ديمة السّمّان في روايتها "غفرانك قلبي":
الجمّيزة والأرض وآل سالم.. قصة عشق لا تنتهي
نشر في صحيفة القدس
المقدسية بتاريخ: 13/02/2016م، ص: 18
عزيز العصا
ديمة جمعة السّمّان؛ روائية
مقدسية، كاتبة مقال في المجالات المختلفة، وتربوية يشار لها بالبنان. وفي العام
2013 توّجت من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية بلقب "شخصية القدس
الثقافية".
أما
العمل الأدبي الذي نحن بصدده للكاتبة "السّمّان"
فهو روايتها، بعنوان: "غُفْرَانَك قلْبي"،
الصادرة بطبعتها الأولى للعام (2016) عن دار الجندي للنشر والتوزيع، والواقعة في
(223) صفحة من القطع المتوسط، احتضنت نحو (27) محطة. تبدأ بغلاف من إبداع الفنانة
المغربية "د. أم البنين سلاوي"، يحمل ملامح أنثى غارقة في حلم جميل،
تهديها إلى "أمها"؛ التي علّمتها الحرف وحبّبتها باللغة.
تقدم
"ديمة السّمّان" لروايتها
هذه بأنها لن تنتهي بانتهاء صفحاتها، ثم تغادرنا في صفحتها الأخيرة، وهي تعلن عن
أن هناك جزءًا ثانيًا لها، سيكون بهنوان: هذا الرجل لا أعرفه.
بقراءة
متأنية لهذه الرواية وجدتني أمام ثيمة روائية متعددة الأبعاد، جوهرها
الوفاء للأرض والوطن والهوية والتمسك بها، لحد الموت دفاعًا عنها. وينجم عن ذلك
حوار بين الأجيال، الذي ترتفع حدته وتخبو، بين الحين والآخر. إلا أن خيط الوفاء
يبقى هو المسيّر للأحداث حتى الرمق الأخير.
قدمت
"ديمة السّمّان" في روايتها
هذه سردًا نثريًا جميلًا، مشبعًا باللغة العربية العميقة، التي تحمل ملامح الأصالة
في مفرداتها ومعانيها، وهي تحرص على عدم الإيغال في "الثرثرة"؛ وإنما
جاءت الأحداث والمشاهد متسلسلة، بشكل يجعل القارئ ملتصقًا بها، ويحرص على عدم
مغادرتها حتى يرى من الذي ينتصر في النهاية؛ الخير أم الشر، جيل الشباب أم جيل
الكهولة، الوفاء أم العقوق. وفي ذلك كله كانت مفاصل الأحداث واضحة، إلى حد كبير،
ولا تسبب للقارئ إرهاقًا ناجمًا عن رمزيات، أو السير على خيط رفيع مشدود، قد يسقط
عنه في أي لحظة.
تناوبت "ديمة السّمّان" السرد مع "وحيد"؛
أحد شخصيات الرواية، فأحدثت تأزّمًا في الأحداث وجدالات معمقة بين
الشخصيات، غذّتها بنضج فكري ومعرفي، جعل المنطق هو السائد في مفاصل الأحداث، لدرجة
أنه في كثير من الحوارات يجد القارئ نفسه غير منحاز لشخصية دون نقيضها، ما عدا ذلك
الصراع الواضح بين الخير البائن والشر البائن، والذي مثّل عقدة الرواية وذروتها،
عندما انتهى الصراع بموت الأب والابن دفاعًا عن الحقيقة التي يرفضها الحاكم والوطن
والهوية.
تتكئ
رواية غُفْرَانَك قلْبي" على
بنيتين متخيّلتين، نسجت "ديمة السّمّان"
منهما البنيان الروائي، وهما: البنية الزمانية؛ تمتد من قديم يستخدم
السراج للإضاءة، والمعول للحراثة، والاعتماد على المطر كمصدر وحيد للري، حتى تصل
إلى عصر السيارة والحاسوب والمكاتب الهندسية. وأما البنية المكانية، فقد كانت
متخيّلة بالكامل؛ دون الإشارة إلى جغرافيا محددة، علمًا بأن "الجميزة"
التي تتخذ دورًا محوريًا في الرواية هي شجرة شرق أوسطية، وهي شجرة
"مباركة"، تشكل رمزًا للخير الوفير، تثمر سبع مرات في العام، وقد نُقلت
إلى فلسطين والشام منذ زمن بعيد.
