من الشيخ عز الدين القسّام إلى المطران
هيلاريون كبوشي:
سوريا ترفد "فلسطين" بالقادة
التاريخيين
نشر في
صحيفة القدس، بتاريخ: 10/01/2017، ص: 16
عزيز
العصا
مقدمة
لم تكن الادعاءات "الدينية" هي السبب وراء اختيار فلسطين لإعلان
الدولة العبرية على أرضها، وإنما يعود السبب الحقيقي والوحيد إلى إنشاء رأس حربة
للاستعمار على أرض فلسطين التي تتحكم في جغرافية ثلاث قارات في آن معا، وهي: آسيا
وأفريقيا وأوروبا، وما يتبع ذلك من السيطرة على شبكة الطرق البرية والبحرية في
المنطقة. أضف إلى ذلك أن وجود كيان قوي معادٍ في فلسطين يضمن استمرار الفصل
"التام" بين مغرب الوطن العربي ومشرقه، كما يضمن استحالة وحدة مصر
وسوريا بالذات. وهناك مبررات وأسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
لقد أدرك ذلك، مبكّرًا، كل أحرار الأمة ومفكريها، فبدأت حالة التململ تظهر
منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، إبّان الحكم العثماني، وما إن غزا
البريطانيون البلاد حتى ارتفعت وتيرة الحيطة والحذر من قادم تلك الأيام. فهبّ
أبناء فلسطين، بما يمتلكون من أبسط الوسائل والأدوات والمعدات، يقاومون الغزاة
الجدد ويحاولون إعاقة المشروع المذهل الذي قرؤوا خطوطه العريضة والدقيقة من خلال
مضاعفة أعداد القادمين من خلف البحار من اليهود، والذين أخذوا يتحكمون في الزراعة
والصناعة وينشئون المدارس والمعاهد، والتي توجت بالجامعة العبرية. وما تبع ذلك من
إعداد واستعداد وتجهيز حتى أعلن عن قيام "دولة إسرائيل" ذات الدور
والسمات الموصوفة أعلاه.
منذ ذلك الحين، بدأ الصراع على أرض فلسطين بشكل خاص، وعلى امتداد الوطن
العربي بشكل عام، يأخذ منحى جديدًا واضح المعالم؛ وهو الصراع بين الحركة الصهيونية
ومن يقف وراءها من جانب، والفلسطينيين الذين تجرعوا مرارة التشرد والضياع ومن يقف
معهم من أحرار الأمة من جانب آخر. وهكذا؛ كانت الأرض العربية المحيطة بفلسطين:
سوريا، ومصر، والأردن ولبنان والعراق، ومن ينتمي إليها من الأحرار الرافضين
للاحتلال، تشكل الرديف والسند للشعب الفلسطيني في معركته المصيرية دفاعًا عن وجوده
وهويته.
لضيق المجال، ولضرورات التركيز على المناسبة التي نعيشها، فإن الحديث سوف
ينصب على دور سوريا التاريخي في القضية الفلسطينية، متخذين مثالًا حيًا على ذلك
مما قام به اثنان من أبناء سوريا في هذا الشأن، وهما: الشيخ
عز الدين القسام والمطران هيلاريون كبوشي،
اللذان يفصل بينهما نحو أربعين عامًا من الزمن.
عز الدين القسام: يغادر سوريا.. يستشهد في
فلسطين.. فيفجّر ثورة توجع الاحتلال البريطاني
عز الدين القسام هو ذلك
السوري المولود في العام (1883)؛ أي أنه فتح عينيه على على الدنيا في أجواء الموجة
الأولى من المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين()،
حيث بدأ
28,000 يهودي بالاستيطان في فلسطين، معظمهم من أوروبا الشرقية().
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى وأخذ الفرنسيون والبريطانيون يمزقون الأرض
العربية تنفيذًا لاتفاقية سايكس-بيكو المشؤومة، حتى قاومهم القسّام، وعندما ضيقوا عليه الخناق في سوريا
انتقل إلى حيفا التي يسيطر عليها البريطانيون.
