أسامة العيسة:
يُزاوج أنواع الرواية المختلفة.. فيُنجِب "قبلة بيت
لحم الأخيرة"
نشر في القدس، بتاريخ:
30/01/2016م، ص: 17
عزيز العصا
أسامة العيسة؛ فلسطيني
من قرية زكريا الجميلة التي اغتصبت منذ العام 1948، ولد تحت صفيح الزنك البارد
شتاءً والحار صيفًا. وهو متعدد الاهتمامات والإبداعات؛ فهو كاتب صحفي، وخبير آثار،
وروائي... وأكثر من ذلك. وفي كل شأن يكتب فيه تجده وقد أتقن ما كتب، وفق أهداف
محددة وواضحة. فكان له ما يقارب الـ (20) كتابًا، موزعة على أجناس أدبية وعلمية
مختلفة.
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "أسامة
العيسة"؛ فهو روايته "قبلة بيت لحم الأخيرة" في طبعتها الثانية، الصادرة
عن "الفسائل" في القدس، في العام 2016، وهي تبدأ بغلاف يحمل ملامح النص
الروائي؛ أعمدة كنيسة المهد المشربة بالأحمر، ولوحة تمثل إحدى الملاحم البطولية،
والصليب والأقواس، وأما الغلاف الأخير فيظهر عليه "مسجد عمر بن الخطاب"
وقد التقطت صورته من كنيسة المهد. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أننا مقبلين على نص
مشبع بخصائص نصفي برتقالة؛ مسلمون ومسيحيون. وبين الغلافين سرد روائي يتوزع على
(304) صفحات من القطع الكبير، تحتضن (34) محطة سردية؛ لكل منها موضوعه، بل فسيفساؤه،
التي تتكامل لتخرج بهذه الرواية كلوحة جميلة. ولم يأذن لنا بالدخول إلى النص قبل
أن يبلغنا أنه حائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب في العام 2015، كما يلفت نظرنا،
على لسان إبراهيم جوهر، أن الرواية "موجعة؛ فهي تعري وتفضح وتشخّص".
تقوم الثيمة "القضية"
الروائية الرئيسية، لرواية "قبلة بيت لحم
الأخيرة"، كما رأيتها، على وصف التغيرات الدراماتيكية التي أصيب
بها الثوريون من ذوي النفس القصير، لينتهي أمرهم إلى ممارسة "عكس" ما
كانوا ينادون به وهم طلبة على مقاعد الجامعة. ولأجل ذلك، قام "أسامة العيسة" بإنشاء مجموعة مرتكزات
هامة اتّكأت عليها الرواية، شكلت هيكلها الأساسي الذي مكّن الكاتب من تحقيق سرد
روائي متماسك، يسير بالقارئ بتؤدة وهدوء بين ثنايا النص.
يتكون هذا الهيكل من بنيتين، هما: البنية المكانية والتي كان لها طغيانها
وقدسيتها في آنٍ معًا، حيث احتفى النص بمدينة بيت لحم، فغاص حتى أعماق
"مغرها" وشوارعها وأزقتها وشواهدها الحضارية، وعندما تمدد في المكان لم
يبتعد كثيرًا خارج القدس، التي كانت "بيت لحم" مقرًا ومنطلقًا وممرًا
للثوار المنطلقين لتحريرها. وأما البنية الزمانية، فلم تكن أقل وهجًا ووميضًا من
المكانية، فغاص الكاتب في أعماق التاريخ الممتد لنحو ألفي عام؛ الزمن الذي كانت
فيه المغارة أقصى معمار حضاري، وتدرج بنا حتى تاريخه.
نظرًا لهالة وقدسية البنية الزمكانية للرواية، فإن النص انطوى على أكثر من
نوع "سرد روائي"، ولنتفق على تسميتها بـ "أبعاد" الرواية أو
أعمدتها التي تحيلها إلى مظلة جميلة، يتفيّأ تحتها القارئ الباحث عن جمالية
الزمكان التي تكمن في النص، منها:
-
البعد
العاطفي: فقد كانت العواطف جليّة واضحة، من خلال قصة الحب بين
الرجل والمرأة التي وصلت ذروتها في لحظة ما، ثم انكفأت ليذهب كل منهما في طريقه.
