0
حسام شاهين في روايته "زغرودة الفنجان":
الإسقاطات ذروة الخيانة.. العدو ليس أسطورة.. التراجع عن الخيانة اصطفاف مع الوطن
نُشر في القدس بتاريخ 20/05/2016، ص: 20
                                                         عزيز العصا
حسام زهدي شاهين؛
أسير فلسطيني، في سجون الاحتلال منذ العام (2004)، مولود في العام (1972) في قرية السواحرة الشرقية. ولأن الأسرى الفلسطينيين اعتمدوا استراتيجية تحويل أقبية السجون إلى منارات للعلم والمعرفة، فإن الأسير يقبض على ناصية الثقافة بإحكام، حتى أنه أصبح المصدر الموثوق الذي لا ينضب لكل شأن من شؤون الثقافة والمعرفة، والتي طورها مئات منهم حتى الحصول على الدرجات العلمية المتقدمة؛ الدكتوراة، والماجستير والبكالوريوس.
الأسير "حسام شاهين" واحد من الأسرى الذين قفزوا، رغمًا عن المحتل وقيوده، من أقبية العزل ووحشتها وظلمتها، إلى ساحات الوطن وشوارعه وأزقته وحاراته وباحاته، لكي يتابعوا همومه وقضاياه؛ بالكلمة المكتوبة ذات العمق الفكري النابض بالحياة الحرة الكريمة التي قضى شهداؤنا من أجلها، ويربض أسرانا في سجون الاحتلال ومعتقلاته وفي الظلمة الحالكة لزنازينه من أجل أن تشرق شمس الحرية لتنير دروب الأجيال القادمة.
قصدت بذلك التقديم لقراءة رواية كتبها الأسير "حسام شاهين"، وهو على "البرش"، لكي يحيل الألم إلى أمل بمستقبل مشرق بعد أن نحاكم الماضي بما فيه من أخطاء و/أو خطايا. كما أنني، في قراءتي النقدية، أؤمن بأن الكاتب وما يحيط به من ظروف، وما يمتلك من ثقافة ومعرفة، هو جزء من النص الأدبي؛ يؤثر فيه ويتأثر به.
إنها روايته «زغرودة الفنجان»، الصادرة عن الدار الأهلية في عمان، والتي تقع في (309) صفحات من القطع المتوسط، قدم لها الشاعر اللبناني "زاهي وهبي"، وقدم لها لوحة الغلاف ، وأسهم في تمويل طباعتها رجل الأعمال الفلسطيني "على شقيرات"، تبدأ بغلاف من إبداع الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد نصار، يتمتع بسيمياء تعطي القارئ وعدا ينتظره من خلال نص سردي متميز، فاللوحة تحمل إشارة سيميائية، تختزل شيئًا من المضامين الثانوية في الحكاية، عندما يتآزر اللون مع الكلمة في تشكيل الرسالة التي يسعى الكاتب إلى نقلها للقرّاء من مختلف الأعمار، ومن مختلف الشرائح المجتمعية.
قبل أن تلج في الرواية ينبؤك "حسام شاهين" بأن روايته هذه "مزيج من الحقيقة والخيال"؛ فأسماء الشهداء "حقيقية"، وما عداها يتراوح بين الحقيقة والخيال. ولعل في ذلك إشارة إلى ما يؤمن به الروائي، بأن أسماء الشهداء هي الثابت، وهو العناوين العصي على التغيير وعلى العبث بها، وهي غير قابلة للاهتزاز أو التمايل مهما اشتدت وعصفت رياح الاحتلال التي تسعى إلى تحقيق انتكاسة فكرية وعقائدية في نفوس الأجيال، فتبقى دماؤهم منارة تذكر ببطولاتهم وتضحياتهم وبالثوابت التي قضوا دفاعًا عنها.