بدأ القسّام في العام 1925 بتشكيل
حركة القسام الثورية، بشرط أن يقتني
المنتسب سلاحه من ماله الخاص، وفي أواسط هذا العام بدأ تنظيم القسّام بعملياته المسلحة، وفي فجر 20/11/1935 نشبت معركة مباشرة بين القسّام
ومجموعته مع القوات البريطانية انتهت باستشهاده وعدد من رجاله رحمهم الله، كما أسفرت عن
اعتقال عدد آخر ممن قاتل إلى جانبه. ثم أصبح القسام رمزًا لكل
فلسطيني حر. وقد كان لتلك الحادثة الأثر الأكبر في اندلاع الثورة
الفلسطينية الكبرى عام 1936م التي كان من بين
فعالياتها الإضراب الشهير الذي عمّ الأراضي الفلسطينية والذي ترك أثرًا مريرًا ومؤلمًا
لدى الاحتلال البريطاني ومن يصطف معه، كما كانت تلك الثورة مفصلية في مسيرة الحركة
الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.
هيلاريون كبوشي: يولد في حلب.. ويؤسر في
فلسطين.. ويقضي في منفاه مدافعًا عن القدس
عندما كان القسّام-السوريّ في
ريعان شبابه يجوب فلسطين محرّضا على قتال المحتلين، وفي أجواء تجميل الاحتلال
البريطاني وتحويله إلى "انتداب!" في العام 1922 ولد سوري آخر في حلب
الشهباء؛ المدينة السورية التي تتكلم أرضها وجبالها الشماء العربية الفصحى بل
الفصيحة التي ترى في العروبة الموحدة المتماسكة الأمل في تحرير الأرض والتخلص من
ظلم المستعمرين والطغاة، إنه "هيلاريون كبوشي"
الذي كبر وترعرع في الكنيسة السورية حتى أصبح في العام (1965) "مطرانًا"
لطائفة "الروم الملكيين
الكاثوليك" في القدس خلفًا للمطران "جبرائيل أبو سعدى" الذي كان
عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني.
وللمطران كبوشي تنحني الهامات احترامًا، وتميّزه الدول وتكرّمه عندما يجتاز
حدودها. فكان له حظوة مجاملة من "الاحتلال الاسرائيلي"، عند عبوره الحواجز
إلى فلسطين بالتساهل في تفتيش سيارته وأمتعته. ولأن "المطران كبوشي" صاحب فكر حر، فلم يركن إلى
تلك المجاملات والابتسامات الصفراء التي يلاقيه بها جنود الاحتلال وضباطه
ومخابراته ورجال أمنه، بل قرر أن يتمنطق بسلاح الثورة والثوار؛ بأن قام باستثمار
تلك التسهيلات لإدخال السلاح إلى أرض فلسطين، بكل شجاعة ورجولة وإباء، وهو يعلم
حجم الأذى والعذاب الذي سيتعرض له.
عندما انكشف أمر "المطران كبوشي"
بنقل الأسلحة عبر الحدود الفلسطينية الأردنية، اعتقل في شهر آب من العام (1974)، فكان
المطران صلبًا غير مبال لغضب الاحتلال، على المستويات الرسمية والشعبية، ولا نادم
على ما فعله؛ لقناعته التامة بأنه جزء لا يتجزّأ من معركة تحرير فلسطين، وليس مجرد
مؤازرٍ أو مساندٍ لها. حكم عليه (12) عامًا، أمضى منها في الأسر أربع سنوات منظرًا
للثورة الفلسطينية التي تبين أنه انتمى إليها مبكرًا منذ رصاصتها الأولى في العام
1965، حتى تم نفيه إلى إيطاليا في شهر تشرين الثاني من العام (1978) بوساطة من
بابا الفاتيكان.