لا شك
في أن "ديمة السّمّان" كانت
تهدف من عدم تحديد الجغرافيا إلى جعل القارئ يحلق في فضاءات النص، ويسقط فهمه
للأحداث على اتجاهات مختلفة، المشترك بينها أن من يعمل ويجد في عمله، يلاقي حصادًا
وفيرًا يحفظ له حياة حرة كريمة، وأن الحرّ لا يقبل بالظلم والضيم، ويرفض الاحتلال
أيًا كان شكله، ويقاومه بكل السبل المتاحة. وأن من يختار لنفسه العبوديّة
والتبعيّة، يعيش مقهورًا مدحورًا، ويسير عكس إرادته، بل عكس فطرته الإنسانية.
أما من
حيث الحوارات بين الأجيال البشرية المتعاقبة، فقد وجدتُ "ديمة السّمّان" تتجلى في فهمها الدقيق
لاحتياجات كل جيل، والمثل اُلعليا التي يرى فيها قدسية لا يجوز المساس بها. فوقفت
على الحياد، شبه التام، من تلك الحوارات، دون أن تكون جزءًا من النص، ودون أن
تتحيز لجيل دون الآخر. وعندما يدور الحوار بين الأجيال الحضارية والتكنولوجية
المتتابعة، نجد أنها أيضًا تحترم القديم وتُجلّه باعتباره قد أدى دوره وخدم عصره
ومرحلته، وأنه لا بد من الانتقال إلى المعاصر بسلاسة وانسيابية ويسر دون إحداث شرخ
بائن، يجعل من القديم الخطأ المطلق ومن الحديث الصح المطلق.
وبشأن
إدارة الأزمات، نجد أنها رسمت ملامحها بدقة وإتقان ملفتين، عندما جعلت خيطًا
رفيعًا بين الوفاء والمحافظة على المبادئ، وعدم الرضوخ للضغوط والإملاءات الخارجية
والصبر على المكاره من جانب، وبين أن لا يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة من الجانب
الآخر. وقد نجحت "ديمة السّمّان"
بإحداث حالة من التزاوج بين الموقفين: ففي الجانب الأول كان صبر "الشيخ
عثمان" وتمسكه بالوفاء لوالده انتهى به أن يشهد الخير العميم، إلا أنه ينتهي
لعدم امتلاكه مقومات الحماية من المخاطر. وفي الجانب الثاني، كان رأي
"عمران" الذي ارتأى باتباع "العقلانية"، بعيدًا عن الشعارات
والخطابات الرنانة، وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة، لكي تستمر الحياة. فكانت النتيجة
أن من بقي على قيد الحياة هو الذي عمر الأرض، وضمن تتابع الأجيال التي تناقلت
الإعمار، وتطورت حتى وصلت الدولة العصرية.
وأما
على مستوى الرمزية والدلالات، فقد امتازت هذه الرواية بأن البطل المحوري لها لا
يقتصر على شخص بعينه، بل أن "الجمّيزة"
كانت ذات حضور امتد حتى مدى متقدم من الرواية، فكانت الشاهد الوحيد والرئيسي على
الأحداث الجسام التي مرت بها شخصيات الرواية، وعلى ظلم الأخ لأخيه القائم على
الزيف والكذب، وأن جذورها احتضنت الوفاء والحكمة والحنكة والرجولة والإباء، لتعيد
إنتاجها مرّة أخرى حتى تصبح رمز الخير والبركة والإدرار والتكاثر، ولا أعتقد أنه
غاب عن ذهن الكاتبة تلك العلاقة العاطفية والوجدانية التي تربط الشعب الفلسطيني
بهذه الشجرة التي استظل بظلها السيد المسيح عليه السلام، وقد ذكرت في الإنجيل. وحتى
عندما قضت عليها "الدولة" العصرية، وجدت من يعيد استنباتها من جديد،
ويوفر لها الرعاية والعناية الكافيتين لكي تنمو مرة أخرى وتستعيد دورها في حراسة
الأرض، وتوفير الظلال الوارفة للإنسان. وفي ذلك دلالة أخرى على ضرورة الإبقاء على
الوفاء للقديم الجميل، كشاهد على تطور الحياة، بما يسند الحداثة والتطور والعصرنة،
ولا يعيقها.