كما أن قصص حب الوطن والتعلق به كانت قصص حب ناجحة سرمدية لم تنته حتى بموت المحب؛
بل انتقلت إلى الأجيال التالية، التي استمرت تحمل في ذاتها رعشة لا يخمدها إلا
العودة إلى الوطن. كما أن قصة عشق عميقة نشأت بين السارد وتفاصيل الحضارة التي
تسلسلت حتى وصلتنا، وهي تحمل بصمات البُناة الذي أفنوا أعمارهم من أجل أن تتنعم
الأجيال بعدهم.
-
البعد التاريخي: ففي النص نمط سردي استمد أحداثه من التاريخ، كما قام
باستحضار شخصيات تاريخية هامة، شكلت العمق التاريخي للرواية. كما أن معظم الأمكنة والأسماء والمسميات التي مرّ بها "أسامة العيسة" في سرده الروائي هذا أخذت
نصيبها من الوصف والتوصيف، واستحضار تاريخها البعيد والقريب.
-
البعد
السياسي: فقد برز في هذا النص الروائي ملامح السرد القائم
على معارضة الفكر السائد في مجتمعنا، بخاصة ذلك الفكر الذي يتبنى الـ "أنجي
أوز"، ويدافع عنها، حيث أبدع "أسامة العيسة" في بناء شخصيات خاصة بهذا
الشأن، قام بالتدرج معها من أقصى اليسار الداعي إلى تحرير فلسطين "من الميّه
للميّه"، حتى وصلت إلى تبني المواقف والأيديولوجيات المناقضة لنشأتها، والعيش
في ظلالها على حساب الضمير "الثوري" الذي تم اغتياله بأيدي أهله؛ بما
يشبه الانتحار السياسي.
-
البعد
الوطني: فقد برز في رواية "أسامة
العيسة" هذه السرد الروائي المتعلق بالتضحية من أجل الوطن، والبحث
عن الحريّة، وتحرير الوطن وانتزاعه من بين أنياب المستعمر، رغم الفارق في القوة
والعتاد، فكان الأبطال (الحقيقيون): عبد القادر الحسيني، وأحمد عبد العزيز، وأنطون
داود وغيرهم، الذين أبلوا بلاء حسنًا في الدفاع عن الوطن، ووفروا الصورة المشرقة
لنضال الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني الغاشم.
-
البعد الواقعي: وقد
يكون هذا البعد الأكثر بروزًا في هذه الرواية، فقد ساد فيها السرد، بأساليب
درامية، لقصص أشخاص واقعيين
وأحداث حقيقية، شكلت نماذج إنسانية ووطنية صادقة، أراد الكاتب من خلالها تدعيم
القيم الإيجابية، كقيم التضحية من أجل الوطن، وقيم التعايش بين أبناء الشعب
الفلسطيني. وفي جانبٍ منها، كانت واقعية تحليلية و/أو نقدية؛ تشكل تعزيزًا
للسلوكيات الإيجابية واستنكارًا للسلوكيات السلبية للأشخاص الذين شملهم السرد.
استخدم الكاتب عددًا كبيرًا من
الأسماء الواقعية، مثل: ياسر عرفات (أبو عمار)، وجمال عبد الناصر، وفوزي القطب،
وأنطون داود، وميخائيل معلوف، ومجموعة أسماء لمغتربين من بيت لحم وبيت ساحور،
منهم: شفيق حنضل، أنطون داود، ميخائيل اليتيم، ... الخ.
وأما بشأن بنائية الرواية، فإلى جانب استخدام الكاتب للأدوات اللغوية
المتعددة من التصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة والسخرية (المرّة)، اجتمعت
في هذه الرواية متعة السرد ومتعة الإيهام بالحقيقة، بخاصة تلك المتعلقة بالبطل
رائد أو حنا (الحردان). كما اجتمعت الأبعاد المعرفية
والمعلوماتية التي أراد "أسامة العيسة"
تمريرها بين ثنايا روايته هذه، وهي كثيرة ومتعددة، منها:
أولًا: سرد تاريخي للمكان والإنسان:
لا شك في أن "أسامة
العيسة" وظّف خبراته في الآثار ومعرفته في التحولات الحضارية، خير
توظيف؛ فلم يمر في مكان إلا وجعل القارئ يعيش فيه ويتعايش مع الأحداث التي مرت
عليه، ويتعاطف مع أبطال تلك الأحداث، فكوّن شبكة من العلاقات المتجذرة بين الإنسان
والزمان والمكان، للحد الذي يجعل القارئ من خارج بيت لحم يحلم بالتوجه إليها،
ويجعل القارئ من مواطنيها، يعيد الزيارة لتلك الأماكن، لكي يغير الزاوية التي اعتاد
من خلالها النظر إلى تفاصيل هذه المدينة، بأرضها وسمائها وعمرانها، التي كانت
الشاهد الأبرز على التحولات التي امتد أثرها حتى أقاصي الأرض.
