0

الثقافة:
التعريفات والتسلسل التاريخي[1]
                                                         عزيز العصا
لم يرد مصطلح (ثقافة) في نصوص العرب وأشعارهم، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وقد وصفها المعجم الوسيط بأنها كلمة محدثة في اللغة العربية[1].  كما أن قواميس اللغة؛ القديمة والحديثة تنطوي على تحديدات متقاربة لمعنى الثقافة: سرعة الفهم (أي الذكاء)، والمهارة، والدقة، والسعي لتحصيل المعرفة، وتهذيب الفكر وصقله، وتقويم الاعوجاج، والبحث، والتقصي[2]. والثقيف: هو الفطين الحاذق، وثقف الصبي: هذبه وعلمه، والثقاف: المرأة المهذبة[3]. والثقافة: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها[4].
كما أن الثقافة في اللغة العربية  هي الحذق والتمكن، وثقف الرمح أي قومّه وسواه، ويستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناَ من العلوم والفنون والآداب، فالثقافة هي إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة؛ فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً بناءً في المجتمع[5].
في العام 1927م؛ نشر "سلامة موسى"[6] مقالاً قال فيه بأنه انتحل مصطلح "ثقافة" من ابن خلدون، إذ وجده يستعملها في معنى شبيه بلفظة "كلتور" الشائعة في الأدب الأوروبي. وهنا عرف الثقافة، بأنها: "هي المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمونها الناس ويتثقفون بها، وقد تحتويها الكتب ومع ذلك هي خاصة بالذهن. أما الحضارة فمادة محسوسة من آلة تُخترع وبناءٌ يُقام ونظام حكم محسوس يُمارس، ودين له شعائر ومناسك وعادات ومؤسسات.. أي أن الثقافة ذهنية  والحضارة مادية"[7].
الثقافة اصطلاحاً: هي المعرفة التي تؤخذ عن طريق الأخبار والتلقي والاستنباط، كالتاريخ، واللغة، والفقه والأدب، والتفسير، والفلسفة[8]. وهي إدراك الشيء، والحصول عليه والظفر به بعد البحث والتفتيش عنه[9]. قال تعالى: "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" (البقرة: 191)، كما قال تعالى: "مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" (الأحزاب: 61).
عند تعامل الفكر العربي مع مفهومي "Culture"  و"Civilization" قدم لهذين المفهومين ثلاثة ألفاظ عربية، هي: الثقافة، والحضارة والمدنية، كما يلي[10]:
·    هناك من ترجم "Culture"  إلى ثقافة وترجم "Civilization" إلى حضارة. هنا الثقافة تعني الجانب الفكري من الحياة الإنسانية، والحضارة تعني الجانب المادي منها.
·    هناك من ترجم "Culture"  إلى حضارة، وترجم  "Civilization" إلى مدنية. هنا الحضارة تعني الجانب الفكري من الحياة الإنسانية، والمدنية تعني الجانب المادي منها. 
وهذا يعني أن هناك خلطاً في المفاهيم وتداخلاً في المعاني، يتطلب من الباحث تحري الدقة في تناول المصطلحات، وفق نهج واضح يبعده عن "التلبيس" في المعاني بين الثقافة والحضارة والمدنية. وتعني الثقافة، في أصلها العربي، مجموعة من الدلالات، أهمها[11]:
1.              مضمون الثقافة ينبع من الذات الإنسانية، ولا يُغرس من الخارج.
2.             إن مفهوم الثقافة في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل, وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني وتهذبه وتقوم إعوجاجها.
3.              يرتبط مفهوم الثقافة بالنمط المجتمعي الذي يعيش الإنسان في ظله.
4.             إنها عمليةٌ متجددة دائماً؛ لا تنتهي أبداً، فهي لا تعني أن إنساناً أو مجتمعاً معيناً قد حصل من المعارف والعلوم والقيم ما يجعله على قمة السلم الثقافي أو انه وصل إلى الغاية القصوى.
5.             إنه مفهوم لا يحمل في ذاته أحكاماً قيمية تحدد نوعية الثقافة هل هي متأخرة بربرية وحشية رجعية أم عصرية نيرة... إلخ، ذلك أن منطلق مفهوم التهذيب يجعل من جميع الثقافات طبقا لقيم مجتمعاتها وظروفها على الدرجة نفسها من القيمة الإنسانية.
6.             إنه مفهوم غير مقيد أو مخصص، فهو عام للإنسان والجماعة والمجتمع يشتمل على جميع أنواع الممارسات الإنسانية ومختلف درجاتها. ويعطي دلالاته على أي مستوى تحليلي يستخدم فيه، طالما تحقق مطلق التهذيب والتقويم.
أما وفق المعنى الغربي فتكون الثقافة مجموعة العادات والقيم والتقاليد التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري, بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه[12]. والثقافة عند المفكّرين الألمان: تعني الأسس الرّوحيّة، والتّقاليد الّتي يقوم عليها المجتمع،  بينما الحضارة عندهم الرّقيّ العلميّ والعقليّ، ونموّ وسائل التّأثير على الطّبيعة[13]. وفي هذا السياق؛ تكون الثقافة هي تلك الإبداعات الإنسانية التي تتجاوز مناهج التعليم الرسمية والتي تغني فكر الإنسان بالتسامح وتضاعف اهتماماته العقلية وتطور حسه الجمالي[14]. أما بالنسبة للتسلسل التاريخي لتطور معنى الثقافة، فيمكن تتبعه كما يلي[15]:
·      عندما ظهر هذا المفهوم لأول مرة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كان يشير إلى عملية الاستصلاح أو تحسين المستوى، كما هو الحال في عملية الزراعة أو البستنة.
·      في القرن التاسع عشر، أصبح المفهوم يشير، بصورة واضحة، إلى تحسين أو تعديل المهارات الفردية للإنسان، لا سيما من خلال التعليم، ومن ثم إلى تحقيق قدر من الرخاء القومي أو القيم العليا.
·       في منتصف القرن التاسع عشر، قام بعض العلماء باستخدام مصطلح "الثقافة" للإشارة إلى قدرة الإنسان على مستوى العالم.
·      بحلول القرن العشرين، برز مصطلح "الثقافة" للعيان ليصبح مفهوما أساسيا في علم الأنثروبولوجيا، ليشمل بذلك كل الظواهر البشرية التي لا تعد كنتائج لعلم الوراثة البشرية بصفة أساسية.
·      في أعقاب الحرب العالمية الثانية، صار لهذا المفهوم قدر من الأهمية ولكن بمعانٍ مختلفة بعض الشيء في بعض التخصصات الأخرى مثل علم الاجتماع، والأبحاث الثقافية، وعلم النفس التنظيمي، وأخيرا الأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة.
ويأتي هذا التطور لمفهوم الثقافة، انعكاساً لتطور مفاهيم الدولة، التي تظهر وفق الجدول التالي[16]:
العصر
أساس قيام الدولة وقوتها
القديم
الموارد والثروات الطبيعية وعدد السكان والمساحة
الثورة الصناعية
القدرة الإنتاجية للدولة وإمكاناتها التصنيعية والتصديرية
الثورة التكنولوجية
التفوق العلمي والتكنولوجي
ثورة المعلومات والاتصالات
العقل والخبرة والكفاءة والعلم والتكنولوجيا والإدارة
أي أن الثقافة بالمعنى المتداول، مصطلح مختلف المعاني. فقد قام كروبير وكلوكهن في العام 1952 بعمل قائمة من 200 تعريف لكلمة "ثقافة" في كتاب بعنوان الثقافة: مراجعة نقدية للمفاهيم والتعاريف، وفق ستة مجالات رئيسية، هي: وصفي "تعداد للمحتوى"، التاريخية "التراث أو التقاليد الاجتماعية"، المعيارية "القاعدة أو الطريقة"، نفسية "بوصفها جهاز حل المشكلات"، الهيكلي "الزخرفة أو منظمة للثقافة" والجينية "الثقافة كمنتج أو أداة"[17].
وفي العام 1963 عرفها "روبيرت بيرستد"في كتابه النظام الاجتماعي، على أنها "ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء المجتمع"[18].
وخلاصة الأمر؛ نستطيع القول بأن المفهوم الصحيح لمعنى "الثقافة" أنها نظرية سلوك أكثر منها نظرية معرفة، إذ أنها مجموع الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح الرابطة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في مجتمعه[19].
فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 14/09/2019م




