0
جمال بنورة:
يوثق للأجيال.. يرسم ملامح بيت ساحور القديمة.. ويستحضر تراثًا كاد يندثر
عزيز العصا
                                                 http://alassaaziz.blogspot.com/                                                                                                                        aziz.alassa@yahoo.com
جمال بنورة؛ أديب فلسطيني، مولود في العام 1938، ابن بيت ساحور؛ المدينة الفلسطينية التي سبقت الكل في مواقف سوف تبقى شاهدًا لها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي كل تلك المواقف كان لـ "جمال بنورة" دور يشار له بالبنان. خاض غمار الأجناس الأدبية المختلفة؛ في القصة القصيرة والرواية والمسرح والنقد والفلكلور. وفي كل تلك الكتابات كان هاجسه الأول والرئيس تحرير وطنه، وتعميق الوحدة بين أبنائه. ولأن "جمال بنورة" صاحب فكر، فقد حمل على عاتقه التوثيق لما يشير إلى عظمة شعبه الطيب المعطاء في بلدته بيت ساحور، الذي التحم أفراده، مسلمين ومسيحيين (من جميع الطوائف) في مواجهة أعداء الوطن، حتى كانت بيت ساحور التي نراها الآن.
في مجال الفولوكلور، كان لـ "جمال بنورة" دراسة بعنوان: "أغاني العرس الفلسطيني"، في العام (1993). وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده الآن، فهو في مجال الفولكلور والتراث الشعبي الفلسطيني، المتمثل في دراسته الميدانية، بعنوان: "تاريخ ما لم يذكره التاريخ"، الصادرة عن "مكتبة كل شئ-حيفا" في طبعتها الأولى في العام (2016)، وتقع في (347) صفحة من القطع المتوسط.
تبدأ الدراسة بغلاف يتمتع بسيمياء تشوّق القارئ للدخول في (مغامرة) القراءة، وتعطيه وعدا مشوقًا ينتظره من خلال ما تحتويه تلك اللوحة التي رسمتها ريشة "طالب الدويك" من إشارة سيميائية، تختزل الكثير من المضامين الثانوية في الحكاية، والتي تلهب خيال القارئ وتغريه باقتناء العمل. إذ يأخذ الغلاف، شأنه شأن العنوان الجميل والمثير الذي اختاره "جمال بنورة" لدراسته، جانبًا كبيرًا من عناية القارئ، حيث يتآزر اللون مع الكلمة في تشكيل الرسالة التي يسعى إلى نقلها للقرّاء من مختلف الأعمار، ومن مختلف الشرائح المجتمعية.
لقد قمت، على مدى بضع ساعات، بقراءة هذه الدراسة، فوجدت الباحث وقد بذل من الوقت والجهد والتعب والنّصب، لكي يضع بين أيدي الأجيال ما يوثق لأجدادهم الذين تمتعوا بقدرة عالية على خلق أجواء من الفرح والسرور، من خلال الكلمة المغنّاة الراقصة. كما أنهم بالكلمة المغنّاة، أيضًا، واجهوا الحزن والأسى، فكانوا يعزفون اللحن الحزين في وصف الموت والمرض والكوارث، بما يجعله ذكرى تحفر في الذاكرة ما لا يمكن نسيانه.
توزعت الدراسة على سبعة فصول، تجول الباحث من خلالها في ربوع مدينته "بيت ساحور" العمرانية والتراثية التي تراكمت، بجهود الأجيال المتلاحقة، حتى أضحت على ما هي عليه الآن؛ مدينة متميزة تتربّع إلى جانب مدن فلسطين العزيزة على قلب "جمال بنورة". فقد أتحفنا الباحث، في الفصلين الأول والثاني، بمعلومات مهمة حول "بيت ساحور"، من حيث: الجذور التاريخية، والتطور العمراني، وملكية الأراضي، والثورة على الظلم والقهر والالتحام في وجه الأعداء الخارجيين، وتطور الحياة الاجتماعية للمجتمع المسيحي-الإسلامي، الذي لم يشهد أي شكل من أشكال الصراع بين الديانتين، سوى "القتل بالخطأ" الذي انتهى بالتحام العائلتين، بما يشكل مفخرة لا بد من التوقف عندها بالدراسة والتحليل.
ثم يُبحر "جمال بنورة"، في الفصلين الثالث والرابع، في استحضار التقاليد والأغاني الخاصة بالأعراس؛ فيما يخص العريس والعروس أنفسهما، وما يتعلق بهما من الأب والأخوة والأقارب والعائلة، بتلك الأغاني الموجهة للغيّاب والأسرى والمسافرين من أقارب العروسيْن. ويُتبعها بالأغاني الخاصة بالنجاح ونيل الشهادات العلمية؛ وما يعنيه ذلك من تفاخر بالعلم والإبداع والتفوق، وهناك أغانٍ تحتفي بالعمران والأبنية الجديدة والتطور، وتعزز الألفة بين أبناء المجتمع الواحد، وتنبذ الخلافات المجتمعية وتحتفي بالصلح بين المتخاصمين، بالقول: والحِمِد لله يا الله// زَلِن الهموم إنشالله.
كما يستحضر "جمال بنورة" الأغاني التي توثق لولادات الصبيان، وفي ذلك إشارة إلى أن المجتمع كان يفضل الذكور على الإناث ويحتفي بهم، ويوثق لهم، ومما تقوله النسوة: والحِمِد لله يا الله// أجا لفلان الصبيان.
ولعل أجمل ما يزيّن هذه الدراسة، تلك الأغاني التي توثق للمناسبات الوطنية الفلسطينية ولأبطال الثورة الفلسطينية عبر الحقب الزمنية المختلفة، ففي أبو عمار تقول المهاهاة: عَ جنب أبو عمار شباب مضمونة// اضرِب بسيفك وخلي عْداك مهمزومة. وهناك قصيدة مطوّلة توثق لعملية تفجير الوكالة اليهودية التي نفذها البطل "أنطون داود"، فتقول: أنطون داود هالهمام// هو اللي حط الألغام.
أما الفصل الخامس، فقد خصصه "جمال بنورة" للقصائد الشعبية، سواء القصائد الوطنية الجادة، أو تلك الطريفة المشبعة بالطرفة والفكاهة والسخرية الجميلة، التي كان قد ألّفها الشاعر الشعبي "إبراهيم الشوملي" (1895-1950)، التي تحمل عناوين: البس، والنعجة، والدجاجة. والشاعر الشعبي "جريس حنا إلياس قمصية/ المشني" صاحب القصائد الساخرة، التي يوثق فيها لعقد دار سالم قمصية، و"طيحة البحر"، وقصيدة أخرى عن "حمار موسى سليمان"، ومما يقوله فيها: الجحش فلت حاله// وصار ينادي عاشكاله. كما أن هناك قصائد غير معروف قائليها. وهناك مجموعة قصائد توثق للحرب العالمية الأولى، ولحقبة "السفربرلك"، التي كان فيها: حتى الصديق لصديقه فلا كان// حتى الخوي ما كان ينفع خويّه.
وأما الفصل السادس فقد خصصه "جمال بنورة" لوصف العادات والتقاليد الخاصة بالوفاة وما يتعلق بها من الإلان عن الوفاة، والإجراءات الخصة بالدفن والتعازي، وإكرام أهل المتوفى ومراعاة مشاعرهم طيلة فترة الحداد، التي تستمر لمدة عام كامل... الخ. ويستحضر الأغاني والأهازيج والمهاهاة التي تنعى الشهيد، والشاب الأعزب وهو على وشك الزواج، أو تلك التي تنعى الوجيه أو كبير العائلة، وكذلك نعي الأب والأم والأخ والزوج ومخاطبة الأرملة، ونعي الشخص الذي توفي نتيجة مرض، ونعي الطفل والفتاة (الصبيّة) أو المتزوجة. ويختم هذا كله بأن تقوم النساء بالندب والنواح على لسان الميت، كقوله: يا فلان وحياتي على حياتك// وتْوصى ابّناتي بين بناتك.