هكذا؛ أصبح "المطران كبوشي"
رمزًا دينيًا وقوميًا يذكّرنا بعمقنا العربي بشكل عام، وبعمقنا السوري الضارب في
عمق التاريخ، وظل صوته يعزف لحن التحرر من ربق الاحتلال، ولحن توحيد حالة الفتات
التي خلفتها القوى الاستعمارية في المنطقة عبر المائة عام الأخيرة من الزمن. وأما
على مستوى علاقاته الشخصية، فقد قدر لي أن ألتقي المرحوم الدكتور "أمين
الخطيب الكناني" في بيته في أواخر العام 2014، فأتحفني بالحديث عن مكالمة جرت
معه من قبل المطران كبوشي يشدّ فيها من أزر صديقه "الخطيب" ويحثه على
النهوض، ويمازحه بقوله:
"يا د. أمين شدّ حيلك وانهض، ولا تستجب لـ "إملاءات الشيخوخة"،
فها أنا بعمر تسعين عامًا ونيف ولست قلقًا وأعيش حياتي العادية دون التوقف عن
العمل والإنتاج".
لقد قرأت من تلك المحادثة أن هناك صوتًا عروبيًا سوريًا-فلسطينيًا قويًا يصدح
بالأمل والمحبة والإصرار على تحرير الأمة من براثن الاحتلالات بمختلف أوجهها
وأشكالها ومستوياتها، ولا تثنيه الشيخوخة والغربة عن السير قدمًا في ذلك الاتجاه.
في أوائل تموز من العام الماضي (2016) التقيت الصديق "جابريئيل عبد
الله" الذي حثّني على ضرورة السفر إلى إيطاليا لمقابلة "المطران كبوشي"، فشرعت بالترتيب لتلك
الزيارة التي لقيت الترحيب من قبل السفيرة الفلسطينية في إيطاليا الأخت "مي
كيلة"، والسيد "يوسف سلمان" صديق "المطران كبوشي"، لتحقيق تلك المقابلة وإطلاع القارئ
الفلسطيني على آراء وأفكار ورؤى قائدهم التاريخي. إلا أن ما أعاق تلك الخطوة
التكلفة المالية للرحلة إلى إيطاليا والعودة.
الصحفي "المخضرم" يوسف نفّاع:
يتحدث عن المطران كبوشي.. ويسبقه إلى الثرى بشهر
في خطوة جادة على طريق تحقيق ذلك هدف مقابلة المطران قمت، وبرفقة الصديق
"جابرييئيل"، بمقابلة الصحفي المخضرم ومختار الروم الكاثوليك المرحوم "يوسف نفّاع" في 17/08/2016م. لقد تشعبت الأحاديث مع
"نفّاع"، إلا أن ما يهمنا هنا شهادته المتعلقة بعلاقته بسيادة "المطران كبوشي" وما يعرفه عنه من معلومات
على المستوى الشخصي؛ بحكم علاقتهما كقياديين للطائفة الكاثوليكية.
لقد أكد المرحوم "نفّاع" أن "المطران
كبوشي" كان
يوظف الامتيازات التي يحظى عليها كمطران بنقل الرسائل والمعونات (العسكرية) عبر
الجسر الذي يعبره عادة إلى فلسطين, وبعد فترة التفتت أجهزة الأمن الاسرائيلية الى الأمر، وأخذت تلاحق
تحركات المطران. ويروي "نفّاع": في يوم ما من العام 1974 سهرنا
عنده، فكان يشعر بالقلق، وبعد ذلك دوهمت
الكنيسة وتم فتيش سيارته الخاصة، فعثروا بداخلها على أسلحة، ثم اعتقل إلى أن تم
نفيه وفق القصة المعروفة والمتداولة، كما اعتقل معه عدد من شباب الطائفة وهم من
عائلة الملاعبي.