[1] جواد، إبراهيم محمد (2000). "نظرات في الثقافة والمثقف"، مجلة النبأ الالكترونية، عدد 44، نيسان/ 2000. أنظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 15/10/2015م): http://annabaa.org/nba44/nazarat.htm
[2] فرح، إلياس (1979). في الثقافة والحضارة، وزارة الثقافة والفنون-الجمهورية العراقية، دار الرشيد للنشر. ص. 14.
[3] جمال، أحمد (1975محاضرات في الثقافة الاسلامية، مؤسسة دار الشعب، القاهرة، ط. 3. ص. 13.
[4] جمهورية مصر العربية، مجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث (2004). المعجم الوسيط. مكتبة الشروق الدولية. ط. 4. ص. 98.
[5] المعرفة. انظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 20/11/2015):
[6] عارف، نصر محمد (1994). الحضارة، الثقافة، المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم. المعهد العالمي للفكر الاسلامي، عمان. ط. 2. ص. 27.
[7] بهذا يكون سلامة موسى قد اعتبر Culture هي الثقافة وتتعلق بالأمور الذهنية، وأن Civilization هي الحضارة وتتعلق بالأمور المادية.
[8] الزين، سميح (1979). الثقافة والثقافة الاسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط. 2. ص. 31.
[9] الظاهر، حسن، والطيب، أحمد، والبدوي حسن، والعسال، خليفة (1993بحوث في الحضارة الاسلامية، دار الحكمة، الدوحة ط. 1. ص. 12.
[10] عارف (1994). م. س. ص. 49.
[11] نفس المرجع السابق. ص. 31-33.
[12] المعرفة. انظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 13/03/2016م):
[13] أبو شرار، ابتسام (2015). "قراءة في فكر إدوارد سعيد". مجلة مشارف مقدسية. العدد (3). تصدر عن: اللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية. رام الله. فلسطين. ص. 92-123.
[14] القصيبي، غازي (28/08/2008م). "تعريف الثقافة". صحيفة الجزيرة، العدد (13118).
[15] عن: موسوعة ويكيبيديا. انظر: http://ar.wikipedia.org/wiki. (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 13/03/2016م).
[16] بدران، ابراهيم(2002). أفول الثقافة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ط. 1. ص. 227.
[17] Vatrapu, R., Suthers D. Cultures and Computers: A review of the concept of culture and its analytical usage. Available on: http://www.cs.cmu.edu/~sfussell/CHI2007/VatrapuAbstract.pdf
[18] فازولا، حسام (د. ت). السياسات الثقافية: النشأة .. التطور .. الإشكاليات. مؤسسة حرية الفكر والتعبير. القاهرة. مصر. ص. 7.
[19] جمال، أحمد (1975محاضرات في الثقافة الاسلامية، مؤسسة دار الشعب، القاهرة، ط. 3. ص. 14.




[1] نشر في منصة الاستقلال الثقافية.
[2] جواد، إبراهيم محمد (2000). "نظرات في الثقافة والمثقف"، مجلة النبأ الالكترونية، عدد 44، نيسان/ 2000. أنظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 15/10/2015م): http://annabaa.org/nba44/nazarat.htm
[3] فرح، إلياس (1979). في الثقافة والحضارة، وزارة الثقافة والفنون-الجمهورية العراقية، دار الرشيد للنشر. ص. 14.
[4] جمال، أحمد (1975محاضرات في الثقافة الاسلامية، مؤسسة دار الشعب، القاهرة، ط. 3. ص. 13.
[5] جمهورية مصر العربية، مجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث (2004). المعجم الوسيط. مكتبة الشروق الدولية. ط. 4. ص. 98.
[6] المعرفة. انظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 20/11/2015):
[7] عارف، نصر محمد (1994). الحضارة، الثقافة، المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم. المعهد العالمي للفكر الاسلامي، عمان. ط. 2. ص. 27.
[8] بهذا يكون سلامة موسى قد اعتبر Culture هي الثقافة وتتعلق بالأمور الذهنية، وأن Civilization هي الحضارة وتتعلق بالأمور المادية.
[9] الزين، سميح (1979). الثقافة والثقافة الاسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط. 2. ص. 31.
[10] الظاهر، حسن، والطيب، أحمد، والبدوي حسن، والعسال، خليفة (1993بحوث في الحضارة الاسلامية، دار الحكمة، الدوحة ط. 1. ص. 12.
[11] عارف (1994). م. س. ص. 49.
[12] نفس المرجع السابق. ص. 31-33.
[13] المعرفة. انظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 13/03/2016م):
[14] أبو شرار، ابتسام (2015). "قراءة في فكر إدوارد سعيد". مجلة مشارف مقدسية. العدد (3). تصدر عن: اللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية. رام الله. فلسطين. ص. 92-123.
[15] القصيبي، غازي (28/08/2008م). "تعريف الثقافة". صحيفة الجزيرة، العدد (13118).
[16] عن: موسوعة ويكيبيديا. انظر: http://ar.wikipedia.org/wiki. (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 13/03/2016م).
[17] بدران، ابراهيم(2002). أفول الثقافة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ط. 1. ص. 227.
[18] Vatrapu, R., Suthers D. Cultures and Computers: A review of the concept of culture and its analytical usage. Available on: http://www.cs.cmu.edu/~sfussell/CHI2007/VatrapuAbstract.pdf
[19] فازولا، حسام (د. ت). السياسات الثقافية: النشأة .. التطور .. الإشكاليات. مؤسسة حرية الفكر والتعبير. القاهرة. مصر. ص. 7.
[20] جمال، أحمد (1975محاضرات في الثقافة الاسلامية، مؤسسة دار الشعب، القاهرة، ط. 3. ص. 14.

إرسال تعليق Blogger

 
Top