقدان الأحبة والخلان والتشرد والتشتت. 
كواحد من الشواهد على النكبة الثقافية، أود الإشارة إلى ما جرى للكتب الفلسطينية إبّان النكبة، وذلك بالاستناد إلى ما صدر  في شهر أيار من العام (2015) عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" من ترجمة لكتاب بعنوان: "بطاقة ملكيّة: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية".
ويمكننا النظر إلى هذا الكتاب، وهو في الأصل رسالة دكتوراة في قسم الأدب العبري في جامعة "بن غوريون"  للباحث "غيش عميت"، ترجمه إلى العربية "علاء حليحل"، كشهادة على الجريمة النكراء التي مورست بحق شعبنا في تلك النكبة.
يشير "عميت" إلى أنه تم (جمع!) (30,000) كتاب كانت بملكية فلسطينيين إبّان (النكبة) في العام 1948، ألقي بها في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة التي تأسست في العام 1925م. ويورد الكاتب العديد من التفاصيل التي توضح استراتيجيات النهب والسلب والسرقة والبيع والهَرْس والطّحن، وآليات الإخفاء والتزوير، وإظهار ذلك كله كعمل أطلق عليه "الرأفة والإنقاذ".
يتضح من ذلك أن النهضة الثقافية للشعب الفلسطيني بُترت وتوقفت مع الهزّات التي خلفتها النكبة في العام 1948، إذ نجم عنها: فقدان مجموعات كتب خاصّة وعامّة، وضياع القصص مع ذهاب الناس الذين حملوها في ذاكرتهم.
لقد كانت عمليات النهب والسرقة والسطو، أثناء الحرب وبعدها، واسعة الانتشار بشكل ملحوظ، وقد تحدّث بن غوريون عن ذلك بشكل صريح في إحدى جلسات الحكومة، وفي 21/06/1948 وصف أحدهم الوضع في صحيفة "عال همشمار": قضية النهب والسرقة لم تهدأ في القدس.
ومن المثير للاشمئزاز أنه قد جرى رسم خط فاصل؛ بتجريم النهب الخاص، و"شرعنة!" النهب الذي ينتهي إلى المخازن العامة، واعتباره شرعي وأخلاقي! وهناك عمليات "مصادرة" جرت وفق شكليْن متكامليْن: استخدام قوة الذراع من جهة، والاستناد إلى (القوانين!) من جهة أخرى. ويشير "عميت" إلى أن المكتبة الوطنية لم تستوعب كل الكتب التي جُمعت أثناء الحرب؛ فهناك نحو (40,000) كتاب حُفظت في المخازن التي أقامتها وزارة المعارف، وفي أواخر الخمسينيات مُزِّق وأبيد أكثر من نصفها.
ومن صور النكبة الثقافية، ما يقوله "عميت": "أضحت الكتب الفلسطينية نصبًا تذكاريًا غريبًا تتضمن حفظًا وهدمًا، وخرابًا وإنقاذًا". فقد وورد في تقرير المكتبة الوطنية في آذار/ 1949 وصف تلك الكتب بأنها "ممتلكات روحانية هائلة، لن ندرك قيمتها الكاملة إلا بعد ترتيب وتسجيل كلّ المواد. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما استندت عملية النهب والسرقة تلك إلى أبعاد أيديولوجية، منها:
-       إبعاد الفلسطينيين عن حدود المجموع القومي، الذي جرى تعريفه بكونه يهوديًا حصريًا.
-       تعامل الصهيونية مع نفسها باعتبارها وكيلة ثقافية، فهناك من ادّعى بأن المكتبة الوطنية أخرجت الكتب من حيازة العاجزين عن فكّ رموزها، ونقلتها إلى الذين يتقنون جني الفائدة منها، لصالح العلم والبشرية. ويرى "إدوارد سعيد" أن "جمع كتب الفلسطينيين" جعل الصهاينة يميلون إلى إنكار وجود الفلسطينيين كأصلانيين.
-       من مظاهر المحو الثقافي أيضًا، أن هناك من المصنّفين من شاهد إهداءات أصحاب الكتب وأسمائهم، والتي أصبح التعامل معها كـ "أملاك مهجورة!"، وأما الكتب المطبوعة باللغات الأجنبية فاندمجت ضمن المكتبة من دون أي أثر، كما أن هناك نحو (500) مخطوطة فلسطينية جُمعت في الحرب ولا تظهر في الفهرس المحوسب. وبذلك؛ تم "بتر" العلاقة بين الكتاب وصاحبه.
-       في نيسان/ 1957، عُقدت جلسة خاصة للقضاء على الكتب العربية، فتقرر بيع مجموعة من الكتب كنفايات ورقية، تشمل: (23,000) كتاب في تل أبيب و(3,311) كتابًا في حيفا، على أن يتم طحنها بشكل معلن للجميع؛ لضمان عدم خروج الكتب إلى السوق. 
وأما بشأن التعامل مع الكتب المنهوبة، فنكتفي بالإشارة إلى الشهادات التالية:
-       في نيسان 1953 كتب أحد مسؤولي وزارة المعارف انطباعاته من جولة أجراها في مخازن الكتب العربية في القدس، مما ورد فيها: قسم كبير من هذه الكتب مرزوم في داخل رزم، وقسم آخر ما زال موجوداً في مرحلة ما قبل العدّ والترتيب.
-      في أواسط الخمسينيات تبين هناك شهادة تبين حالة التخبط والفوضى والنهب والسرقة للكتب الفلسطينية، من القدس ويافا وبئر السبع والمجدل وطبريا وصفد... الخ، لدرجة عدم وجود رفوف كافية، فوضعت الكتب في مخزن يافا، على الأرض المصنوعة من الباطون، والوسخة، والمخلوطة بالقار؛ والتي تتلف الكتب عند وضعها عليها. وتم نقل مخزن الكتب العربية من حيفا، بشكل غير منتظم؛ حيث ألقي برزم الكتب في غرفة على السطح وصغيرة جدا؛ فمُزّقت ونثرت في كل صوب.
-      كلمة أخيرة،
يتضح مما سبق أن الكتب الفلسطينية التي تم نهبها وسرقتها والاستيلاء عليها، هي عشرات الآلاف من الكتب ومئات المخطوطات. كما يتضح أن ما جرى للكتب الفلسطينية المنهوبة والمسروقة والمستباحة، وفق ما جاء في هذا الكتاب، خلال النكبة، وما قبلها وما بعدها، هو واحد من سلسلة خطوات ومراحل المحو للكيانية الفلسطينية التي عملت عليها الحركة الصهيونية، وأن  جوهر عملية المحو تلك هو "المحو الثقافي"، الذي وجدت فيه الحركة الصهيونية ضرورة من ضرورات إنشاء كيانها السياسي على الجغرافيا الفلسطينية، المشبعة بتراكم الحضارات التي مرت عليها عبر آلاف السنين، بلا انقطاع.
وفي ذلك صورة أخرى من صور النكبة التي لا بد من التوقف عندها، بالقراءة والتحليل والفهم، كركيزة من ركائز الرواية الوطنية، التي لا بد من توارثها عبر الأجيال حتى تعود الحقوق إلى أهلها.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 12 أيار، 201

إرسال تعليق Blogger

 
Top