 
بقراءة متأنية لهذه الرواية وجدتُني أمام ثيمة روائية، جوهرها الصراع القائم على أرض فلسطين بين المحتل المغتصب المتغطرس، وبين الشعب صاحب الحق، وما يتم استخدامه من أدوات ومنهجيات وآليات عمل في هذا الصراع. كما أن هناك إشارة إلى أن "العدو"، وبالرغم مما يمتلك من قوة وسطوة وآلات بطش، إلا أنه يعجز "تمامًا" عن ليّ ذراع الإرادة الوطنية، عندما تستعر في نفوس أبناء الشعب المقاتل، مهما ساءت الظروف.
تتكئ هذه الرواية على بنيتين رئيسيتين، هما:
البنية الزمانية؛ وهي الفترة الزمنية التي استعرت فيها انتفاضة الأقصى، واشتد أوارها بين عامي 2000 و2004، وما شهدته من أحداث جسام، قدم خلالها الشعب الفلسطيني تضحيات كبرى تمثلت بآلاف الشهداء والأسرى والجرحى، من مختلف الفئات العمرية والشرائح المجتمعية، ومئات المنازل المهدومة فوق رؤوس أصحابها.
البنية المكانية؛ وهي القدس، حيث مقر مخابرات الاحتلال والفندق الذي يتبعه والذي يتم استخدامه كمصيدة لتنظيم العملاء والجواسيس، والمدينة الملاصقة لها من الجنوب (بيت لحم)، وما فيها من قرى ومخيمات.
ووفق هاتين البنيتين قام "حسام شاهين" بـ (صهر) الأحداث للخروج بسرد نثري جميل، جاء بلغة عربية عميقة، تحمل ملامح الأصالة في مفرداتها ومعانيها، وجاءت الأحداث والمشاهد متسلسلة، وتتصاعد وتيرتها وتتأزم متسارعة نحو الذروة التي يبحث عنها القارئ، والتي ينبئ بها السرد، بما يجعل القارئ حريصًا على عدم مغادرتها حتى النهاية. وفي ذلك كله تكاد الرواية تخلو من الرمزيات، وإنما تراوح السرد بين الحقيقة والإيهام بالحقيقة، وفي كلتا الحالتين يجد القارئ نفسه مطمئنًا إلى أنه بصدد أحداث حدثت على الأرض، أو يمكن أن تحدث يومًا ما؛ عندما تتوفر لها الحاضنة الطبيعية لبذورها.
 وأما بالنسبة لشخصيات الرواية، فقد قام "حسام شاهين" ببنائها، بشكل مقنن، ولم يفرط في تعدادها؛ ووزعها كما يلي: الشخصيات التي شكلت الخيط الروائي، وبقيت على طول النص، حتى النهاية، وأخذت دور البطولة التي قام بها "مازن أبو قمحة"، ويصاحبه فيها "رحاب" وعمر و"مودي"، والشخصيات الرئيسية الأخرى التي كانت شخصيات صلبة، اخذت مساحة واسعة من النص، مثل: سمير وشقيقته سميرة، والشخصيات الثانوية الهشة التي تم توظيفها لأغراض استكمال المشهد، دون أن تكون فاعلة في النص.
لقد تميز السرد الروائي في هذه الرواية، بأن جعل القارئ يتمايل في علاقته مع شخصيات الرواية، كمن يسير على خيط مشدود؛ فما عدا الشخصيات ذات الصلة بالعدو، يجد القارئ نفسه تارة يتعاطف مع شخصيات الرواية وتارة أخرى يشعر اتجاهها بالغضب والحنق. وفي ذلك اعتراف واضح وصريح بالأثر الذي يتركه النص في نفس القارئ.
أما من حيث النص، فإنني أبدأ بتسجيل "اعتراضي" على التفاصيل الخاصة بالمشاهد "الجنسية"، التي أسهب فيها الروائي دون أن تزيد شيئًا إلى النص سوى بعض الترف الزائد الذي يمكن الاستغناء عنه، كما جرى مع سميرة ورحاب وليلى... الخ. في حين أنه عندما أورد ما تعرضت له سلمى، أشار إلى ذلك بما يمكن تسميته "فلاش" خاطفة وسريعة أتت أكلها بأقل الكلمات والمشاهد، وجاءت حصتها في السرد ذات أثر رائع في نفس القارئ. وما أود الإشارة إليه هنا أن التفاصيل "الموحشة" تثير الذعر في نفس القارئ، وتجعله يوسع المساحة السوداوية التي قد تكون مستقرة في ذاته منذ زمن.
