خليل شوكة في "جولة في تاريخ مدينة بيت جالا":
العثمانيون في عهد الإصلاح يسمحون بإنشاء الكنائس والمدارس.. والبيتجاليون
يقاومون الانتداب البريطاني
نشر فيس القدس بتاريخ 10/05/2016، ص: 20
قراءة: عزيز العصا
صدر مؤخرًا كتاب بعنوان: "جولة في تاريخ مدينة بيت
جالا"، من إعداد الأستاذ "خليل شوكة"،
وبدعم من عدد من المؤسسات. يقع الكتاب في (71) صفحة من الورق المصقول ومن القطع
الكبير، تتخللها (33) صورة ذات دلالات تعبيرية وتاريخية مرتبطة بالنص الذي قام
عليه الكتاب، وثلاث خرائط خاصة بمدينة بيت جالا: القديمة والحديثة.
يضم الكتاب، الذي قدم بدأه الأستاذ "شوكة" بمقدمة مستندًا إلى مقولة "التراث
والتاريخ هما ذاكرة الأمة"، ستة عشر عنوانًا، بدءًا بموقعها الكائن إلى
الغرب والشمال الغربي من مدينة بيت لحم، ثم جذور التسمية وفق ما جاء في المصادر
والمراجع التي تعود إلى مؤلفيها من الرحّالة الأجانب والعرب. وفي وصفه لحياة أهالي
بيت جالا والتطور السكاني والديموغرافي والعمراني والإداري والاقتصادي والاجتماعي،
يتوقف الكاتب مطولًا عند الحقبة العثمانية، يتبعها بمرور سريع عن حقبة الانتداب
البريطاني، ومرور خاطف عن حقبة الاحتلال الحالي تتعلق بالأراضي التي صادرتها
الدولة العبرية وأثر جدارها للفصل العنصري على هذه المدينة الوادعة الجميلة.
إن القراءة المتمعنة لهذا الكتاب، تضع القارئ أمام
مجموعة من الحقائق التاريخية التي مرت بها مدينة بيت جالا، منها:
أولاً:
جولات الرحالة: بيت جالا كنعانية.. تكسوها الأشجار.. واختلاف على جذور التسمية:
عندما استعرض "شوكة" ما كتبه
الرحالة الأجانب والعرب عن "بيت جالا"، نجد أنهم يشيرون إلى أنها مدينة كنعانية، وهي مسيحية
الطابع لانتشار الكنائس فيها، وأنها من أجمل مناطق القدس وأغناها زيتًا. ولكثرة
أشجارها من الزيتون والمشمش، احترف أهلها بيع الحطب وصنع الفحم. وأما بشأن التسمية
الأولى التي جاء منها الإسم الحالي، فإنها تعود إلى "جاليم". وهناك من
الرحّالة من قال أن معنى بيت جالا "بيت المواكب والأفراح والأعراس
والرقص".
ثانيًا: في الفترة العثمانية: يصيبها ما يصبب الفلسطينيين.. وتعمّق طابعها
المسيحي
يصف "خليل شوكة"
أوضاع أهالي بيت جالا على مدى (350) عامًا في العهد العثماني، اعتباراً من العام
1536م، بالاستناد إلى ما وصفه "الأرشيف العثماني الغني بالمراجع والمصادر
والسجلات والأوراق الموثقة لمواضيع متنوعة وفرامانت ومراسيم سلطانية... الخ، تحوي
معلومات دقيقة ومفصلة عن أوجه الحياة المختلفة، والتي يمكن اختصارها بما يلي:
1. وجود الأمن ونظام للشكاوى والمعالجات: إذ تشير الوثائق إلى أن أهالي بيت جالا كانوا يتقدومن بشكاويهم إلى
القاضي الشرعي في القدس، ولا يقتصر ذلك على شكاوى المواطنين فيما بينهم، وإنما تصل
الشكاوى إن أن تقدم ضد "المتولي على الوقف السلطاني". ويتم الاستماع إلى
الشكاوى وعقد المحاكمات والاستماع إلى الشهود. وفي ذلك إشارة إلى شئ من العدالة
التي كانت سائدة بحق المواطنين في تلك الحقبة. كما أن الدولة توفر القواسين؛ الذين
وظيفتهم الحفاظ على استتباب الأمن في القرية.
2. الضرائب والفساد يطبقان على عنق الشعب؛ إذ يشير "شوكة" إلى
أن سياسة الدولة العثمانية كانت تقتضي قيام الفلاح بالتصرف وزراعة الأراضي مقابل
الحصول على عوائدها ومحاصيلها، ثم جباية الضرائب منهم بنسب تحددها الدولة. وفي
نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، أصبحت الضرائب أكبر من أن تحتمل،
عندما أصبح الفلاح يدفع ثلث محصوله للدولة؛ فهجر الفلاحون أرضهم، وخربت الأراضي
والمزارع وانتشر الفساد الإداري.
3. حقبة إبراهيم باشا وثورة الفلاحين عليه: فقد خصص "شوكة" مساحة
جيدة من كتابه هذا للحقبة التي احتل فيها ابراهيم باشا فلسطين من العثمانيين، في العام
1831م، حيث تم استقباله في البداية لاعتقاد الفلسطينيين بأنه جاء منقذًا للبلاد
والعباد من الظلم والجوْر والفساد، ثم كشر عن أنيابه عندما شرع بجمع السلاح من
المواطنين، وفرض الضرائب المختلفة، مثل ضرائب: الفردة، والشونة، والدخولية وغيرها.
فثار عليه الشعب الفلسطيني والتحم الفلاحون معه في اشتباكات دامية، وكان نصيب بيت
جالا كما جرى مع غيرها من المدن والقرى من قتل وتدمير واعتقالات... الخ، حتى غادر
إبراهيم باشا البلاد بعد تسع سنوات.
4. إصلاحات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنعكس على
بيت جالا: يشير "شوكة"
إلى حركة الإصلاح التي شهدتها البلاد بعد استعادتها من ابراهيم باشا. بدءًا
بفرمان "كولخانة"[1]
عام 1839، الذي نص على: ضمان الأمان لجميع رعايا الدولة والمساواة بينهم، والقضاء
على الرشوة والفساد في أجهزة الدولة. وفي العام 1856 تم الاعتراف بجميع الطوائف
والملل والأقليات الدينية، ثم نظام ملكية الأراضي، وغير ذلك من القوانين
الإصلاحية. إلا أنه أجاز حق التملك للأجانب في الدولة، وسمح بفتح القنصليات
الأجنبية (الأوروبية والروسية). وهنا لا بد من التوقف عند ما أصاب بيت جالا من تلك
الإصلاحات، مثل:
1) شيدت كنيسة البشارة عام 1858، ثم شيد قربها ديرا يحوي
معهدا لاهوتيا، وأضيف إليها بيتا صيفيًا.
2) متصرف القدس (رؤوف باشا) يوافق على إقامة كنيسة مع عدة
أبنية للطائفة البروتستانتية في بيت جالا (كانوا 116 شخصًا).
3) تم في العام 1862 بناء كنيسة العذراء على نفقة دير القبر
المقدس.
4) في العام 1878 تأسست مدرسة الراهب أنطونين.
5) في العام 1887 تأسست المدرسة اللوثرية.
6) في العام 1890 شُيّد دير الرهبنة الإيطالية (الكريمزان).
7) في العام 1909 شُيّد دير الروم الأرثودكس.
5. بحلول الحرب العالمية الأولى تحل الكارثة: لقد دفعت فلسطين ثمنًا باهظا في تلك الحرب (1914-1917)، فكان نصيب-ن منطقة بيت لحم وبيت جالا قطع نحو (30,000) شجرة،
وهروب الرجال من الخدمة الإجبارية، وانتشار مرض الكوليرا. فشرع أهالي بيت جالا
بالهجرة إلى بلدان العالم المختلفة، وهذه الهجرة لم تتوقف أيام الانتداب البريطاني
ولا أيام الحكم الأردني واستمرت حتى ما بعد النكسة في العام 1967.
ثالثًا: بيت جالا تقاوم الانتداب البريطاني
والاحتلال الاسرائيلي
مع دخول الانتداب الانتداب البريطاني إلى فلسطين، أصاب بيت جالا بعض التحسن
الاقتصادي والتقدم والتطور العمراني، إلا أن أهالي بيت جالا بدأوا، كغيرهم من
مثقفي الشعب الفلسطيني، يستشعرون خطورة المخططات البريطانية بإقامة وطن قومي
لليهود في فلسطيني، فهبّوا إلى جانب شعبهم يقاومون الاحتلال البريطاني ودفعوا
الثمن غالياً من حياة أبنائهم، ومساكنهم واستقرارهم. واستمر أهالي بيت جالا، حتى
اللحظة، في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي إلى جانب أبناء شعبهم، علمًا بأن بيت جالا
دفعت ثمنا باهظا من أراضيها التي صادرتها سلطات الاحتلال، أو تلك التي التهمها
جدار الفصل العنصري.
لقد تمكن "خليل شوكة"
في كتابه هذا من تزويد القارئ بمعلومات معمقة تصف الملامح الرئيسة لمدينة بيت جالا
عبر الحقب التاريخية المختلفة، مع تركيزه الواسع على الحقبة العثمانية، حيث تطرق
إلى طبيعة المشاكل والقضايا التي عايشها الأهالي، وذلك كما دونت في سجلات محكمة
القدس الشرعية، مثل: قضايا النزاع على الأراضي، وعدم التعرض للناس والرحالة، وموضوع
ترك الطائفة، ووثائق التعهد والإقرار وغيرها، والتي يستشف منها أن أهالي بيت جالا
لم ينفصلوا عن مجتمعهم الفلسطيني الذي يشكلون جزءًا من نسيجه. إلا أن هناك ميزات
حظيت بها بيت جالا ذات الطابع المسيحي، لم تتحقق لباقي جغرافية الوطن ذات الطابع
الإسلامي، وذلك عندما أتت الإصلاحات التي أعلنتها الدولة العثمانية أكلها بالسماح
ببناء العديد من الكنائس والمدارس، التي وفرت لأهالي بيت جالا فرص التعلم والتطور
أكثر من غيرهم من أبناء القرى المجاورة.
كما أن هناك جانبًا مشرقًا في هذا الكتاب لا يمكننا القفز عنها، وهو ما
يتعلق برجال الفكر والأدب في بيت جالا، الذين قام "خليل شوكة" باستعراض شيئًا من حياة كل
منهم، بما يشكل أنموذجًا للأجيال التالية، بأن أجدادهم قد أبدعوا في مواجهة شظف
العيش وقسوة الحياة، فلم يكلوا ولم يملوا ولم يستسلموا. وفي هذا الجانب أدعوا إلى
إعادة تسليط الضوء على أولئك الرجال عبر الندوات والمؤتمرات والورش، بخاصة العالم
البيتجالي "د. توفيق كنعان" المبدع، المولود في العام 1882، الذي له
عشرات الأبحاث والمقالات في الطب والفولوكلور الفلسطيني، والذي أمضى ما تبقى من
حياته بعد النكبة في غرفة ملحقة بكنيسة القيامة حتى وفاته في العام 1964م.
بيت لحم، العبيدية، 29 نيسان، 2016
[1] أصدره السلطان عبد المجيد، الذي بذل جهدا ونشاطًا
معتمدًا على الخبراء والمستشارين الأوروبيين لتنفيذ الإصلاحات (ص: 33).
إرسال تعليق Blogger Facebook