ثانيًا: العلاقة الإسلامية-المسيحية في بيت
لحم أنموذج قلما يتكرر:
ورد في السرد الروائي أن هناك حالة من التماهي لثقافة
المسيحيين، مع ثقافة مواطنيهم المسلمين لحد الذوبان. كما جاء الحديث عن كنيسة
المهد، وما تمثله من دلالات تاريخية مسيحية الأصل والفصل والانتماء والإبداع،
مفعمًا بالاحترام والتبجيل للأجواء الإيمانية التي يبثها المكان في زائريه، ليس
على مستوى أتباع الديانة المسيحية وحسب، وإنما على مستوى المسلمين الذي أخذوا يرون
فيها الملاذ عندما يشتد الخطب. كما أن المسيحيين كانوا يرون في الإسلام الملاذ
عندما يشتد الخطب؛ فراجت ظاهرة النذور، الإسلامية-المسيحية المتبادلة: مسيحيون
يصومون رمضان، ومسلمون يصومون في عيد العذراء، وعيد البربارة وعيد الفصح، ومسيحيات
"ينقدن" شيخًا مالًا لكي يقرأ المولد على نية واحد من أعزائهن ليحفظه رب
محمد صلى الله عليه وسلم.
حتى أن بطل الرواية، وهو الراوي للأحداث أيضًا، هو:
"رائد"-المسلم تعمّد في الكنيسة، في المذود-المكان الذي "يُعتقد"
أن مريم وضعت المسيح فيه. ثم انتقلت والدته به إلى الشيخ عبد السلام، في مسجد عمر
المقابل لكنيسة المهد ليقرأ القرآن في أذنه، فحمل إسم "حنا"؛ وعاش
بإسمين متلازمين؛ "حنا" نهارًا و"رائد" ليلًا، كل منهما قرين
الآخر. كما يذكّرنا "أسامة العيسة"
بثورة مسلمي بيت لحم ومسيحييها، معًا، ضد الديري في أواخر القرن الثامن عشر.
ثالثًا: أقوال وحِكم:
في كل جزئية من روايته هذه، تجد "أسامة العيسة" وقد ألقى بعبارة جادّة
وهامة، تستحق النظر فيها بتمعن؛ لما فيها من وضوح الدلالة وعمق المعنى، وقد التقطت
العبارات التالية، التي سوف أضعها بدون تعليق؛ لكي أترك فرصة للقارئ لمراجعة
الأجواء التي قيلت فيها، والأجواء الملائمة التي يجب أن تقال فيها، منها:
-
هل يحدد
المستعمر حدود البلد الذي استعمره، ليغدو بعد ذلك حدودًا مقدسة لأبنائه؟
-
كل جديد
يأتي يرتكب حماقة هدم ما سبقه وإلغائه.
-
لا تنجح
القوى الجديدة دائما في قتل القديم، الذي يتسلل من غير توقع، بأشكال جديدة.
-
نحن لا
نحب ما يأتي بسهولة، نحب النائي والبعيد، وغير القابل للتحقق.
-
يقول في
دفن والديه اللذيْن ماتا وهو في الأسر: "جمعهما شقاء الحياة، وفصلتهما راحة
الموت.
-
من يسلب
الجسد هو من يعيده.