وفي
رمزية أخرى، نجد أن هناك تصويًرا لظاهرة الانقلابات داخل أنظمة الحكم، والثورات
التي أُطلق عليها "الربيع العربي"، والتي ترى فيها "ديمة السّمّان" أنها أعادت إنتاج نفسها،
وأن الأنظمة القادمة ستكون أنظمة فردية الطابع ووراثية؛ تنتقل من الأب إلى الإبن.
ويتجلى ذلك في الانقلاب الذي قام به "عمران" على شقيقه
"عثمان"، عندما أصبحت المصلحة تتطلب ذلك. كم أنها أجادت في تصوير شبه
بصري، لما جرى في بعض الأقطار العربية من اصطفاف الجيش مع الشعب ضد الحاكم
المستبد.
ولم
تغادرنا "ديمة السّمّان" قبل
أن تبرز حالة الصراع المرير بين التمسك بالماضي وأمجاده، وبين الواقع وما فيه
من متغيرات لا بد من التوقف عندها، بعمق ورويّة، وضرورة أن ينظر الفرد بمنظار
الحقائق الماثلة أمامه، والذي تتمثل فيه مصلحته. وهكذا؛ كانت قصة "وحيد"
الذي "رسم لوحة المستقبل بألوان المجد لآل سالم"، وهو يعلم أن الحفاظ
عليها سيكلفه غاليًا (ص:
152). والذي انتهى أمره بأن فقد "حبيبته" في غفلة من
تمسكه بأمجادٍ اندثرت وانتهى زمانها. ويبقى "وحيد" بعقليته هذه وحيدٌ في
هذه الدنيا؛ لا يفهم أحدًا ولا أحد يفهمه! (ص: 214)
بقي القول
يلاحظ
على هذه الرواية تأزمًا في الأحداث في مفصلين اثنين، هما: التحول الناجم عن انهمار
الأمطار والخير الذي أصاب الأرض، وانتهى بإعمارها، وامتدادها واتساعها حتى أصبحت
قرى ومدنًا انتهت بدولة معاصرة. والمفصل الثاني، يتمثل بالثورة على الظلم. وقد
وجدنا في هذين الحدثين ذروة العمل الروائي، بما فيهما من رمزيات، وما تخللهما من
تطورات وولادات عسيرة للانتقال من مشهد إلى آخر. إلا أن قصة الحب التي أنشأتها
"ديمة السّمّان" بين
"وحيد" و"منى" كطالبين جامعيين، والتي "استغرقت"
نحو 40% من حجم الرواية، لم تكن على نفس القدر الذي شهدته الأحداث التي سبقتها، بل
أنها كانت "قصة" حب عادية جدا، قد ساد فيها التكرار والملل والمشاهد
الباهتة التي تخلو من الإثارة والإبداع. وأكاد أجزم بأن الرواية، في ذروتها
وروعتها، قد انتهت عند دفن شهيديّ الثورة، وثورة الجيش على الحاكم الظالم.
قبل أن
أغادر، أود القول أننا أمام رواية جميلة، تزخر باللغة الجميلة، ومشبعة بالقيم والمثل
العليا، التي مررتها الروائية "ديمة السّمّان"
أثناء الحوارات التي صممتها بين شخصيات روايتها. تلك الشخصيات التي اختارتها
بعناية، بما يخدم الهدف الذي أرادته بأن الظلم زائل، وأن الحياة لا تتوقف عند حد
معين؛ بل أنها مستمرة، ومتطورة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إرسال تعليق Blogger Facebook