علمًا بأنني أسجل للروائي القدرة على توظيف المشاهد لتأزيم الموقف، وجعل القارئ جزءًا من النص، عندما يتفاعل مع المشاهد، بما يدور في هواجسه من عوامل الغضب والحنق على مسار الأحداث التي يتحكم فيها مخابرات "العدو"، التي تستخدم العميل-المريض، أو تجعل جاسوسها "مسكونًا" بضده وضد شعبه وضد كرامته الشخصية والوطنية، الذي يسيّره على مدى نحو عقد ونصف العقد من الزمن. لا سيما وأن الروائي لم يكن جزءًا من النص، وإنما كان يحرك الشخصيات، ويدير الحوارات بينها بخيط رفيع غير مرئي.  
بقي القول
الروائي ليس مؤرخًا، وليس واعظًا، إلا أن النص الروائي، وبعد أن تغادر الرواية المطبعة، وتصبح بين أيدي قارئيها، تخرج من يد الكاتب (الروائي)، وتصبح ملك القارئ؛ فإما أن يحتضنها ويعيد قراءتها؛ لاستقاء المزيد من المعرفة، أو يلقي بها في مهاوي مكتبته إلى غير رجعة.
أما رواية "حسام شاهين" هذه، فإنني أرى بأن "فنجانها" سيبقى "يزغرد" كلما حان الحديث عن انتفاضة الأقصى، وما جرى فيها من أحداث. ليس لأن ما كتبه هو كتاب تأريخ لتلك الانتفاضة، بل لأن ما كتبه يتراوح بين الحقيقة والإيهام بها، وما بينهما من خيط رفيع يدركه القارئ الحذق، مما يجعل الأحداث والمشاهد الموصوفة في النص الروائي، مصدرًا للمعرفة حول ما جرى في تلك الفترة.
ولا أعتقد أن مؤرخًا لتلك الحقبة الزمنية التي عالجت الرواية أحداثها، يمكنه الاستغناء عن هذه الرواية في قراءته "الدقيقة" والمتمعنة لكيفية تنظيم العملاء والجواسيس وتأطيرهم في أطر "صلبة" شكلت خطرًا حقيقيًا على الثورة، وسبّبت خسارة لمقاتلين عنيدين محترفين، كان لخروجهم من المعادلة العسكرية بالغ الأثر على مسيرة تلك الانتفاضة. كما لا يمكن الاستغناء عنها في فهم، بل إدراك، الأثر الموجع والمؤلم الذي يتركه الإهمال الأسري للأطفال، والإلقاء بهم في أتون الفقر والفاقة، ليصبحوا صيدًا ثمينًا لمخابرات العدو تنهشهم أنيابه بسهولة ويسر. وكذلك، لا بد من الإشارة إلى ما صورته رواية "حسام شاهين" من تأثيرات الطابور الخامس من الانهزاميين والجبناء في نفوس الشرائح المختلفة من الشعب.
قبل أن أغادر، لا بد أن أترحم على الشهداء الأبرار الذين سقطوا على ثرى فلسطين الأبية دفاعًا عن الوطن، والذين تبقى أسماءهم حقائق راسخة ناصعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أتوجّه بالتحية إلى الأسير الروائي "حسام شاهين"؛ الذي تحلق روحه في فضائنا بحرية من خلال روايته هذه. وأما "مازن أبو قمحة"، فلا بد من الوقوف عنده بالكثير من القراءة والتحليل؛ لما تمتع به من قدرة على القفز من وحل العمالة المحيط به من كل الجهات، إلى عطر التضحية والشهادة، وما نجم عن ذلك من تحطيم "إمبراطورية" العملاء، مما شكل ثغرة "موجعة" في جدران الاحتلال الأمنية.   
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 01/03/2016م



 


إرسال تعليق Blogger

 
Top