رابعًا: المرأة حاضرة بقوة:
لقد جعل "أسامة
العيسة" "سميرة" البطل الموازي للبطل الرئيسي لروايته،
فكانت هي صاحبة الخيط الروائي الأقوى والأكثر متانة على طول النص، ولم تكد سردية
تخلو من ذكرها، حتى أن "الحبيب" البطل كان يفتعل الأحداث من أجل أن
يستحضرها، كالحديث عن "خاصكي سلطان"، التي وجد سميرة فيها هي السلطان
بعينه.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما خصص مساحة جيدة في
السرد لـ "بِرت"؛ للبنانية القادمة إلى فلسطين زوجة لـ "د. ميخائيل
معروف"، الذي استشهد في كانون الأول/ 1947، فذهب فقيد الطب والوطن والعروبة،
فتنطلق هي ومن معها في أخذ زمام المبادرة لتأسيس الاتحاد النسائي، الذي أسهم إبّان
النكبة في النواحي التطبيبية والعلاجية والإسعافية والإغاية، وذلك طوال الأحدث
التي منذ ما قبل النكبة، وما بعدها، مرورًا بالنكبة التي شكلت ذروة مأساة الشعب
الفلسطيني، وقد كان نصري جاسر هو كاتب بياناتها.
واحتلت "عنّبرة" مساحة جيدة في السرد؛ وهي
المرأة المسلمة التي تعتني بكنيسة المهد وتحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، وقد ماتت فيها
وتم الصلاة عليها في جامع عمر. كما استحضر "أم علي"؛ تلك المرأة
الفلسطينية القادمة من عصر الـ "سفر برلك العصملي" والتي تشكل المرأة
النموذج في الصبر والمثابرة، و"عبير"؛ الشهيدة التي أصابتها "رصاصة
طائشة أطلقها جندي طائش في جيش طائش لدولة طائشة"، فكانت الحافز والمحرك لبطل
الرواية للقيام بعملية عسكرية، بعد شهر من دفن عبير، ليحكم على إثرها بـ (20)
عامًا أمضاها في السجن، ومن هناك استكمل سرده لروايته، بلا توقف.
كما كان هناك وفرة في الحديث عن الأم الفلسطينية
وتضحياتها، والمرأة الفلسطينية التي عانت من "سفر برلك" وغيرها من
الأحداث التي اجتاحت فلسطين، في القرنين التاسع عشر والعشرين. وأما بشأن دور
المرأة المعاصرة، فقد جاء في السرد الروائي أنها أصبحت ذات أدوار واسعة في النواحي
النضالية كافة، وقد دخل السجون الاحتلالية في الانتفاضة الأولى نحو (3000) امرأة
فلسطينية، وخصص مساحة للحديث عن شهيدة حلف بغداد "رجاء أبو عمّاشة".
خامسًا: الانتهازيون "الثوريون"
وصمة في تاريخ القضية:
منذ الصفحة الأولى في روايته هذه تجد "أسامة العيسة" يبث همومه وغضبه من المدّعين
والمتقولين، ويشرع في تناولهم بأوصاف وعبارات مشبعة بالسخرية المرّة، بخاصة منها:
-
الحمامات
العامّة هي "الهايد بارك" للطلبة؛ تحمل مشاعر ووجهات نظرهم في بعضهم
البعض.
-
كان بين
طلبة الجامعة ما يُطلق عليهم "قبيلة النسانيس" المنبوذة، الضعيفة وغير
المنظمة.
-
ساهم العمل السري في إضفاء نوع
من الغموض على حاملي الألقاب الثورية، مثل: عضو المكتب السياسي، عضو اللجنة
المركزية، والألقاب تنخر في حامليها وتغيرهم.
-
الطالب
مشروع مناضل.
-
جاءت
سميرة والثوريات، ليجففن ما بذرته بِرت؛ ففي بلادنا يظن كل فرد، وكل جيل أن
التاريخ يبدأ وينتهي به.
-
لقد
استُبدل شعار: بالدم نكتب لفلسطين, بشعار: بالدولار نكتب للجندر, والايروتيكا,
والنبيذ, والجسد, والشذوذ.
-
ويختم
سرده فيما يتعلق "بالثوار حتى التخرج"، بوجود مجموعة من الأقنعة الخشبية
خلف مكتب سميرة، بعضها حزينة، وأخرى ضاحكة، وثالثة شيطانية، جمعتها من سفراتها إلى
الخارج.
خامسًا: حضور التاريخ المعاصر:
حيث أشبع النص بسرديات تتحدث عن الحقبة العثمانية، وما
تعرض له الشعب الفلسطيني من حالة "إفقار"، ونهب خيرات بلده لصالح الحروب
المختلفة، وما جرى في حقبة "سفر برلك" التي شهدت هجوم الجراد والمجاعة،
فهجر البعض فلسطين وبيقيت متعلقة في مشاعرهم تحت إسم "البلاد". وسرديات تتعلق
بالنكبة والنكسة والانتفاضتين: الأولى والثانية.
