ثمانمائة وعشرون عاماً على رحيل أحد رواد الفلسفة العقلانية
"إبن رشد"
د. وليد الشوملي
صادف العاشر من شهر
ديسمبر/ كانون أول الجاري الذكرى الثمانية مئة والعشرين على رحيل حكيم قرطبة، وأحد
رواد الفلسفة العقلانية الفيلسوف الأندلسي
"إبن رشد".
ولد القاضي أبو الوليد
محمد بن أحمد بن رشد في قرطبة بالأندلس – جنوب إسبانيا حالياً- عام 1126 ميلادي
لأسرة مثقفةً ولها باع عظيم في الفقه والسياسة والقضاء، فكان جده أحد كبار الفقهاء
وقاضي قرطبة.
كان الخليفة أبو
يعقوب يوسف شغوفاً في الفلسفة، فطلب من ابن طفيل القيام بشرح فلسفة أرسطو وتفسيرها،
إلا أن هذا الأخير اعتذر للخليفة لكبر سنه
ولإدراكه ثقل المهمة التي سيضطلع بها. فانتدب عنه للقيام
بتلك المهمة ابن رشد الذي يحسن علم الكلام والفقه وآداب اللغة العربية والطب،
بالإضافة إلى إلمامه إلماما كبيرا
بالفلسفة والمنطق، فنال ابن رشد إثر ذلك حظوة لدى الخليفة الذي أولاه منصب قاضي إشبيلية، فمكث فيها سنتين ليعود بعدها
إلى قرطبة متوليا فيها منصب قاضي القضاة، ثم الطبيب الخاص للخليفة.
إلا أن الدهر انقلب
على إبن رشد بعد وفاة الخليفة وتولي ابنه المنصور أبو يوسف بعده، إذ وشى به الفقهاء
وعلماء الكلام عند الخليفة، وحرفوا بعض آرائه وكفروه، فما كان من السلطة السياسية
المتمثلة في الخليفة إلا أن تحالفت مع السلطة الدينية، فعزل، وأحرقت كتبه إرضاءً
لأولئك الفقهاء الحاسدين، ثم جاء عام 1197م فعفا عنه الخليفة وأكرم مثواه وانبرى الخليفة
نفسه يقرأ الفلسفة، إلا أنّ ابن رشد لم يهنأ بذلك؛ فقد اشتد عليه المرض، وتوفي بعد
عام من عفو الخليفة عنه في مراكش حيث دفن هناك لمدة ثلاثة أشهر، ثم نقلت رفاته بعدها إلى قرطبة منارة العلماء ليدفن
فيها.
يعد ابن رشد -أو
المعلم الثاني- أعظم شارح لأرسطو الذي كان يدعى ب "المعلم الأول" إلاّ
أنّ عمله لم يقتصر على شرح أرسطو، بل انتهج نهجا خاصاً به مؤكداً أصالته الفكرية
وتفرده المعرفي. وقد بين من خلال دراسته لفلسفة
أرسطو أن المترجمين العرب الذين نقلوا فلسفة أرسطو إلى العربية ولخصوها شوهوا بعض أفكاره وآرائه. ويرجع الفضل لابن رشد
أنه جعل أرسطو أكثر الفلاسفة اليونانيين شهرة وصفاء في أوروبا. إذ لم يكن أرسطو
معروفا معرفة واسعة في أوروبا قبل ابن رشد.
أشهر ما كتبه ابن
رشد كتابان: الأول بعنوان " فصل
المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" في علم الكلام،
والثاني بعنوان " تهافت التهافت" في
الجدل الفلسفي الذي يرد فيه على كتاب أبي حامد الغزالي "تهافت الفلاسفة"
الذي هاجم فيه الفلاسفة وكفرهم.
كان ابن رشد أول
فيلسوف مسلم يتخذ البرهان العقلي ( الذي اتخذه الأوروبيون من بعده أساسأً لبناء
حضارتهم) في التوفيق بين الحكمة والشريعة أي بين
العقل والوحي. لقد عارض فلسفة ابن رشد- بالإضافة إلى العرب والمسلمين-الكثير من
اللاهوتيين الأوروبيين مثل القديس الشهير توما الإكويني، إلاً أن هذا الأخير اضطر
للاتفاق معه في مسألة التوفيق بين العقل والإيمان في نهاية المطاف.
من غريب الطالع أن
ابن رشد اشتهر في أوروبا أكثر منه في العالمين العربي والإسلامي اللذين أقفل فيهما
باب الاجتهاد بعد ابن رشد، فقد قال المفكر الجزائري الراحل محمد أركون "لقد
بات الاجتهاد في الإسلام في سبات عميق إثر
موت ابن رشد".
أكد المعلم الثاني
على إعمال العقل من أجل فهم النص الديني، فلا بد من التوفيق بين أطر العقل الفكرية
والنقل بما يحتويه من العقائد والشرائع التي تبدو في مظهرها تناقض العقل، وله
مقولة مهمة في هذا المجال "إن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها" وهذه دعوة واضحة
إلى التأويل النصي الذي يرتكز على ركائز علمية.
رفض ابن رشد أن
تكون الفلسفة في متناول الجميع، بل لمن استطاع إليها سبيلا. فقسم الناس إلى ثلاث
فئات حسب قدرتها على الإدراك والتأويل:
الفئة
الأولى: فئة الفلاسفة أو البرهانيون الذين لديهم القدرة على إدراك الأدلة
البرهانية العقلية .
الفئة الثانية: فئة علماء الكلام (أي الجدليون)
وهم أقل مرتبة من الفلاسفة لأنهم يدركون الأدلة الجدلية والتناقضات التي تظهر بين
العقل والنص الديني إلاّ أنهم يفتقدون البرهان فيعجزون عن التوصل إلى حل سليم
ومنطقي.
الفئة الثالثة: فئة الجمهور ( أي الخطابيون) وهم عامة الناس الذين يتبنون النص الديني حرفياً
ويحرمون النقاش فيه أو التأويل ليتوافق مع التصورات العقلية.
أخيراً، لا بد لنا
إلاً أن نسترشد بمنهجية ابن رشد في إعمال العقل وفي إدراك الأدلة البرهانية
العقلية ليتسنى لنا فهم النص الديني فهما صحيحا بعيداً عن التطرف والانغلاق
الفكري.
21 ديسمبر 2018