وأما الفصل السابع والأخير، وهو أقصر فصول الدراسة، فقد خصصه "جمال بنورة" للأمثال الشعبية، في مختلف المجالات، مع التوضيع بأن هناك أمثالًا تم بثّها بين الجمهور من قبل الإقطاعيين، لكي ينشئوا مجتمعًا خانعًا مستجيبًا للظروف التي تفرض عليه، كقول: "اللي بتجوز أمي هو عمي"، وقول: حط راسك بين هالروس، وقول يا قطّاع الروس. والأمثال التي تحمل نبرة التحدي والثورة على الواقع الفاسد، كقول: إن ما خربت ما عمرت، وإن ما عكرّت ما صفت. وغير ذلك من الأمثال الشعبية ذات الأبعاد الفكرية والفلسفية المختلفة. كما استعرض خمس قصص تحولت إلى أمثال، وهي: "ابن الحبيبة عدّى وخلاني، إبن العدوة عدّى وعدّاني"، و"البيش ع َ يوسف عيسى، والبيع عَ أندون"، و"جوّزني قبل ما يقوم القادم"، و"خذي ساحوري ولا تبوري" و"سفر حقيقي أم سفر جرايسة".
للمرأة نصيب من تلك الأمثال، فقد أشار "جمال بنورة" إلى الأمثال التي تعبر عن ثقافة المجتمع وفهمه للمرأة ومكانتها ودورها، والتي تتراوح بين ما يشير إلى الدور الهام للمرأة في اقتصاد الأسرة ومقدرتها على مواجهة ظروف الحياة، كقول: الزلمة جنّى والمرة بنّى، وقول: ريحة الأم بتلم، وريحة الأبو بتخم، وبين ما يثير الاشمئزاز، كقول: "موت وليتك من طيبة نيتك"، وقول: "إذا أجتك بنت إفلت سرتها"، وقول وقول: "دلّل إبنك بغنيك، ودلّل بنتك بتخزيك".
بقي القول،
يعد التراث، بأشكاله المختلفة من قصص وأمثال شعبية وغيرها وسيلة لاستعادة حضارتنا، وهو مادة نابضة بالحياة، تتسم بالديناميكية والنشاط، وأن هناك حاجة ماسة لاستحضار البيئة الشعبية التراثية، ليس لمجرد الاستذكار واستحضار الماضي، وإنما بغرض التثقيف وتوعية الأجيال اللاحقة بما فعله السلف وما أنجزوه، برغم سوء الأحوال وضيق اليد، وتوفير مادة للروائيين لتوظيفها في الأعمال الروائية، كالألعاب الشعبية؛ التي تمكن الشخصية الروائية من تسرية الوقت، والتغلب على ندرة وسائل الترفيه، مثل: السيجة، والكوتشينة، وطاق طاق طاقية، ونط الحبل... الخ.
هذا ما قام به "جمال بنورة" في دراسته هذه، فقد وفّر بين أيدينا دراسة متعددة الأغراض والاستخدامات والفائدة. وأنه على كل منا أن يمتلكها؛ لكي يتصفحها بين الحين والآخر، ففيها نبض الماضي الجميل، وروعته وقيمه ومثله العليا، وفيها الحاضر المرتبط بحبلٍ سرّي؛ يتغذى على ما روث من تلك الحقب، وإن تطورت الحياة ودخلنا عالم الحضارة المعاصرة. كما أن الماضي الذي أعادنا إليه "جمال بنورة" هو مرآة المستقبل؛ لما فيه من ثوابت تتعلق بالسلم المجتمعي والعادات والتقاليد الحميدة التي علينا تعزيزها وتطويرها وجعلها من المكونات الأساسية لثقافة أبنائنا.     
قبل أن أغادر، أود الإشارة إلى أن "جمال بنورة" قد أبدع وأجاد في توفير هذه الدراسة المشبعة بمحتوى يشير إلى دراسات أخرى، يجب على جامعاتنا وباحثينا وعلماء الاجتماع العودة إليها، بالقراءة وإعادة القراءة، لما سيجدون فيها من قضايا لا بد من إخضاعها للنقاش والبحث، كتلك الأمثال والمعتقدات المتضاربة حول المرأة التي تتأرجح بين تمني موتها وبين النظر إليها على أنها إكسير الحياة. الأمر الذي يتطلب حراكًا جادًا من أجل استئصال الأمثال السيئة-السلبية من ثقافة الأجيال اللاحقة، مع ضرورة المحافظة عليه في الأرشيف؛ لتشير إلى حقبة ما ساد فيها التخلف والجهل.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 18/02/2016م


إرسال تعليق Blogger

 
Top