كم كان "أسامة
العيسة" رائعًا وهو يستحضر "فوزي القطب"؛ المقدسي قائد
فرقة التدمير، الذي جهّز القنبلة الضخمة التي وضعها سائق القنصل الأمريكي "أنطون
داود"؛ البيتلحمي في الوكالة اليهودية، فضربها في العمق، وقد عملا تحت قيادة
"عبد القادر الحسيني". وكذلك "أحمد عبد العزيز"؛ المصري
المتطوع في حرب فلسطين، الذي استقر في بيت لحم، مدافعًا عن القدس، واختار شعاره
"رأس النمر"، وعبد القادر غيث المغربي؛ المتطوع الليبي الذي توفي في
فلسطين عام 1957، كما تعرض إلى حلف بغداد الذي حصدت المظاهرات ضده ثلاثة شهداء من
بيت لحم.
سادسًا: الأسْر وخصوصيات الأسير:
عاش بطل الرواية تجربة الأسْر، التي أمضاها على مدى
عشرين عامًا شهد فيها الانتفاضتين: الأولى والثانية، وما تضمنته من فعاليات نضالية
أهما الإضرابات الشهيرة التي خاضتها الحركة الأسير في تسعينيات القرن الماضي، فلم
يتركها تمر دون أن تمنح للنص هوية خاصة، تتغلغل الأبعاد الوطنية والسياسية
والعاطفية والواقعية لهذه الرواية. ومما يبثه في هذه الرواية حول السجن:
-
في
السجن يتكثف المكان والزمان معًا، وينكشف الناس في مواجهة أنفسهم والآخرين، وتظهر
مكوناتهم الثقافية، والاجتماعية، والعائلية والجهوية، وآفة السجون هي العصبيات
الحزبية.
-
التعاطف
لا يشكل، في غالب الأحيان، العزاء المناسب للأسير.
-
كنت
كالتائه، يسير في بلاد كأـنه يراها للمرّة الأولى، سرق السجن من عمري (20) عامًا،
ولكنه سرق جغرافية ذاكرة عمر بأكمله.
-
يعيش
الأسير المحرر أشهر تحرره الأولى كالطفل الذي يحبو، ويتحسس عالمًا جديدًا.
بقي القول،
يلاحظ من تتبع السرد، ومن خلال الخيط الروائي، أن بعض شخصيات الرواية كادت
تتغلب على الكاتب وتجعله يدور في فلكها، كحالة "سميرة" التي فشل في مكافحة سلبياتها وضلالاتها، رغم ما سخّره من طاقات
في التغلب عليها في الصراع بين الخير الذي يمثله الانتماء إلى الوطن والتمسك به،
والشر الذي يمثله الارتماء في أحضان العدو الذي أمعن في إهانة تلك الشخصيات نفسها،
وبشكل مباشر.
بشأن الجزء الفارغ من كأس هذه الرواية، وجدت أن "أسامة العيسة"-الصحفي كان حاضرًا، بقوة، في
هذا السرد، للدرجة التي ظهرت معها نصوص صحفية، مصدرها الصحف ليس إلا، بخاصة فيما
يتعلق بالشهداء وأسمائهم وتواريخ استشهادهم وتفاصيل الذكريات الخاصة بهم، فبدت
كشخصيات "هشّة"، ولم يكن أي منهم من شخصيات الرواية.
وفّر "أسامة العيسة" للقارئ بيانات وبيّنات شاملة حول تاريخ السينما في بيت لحم، إلا
أنها جاءت على حساب السرد الروائي، عندما بدت وكأنها تحقيق "صحفي" عن تاريخ
السينما في بيت لحم.
هذه الأمور وغيرها كادت أن تؤثر على المسار السردي، وعلى استمرار الخيط
الروائي، الذي استعاده الكاتب باستعادة البطلة "سميرة" في أواخر
الرواية. كما يؤخذ على الرواية توظيف الجانب المظلم في البنية الزمانية، بخاصة فيما
يتعلق بالمرحلة الجامعية التي أمضاها البطل، دون الإشارة إلى ما هو إيجابي وفعّال
في تلك الحقبة.