واستطرد
"نفّاع" في حديثه عن "المطران كبوشي-الأسير"، فقال: في
الأيام الأولى لاعتقاله، دخلنا إلى السجن لمتابعة أمور "المطران كبوشي"، فلمحناه وهو عند المخابرات, وقد أسيئت
معاملته. وكان رد المطران على ذلك بأن أضرب عن الطعام عدة مرات، وقام من في الخارج
بأداء الصلوات التي رفعت من قبل جميع الطوائف والضغوطات والمناشدات والمظاهرات.
وأفاد
"نفّاع" بأنه زار "المطران كبوشي" مرتين في
أسْرِه، حيث تم تسهيل ذلك بصفته الصحفية، وسلّمه بعض الهدايا بما فيها
السجائر والفستق الحلبي لأنه لم يتم تفتشيه, فقال له "المطران كبوشي": متى نخلص من عزرائيل
وأبنائه؛ في إشارة إلى إسرائيل. وفي المحكمة، كان "المطران كبوشي" يتمتع بشخصية قوية، وفي
أكثر من مرة حاول انتزاع الصولجان الخاص
به ليهدد به القاضي.
من جانبٍ آخر، أشار "نفّاع"
إلى أن الاحتلال اشترط على "المطران كبوشي" عدم التواصل مع القدس وهو في منفاه، إلا
أن المطران كان خطيبًا ماهرًا, وكان للقدس مكانة خاصة عنده، فاستمر في قيادة
المظاهرات لصالح القضية الفلسطينية وللقدس على وجه الخصوص.
وفي الجانب السياسي
أكّد "نفًاع" أن "المطران كبوشي" كان بعثيًا (قبل أن يلتحق بحركة فتح)،
كما أكد أنه هو شخصيًا انتسب لحزب البعث على يد
المرحوم "بهجت ابو غربية" وكان معه "إبراهيم سكّجها".
ولم يسمح لنا "نفّاع" بالمغادرة قبل أن يوصي "كل من يقابل "المطران كبوشي" بنقل
سلامه له وتقبيل يديه".
كلمة وداع
لقد تدخل القدر، وكانت إرادته سبحانه أن لا تتم
مقابلة "المطران كبوشي" الذي
انتقل إلى بارئه في 01/01/2017م، قبل أن أتمكن من الوصول إلى روما ومقابلته، كما
لم يتم نقل سلامات "يوسف نفّاع" الذي انتقل إلى بارئه في 27/11/2016،
والذي أتقدم إلى زوجته الكريمة "أم نصار"، التي كانت إلى جانبه أثناء
المقابلة، وأنجاله بالتعازي الحارة.
وفاءً لسوريا منجبة الأبطال والقادة والثوار
الذين ركّعوا المستعمرين وطردوهم من بلادهم شر طرد، وتأكيدًا على الشأن الرفيع
الذي يكمن فينا، نحن الفلسطينيون، لكل من يصطف معنا من أبناء الأمة، نجد أنفسنا
ونحن نرثي "المطران كبوشي"
ونعدد مناقبه ونوثق له سيرته ومسيرته الثورية الرافضة للظلم أيًا كان مصدره، ضمن
هذا السياق التاريخي، دون أن نفصله عن ابن سوريا الخالد في نفوسنا المرحوم "الشيخ عز الدين القسام"، الذي بقي فينا وسيبقى في الأجيال القادمة
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وسيبقى "المطران كبوشي" الأنموذج المسيحي-العروبي
المقاوم المؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، التي يجب أن يتعانق فيها الإنجيل مع
القرآن لتحقيق العدالة والسلام على أرض فلسطين، مهبط
الرسالات السماوية، ومسرى محمد صلى الله عليه وسلّم، ومهد المسيح عيسى بن مريم
عليه السلام. وسنبقى نبتهل إلى المولى، جلّ شأنه، أن يحفظ سوريا واحدة موحّدة ذات
شوكة صلبة في وتأخذ دورها في الدفاع عن قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛
وفاءً لدماء "الشيخ عز الدين القسّام"،
ووفاءً لسيرة ومسيرة "المطران كبوشي".
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 05/01/2017م