وأما من الناحية الجمالية، ونحن نزهو بقدرة الكاتب "أسامة العيسة" على إدارة دفة
"الترقيم" بشكل رائع وجميل، إلا أنه يسجل على هذه الرواية أن هناك فقرات
طويلة، كان لا بد من صياغتها بما يريح القارئ، ويوفر له الفرصة الكافية للتوقف بين
الأحداث.
لأنني من قاطني بيت لحم، ولأنني أعي الكثير من تفاصيلها
التي عرّج عليها "أسامة العيسة"
في سرده الروائي، فقد انتابني شعور عميق بأن القارئ البعيد عنها، والذي لم يرها
يومًا، بحاجة إلى المزيد من التفاصيل، وإن كان ذلك يزيد من حجم الرواية. أو أن
يقلل الكاتب من عدد الأماكن التي يتجول فيها مع شخصياته، لكي يريح القارئ ويقلل من
تشتته.
خلاصة القول،
لقد أمضيت ساعات جميلة وأن أقرأ رواية "قبلة
بيت لحم الأخيرة" لكاتبها "أسامة
العيسة"، التي هي سرد ناتج عن سلسلة من الهويات لمجتمع كان
عثمانيًا، ثم انتدابيًا، ثم فلسطينيًا، ثم أردنيًا، ثم الاحتلال الأشرس والأطول في
التاريخ، ثم السلطة الوطنية الفلسطينية المحدودة، وأخالني ألتحم مع الكاتب في
السؤال: أين حدود فلسطيني التي تصغر مع مرور الأزمان؟
قد يبدو ذلك محبطًا، إلا أنني أقول بأن الاعتراف بالواقع ومعالجته واستئصال
عوامله ومسبباته ومكوناته، هو الانتصار الحقيقي على الهزائم التي اجتاحتنا ونحن في
غفلة من الجهل والفرقة والتشرذم، وفي غفلة من عدم المراجعة الموضوعية للخطاب
الأجوف، غير المنفتح على الحقائق التاريخية وفهم طبيعة الصراع، الذي
"أودى" بأصحابه إلى الارتماء في أحضان العدو الذي جعل منهم سخرية
للتاريخ والمؤرخين، وللروايات والروائيين.
وإذا ما اقتنعنا بأن التاريخ لا يرحم المتخاذلين والانتهازيين والوصوليين
واللصوص، فإننا في رواية "أسامة العيسة"
هذه ما هو صورة حية من صور ذلك التاريخ.
أكاد أفسر قول "إبراهيم جوهر" الذي يحمله الغلاف الأول للرواية،
بأنها تكشف عن عري الخطاب السياسي المفتقر إلى الفكر الناضج، وتشخص حجم البياض في
"أحزاب الفجل" التي توارت خلف القشرة "الحمراء"، معتقدة أن
أحدًا لا يستطيع استكشاف ما تحتها، وتفضح المتاجرين بدماء الشهداء عبر الحقب
التاريخية المختلفة، والذين أقسموا الأيمان بـ "دماء الشهداء" بأنهم لن
يهدأوا إلا في "جيب الباجيرو" الذي صنعه قاتليهم احتفاءً بالانتصار على
أولئك الشهداء الذين قضوا من أجل أن تحيا الأجيال بعدهم وتنعم بالحرية.
كما أنني في طريقي إلى الالتقاء مع "إياد شماسنة" في قوله عن هذه
الرواية: إنها بيت لحم أسامه العيسة، حبيبته التي قبّلها سرا في الأزقة البيتلحمية
العتيقة، ثم رآها بعين الصحفي الثاقبة، وعين الفلسطيني الغيور على التفاصيل، التي
بمجدها المتراكم تصنع الملحمة الكبرى، والتي نسجت لنا معمارا روائيا مدهشا.
أما النتيجة الأخيرة المصاحبة للقبلة الأخيرة، التي يبثها فينا "أسامة العيسة"، فقد وجدتها تتمثل في أن كل
الانتهازيين والانهزاميين إلى زوال، وستبقى ذرات "بطل" الرواية، التي
ستتناثر في صحراء بيت لحم حتى البحر الميت، وتبقى تحوم حولنا إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها، ومعها "قبلة بيت لحم
الأخيرة" التي تحمل ملامح بيت لحم التي يصوم فيها المسيحي في
رمضان المسلمين، ويصوم فيها المسلم في أعياد مريم "العذراء" عليها
السلام.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 27/12/2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook