المسجد الأقصى بحلته الرمضانية:
بين مهابة المكان.. وسلوكات يجب تصويبها
نشر
في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 134، حزيران وتموز/ 2017،
ص ص: 29-35
عزيز
العصا
مقدمة
إذا كانت القدس تمثل كرامة الأمة ورمز كبريائها، فإن
المسجد الأقصى المبارك هو ذروة سنامها. فقد شرفه الله سبحانه وتعالى بشيئين لم
يجتمعا في مكان غيره على وجه هذه المعمورة. أما التشريف الأول، فهو الإسراء إليه
بأشرف خلق الله كلهم محمد صلى الله عليه وسلم. وأما التشريف الثاني، فهو بتسميته
بالمسجد الأقصى، التي لم تكن قد أطلقت عليه من قبل. لقوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1).
وبين
هذين التشريفين يقع الحدثان اللذان شكلا انعطافًا في تاريخ البشرية جمعاء، وهما:
المعراج به صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، وصلاته إمامًا بالأنبياء
والرسل أجمعين. الأمر الذي جعل من هذا المكان شاهد على مسؤولية الإسلام والمسلمين
عن البشرية جمعاء، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما يُقرأ من تلك الأحداث
الكبرى أن لهذا المكان مهابة ومكانة لا تُضاهى على وجه البسيطة.
من
بين التكليفات والعبادات التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، أثناء
رحلة المعراج، كان صوم شهر رمضان من كل عام، الذي قال فيه سبحانه وتعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" (البقرة: 185).
لقد
منّ الله علينا أن نصوم رمضان، ونحن على هذه الأرض المباركة، وفي رحاب المسجد
الأقصى المبارك الذي بارك الله حوله، ما يعني أننا أمام مسؤولية كبرى ومضاعفة أمام
الله وأمام أبناء أمتنا الذين يغبطوننا على ما نحن فيه، وأمام الإنسانية التي
كُلّفنا بتوجيهها نحو الخير، بغض النظر عن الآلام والأوجاع التي يسببها لنا
الاحتلال البغيض الذي هو زائل يومًا ما بعون الله كما زالت الاحتلالات التي سبقته.
تهدف
المقالة التالية إلى تسليط الضوء على واحدة من القضايا والظواهر السلبية التي نلمحها
في رحاب المسجد الأقصى المبارك، وعلى الطرقات المؤدية إليه، والتي تصل ذروتها خلال
شهر رمضان المبارك، بخاصة أيام الجمع الرمضانية. فشهر رمضان يشهد ذروة التواجد
البشري الضخم للمسلمين في هذا المكان الطاهر، الذين يمكنهم الدخول إليه عبر حواجز
الاحتلال ومعيقاته، ومن المدن والقرى والمخيمات والأرياف كافة.
التزاحم
وازدحام البوابات والطرقات بالمصلّين
يتوجه المصلّون الصائمون إلى المسجد الأقصى المبارك من أجل العبادة والتقرب
إلى الله سبحانه بالصلاة والقيام، والتضرع إليه سبحانه طالبين المغفرة، بقلوب نقية
تقية. إلا أن هؤلاء، وهم في يغادرون إلى مساكنهم، يجدون أنفسهم، من حيث لا يدرون،
وقد وقعوا في شَرَكِ ممارسات غير محمودة تتمثل في: التدافع والتزاحم والالتصاق (كل
بمن حوله) وتراصّ. وتعود أسباب ذلك إلى ما يلي:
1) تدافع المصلين؛ بما لا يدع مجالًا للأولويات للنساء والأطفال والشيوخ،
الأمر الذي يتطلب التركيز عليه، ودوام التذكير به من قبل خطباء منبر المسجد
الأقصى، لعل في ذلك ما ينبه المصلين ويرشدهم إلى ما في الخير، بتجنب الشبهات،
والابتعاد عن مفسدات الصلاة والصوم بأشكالها وصورها المختلفة، مهما صغرت أو كبرت[1].
2) تضييق الطرق من
قبل التجار، بتشكيل ما
يشبه عنق الزجاجة الضيق جدا عندما يلقون ببضائعهم في طريق المصلّين، بخاصة عند مخارج
الأبواب الرئيسية: العامود، والأسباط والساهرة، بما يعيق المرور فعلًا حتى يجعل
معدل تدفق المصلِّين بأقل عدد ممكن، الأمر الذي يجبر المصلّي الصائم على المكوث
لأكثر من ساعتين حتى يقطع المسافة بين المسجد الأقصى وباب العمود مثلا، والتي لا
تحتاج في الأوقات العادية، وفي المتوسط، لأكثر من ربع ساعة من الزمن.
ويلاحظ المراقب لما يجري في هذا الجانب أن بلدية الاحتلال -ذات السطوة
والقوة التنفيذية- تغض النظر عما يجري، بل تبدو وكأنها تشجعه! في حين أن المقدسيين
لا يملكون أي سلطة تنفيذية في مثل هذه الحالات. وهنا، نطرح التساؤل التالي: ماذا
كانت ستفعل بلدية الاحتلال لو كان الأمر يتعلق بالمصلّين اليهود؟! هل كانت ستسمح لحدوث
ذلك؟ أم أنها ستلقي بهؤلاء التجار في غياهب السجون والمعتقلات، وتحرمهم من مصدر
رزقهم؛ بمصادرة بضائعهم وإرهاقهم بالمخالفات المالية والضرائب التي تشل تجارتهم
وتجعلها في مهب الريح.
نحن لا نطالب بلدية الاحتلال معاقبة أبنائنا وقطع أرزاقهم، وحاشى لله أن
نكون كذلك، ولكننا نتوجه إلى صانعي القرار بدعوة هؤلاء لأن يكونوا عونًا للمصلين
الصائمين وعناصر بناء وتشجيع على القدوم إلى المسجد الأقصى المبارك وإعماره
والصلاة فيه، وإرشادهم، وتبيان الضرر الذي يتركونه على المصلّين بتصرفاتهم هذه، ومنعهم
بجميع السبل من جعل بضائعهم أدوات إعاقة لمرور المصلين وتحركهم.
3) إغلاق أبواب
المسجد الأقصى ليلا، من قبل الاحتلال، وحصر دخول المصلّين إلى المسجد: حيث تقوم سلطات الاحتلال بإغلاق باب الأسباط بعد صلاة
المغرب مباشرة, مما يضطر المصلّين إلى التوجه إلى باب حطة؛ حيث تضاعف المسافة التي
عليهم قطعها، كما تضيَقّ الطريق أمام تزاحم المصلين.علمًا بأن باب الاسباط هو
الباب الثاني بعد باب الناظر في كثافة دخول وخروج المصلين, فهو يغطي سير المصلين
القادمين من الجهة الجنوبية والشرقية وجزء من القادمين من شمالي القدس.
ويؤدي ذلك إلى حدوث التزاحم الشديد، الذي يصل ذروته بعد صلاتي العشاء
والفجر، حيث يُجبر المصلي على أن يسلك الطريق إلى باب حطة، في طريق مزدحم بالسيارات؛
ولا يكاد يجد موطئاً لقدمه للحركة.
وفي هذا الجانب، لا بد من التوجه إلى المحافل والمؤسسات الدولية، من أجل
فضح هذه الممارسات الاحتلالية التي تهدف إلى إعاقة وصول المصلّين المسلمين إلى
المسجد الأقصى المبارك، وأحيانًا كثيرة يتسع نطاق الإعاقة هذا حتى يصل لحد المنع
البات والقطعي لآلاف المصلين من مختلف المناطق، ومن الفئات العمرية المختلفة.
التعسف
في استخدام الحقوق!
لا
بد من التنبيه للظواهر أو المظاهر السلبية التي علينا التوقف عندها بالمراجعة
والتقويم؛ للتوصل إلى الأفضل، بل أفضل الأفضل فيما يجب أن يكون عليه حال المصلين
في المسجد الأقصى، بخاصة في الحالات التي تتزاحم فيها الأقدام وتلتصق الأكتاف؛ من
كثرة زوار المسجد ورواده القادمين من أرجاء الوطن كافة، منها:
·
التعسف
في استخدام الحق الشخصي؛ وذلك بأن يجلس المصلي، و/أو يتحرك داخل المسجد وفي ساحاته
وباحاته، بما يسبب إزعاجاً حقيقياً لمن هو في الجوار أو من هم في مسلكه.
·
هناك
من يمنح نفسه "حق!!" القيام بأنشطة المتاجرة؛ بيع وشراء في باحات
المسجد. وهنا؛ لا نقول بحرمة المتاجرة، ولكننا نستنكر التسبب في تشتيت المصلين،
والتأثير "السلبي" على أجواء الاستقرار والطمأنينة، التي يجب على الجميع
المحافظة عليها، والحرص على إشاعتها في المسجد.
·
هناك من التصرفات والسلوكيات الناجمة عن عدم الانتماء
للمكان وعدم الرهبة من قدسيته ومهابته؛ التي ينبثق عنها تراكم القمامة، وبقايا
الطعام، وما يعنيه ذلك من انتشار الحشرات وانبعاث الروائح وغير ذلك من الملوثات
البيئية. وتتسع هذه الظاهرة في الأيام الرمضانية، جرّاء إقامة الولائم الأسريّة في
ساحات المسجد الأقصى وباحاته، دون القيام بالخطوة التالية؛ وهي إزالة آثار بقايا
الطعام، ووضعها في الأماكن المخصصة لها، والتي توفرها إدارة الأوقاف الإسلامية في
القدس الشريف، وكذلك المتطوعون من الكشافة وغيرهم الذين يسهرون على راحة المصلّين
وأمنهم وأمانهم.
·
التزاحم والتدافع، غير المنضبط والخارج عن المألوف،
عندما يتعلق الأمر بالحصول على حق ما من حقوق الفرد؛ كاستخدام الحمامات أو الحصول
على وجبة إفطار أو سحور أو غير ذلك. ففي هذه الحالات تجد من يخرج عن الأخلاق
الإسلامية "التي فطر وتربى عليها"، مستخدماً ما آتاه الله، سبحانه، من
قوة وقدرة في إيذاء الآخرين؛ لكي يحرمهم من حقوقهم، ويستولي على ما يريد بمنطق
القوة، وليس بقوة المنطق والخلق الرفيع.
·
ولعل أكثر القضايا إيلامًا، ظاهرة التسول في الساحات
المسجد الأقصى وباحاته، من قبل فئة ليست من الفقر في شئ؛ وإنما يكون المتسول
-ومعظمهن من النساء اللواتي يستخدمن الأطفال- يعمل لصالح جهة "تستثمر!"
فيه، مستغلة عطف المصلين المسلمين وتعاطفهم مع الفقراء، بخاصة في تلك الأيام الرمضانية
التي توقظ في نفس المسلم الرغبة في التصدق احتسابًا لوجه الله تعالى.
لنُذَكِّرَ
أنفسنا بما ينفعنا
قبل
أن نغادر هذه العجالة، نود التذكير بأن ثواب زيارة الأقصى لا يكمن في الصلاة فقط،
وإنما لها معانٍ أخرى أقلها الاستحمام بعطر التاريخ منذ اليبوسيين إلى أن أصبحت
مسرى رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، وما يعنيه ذلك من
التزام بالعمل ليل-نهار من أجل تحريره وفك قيوده وأصفاده، التي إن لم ننتبه لها
فلن يبقى قدس ولن يبقى أقصى لا سمح الله.. ونحن نشد على أيدي خطباء المسجد الأقصى
الذين يبدعون في رسم اللوحة التي تحمل ألوان الطيف الإيماني المتكامل؛ الذي لا
يهمل صغيرة ولا كبيرة في الهم العقائدي-الوطني المقاوم للظلم والطغيان، نقول:
- إنها
الرسالة الإيمانية التي على كل فردٍ من أبناء الأمة أن يعيشها في حله وترحاله، في
صلاته وصيامه وقيامه.. رسالة يجب أن تعتمر بها جوارح المؤمن وجوانحه ما دام الأقصى
يرزح تحت نير الاحتلال.
- إبراهيم
الخليل -عليه السلام- هو واضع المعالم الأولى للمسجد الأقصى الذي آل إلينا منذ
الإسراء والمعراج.. وعلى القدس
تنافست الإمبراطوريات، والقوى العظمى والصغرى عبر التاريخ، من كلدان
وبابليين إلى فراعنة ورومان وبيزنطيين ويونان.. وفي كل تلك المراحل، وإلى يومنا
هذا، كانت القدس ميزان السلام والحرب في هذا العالم..
- المسجد الأقصى المبارك ملتقى الأنبياء وبوابة
الكون؛ درب الأنبياء إلى السماء. وهو يعني العهدة العمرية رابطة الدم والأخوّة بين
الأديان.. كما أنه يعني الكرامة والكبرياء لأمة العرب وأمة المسلمين.
- والمسجد الأقصى المبارك هو المكان الذي تتطهر
فيه النفوس من القهر والذل والعجز والضعف. ففيه تصفو النفوس، ومن خلاله تشرئب
العيون نحو أعالي المجد الضائع للأمة.. وهو المحراب الذي يستقطب كل طاقات الحرية
والتحرير..
لذا،
فالصلاة في المسجد الأقصى المبارك: جهاد وكفاح وعطاء، وصدق وإخلاص ووفاء، وهي
إيمان وعشق وعناء. وهي تكافل وأخوة وإيثار. وهي ثقافة وعلم وحوار. وهي تحدٍ للاحتلال
وتعبير عن إرادة شعب وإصرار..
ختامًا،
على
كل من يدخل ساحات الأقصى وباحاته، سواء أكان خطيباً أو مصلياً أو عامل نظافة، أن
يستحضر مهابة المعاني والقيم والمثل العليا التي جاء بها الإسلام السمح، حتى تسمو
روحه لمستوى قدسية المكان ومسؤولية ما تمثله الصلاة في المسجد الأقصى من عبق
الإيمان. وليعلم كل منا أنه جندي مقاتل في معركة
الحق والباطل عبر المكان والزمان. بهذا فقط نصبح جديرين بدخوله والصلاة
فيه.
ونحن نستعرض هذه المظاهر السلبية، وغيرها مما لم يُذكر، فإننا نهدف إلى دقّ
ناقوس التنبيه، ولفت النظر إلى أننا نقف على ثَغْرٍ
من ثغور الإسلام؛ وأن إيذاءه وإهماله، لا يقل أثراً عن منع الصلاة فيه ومحاربة
رواده من الذاكرين الموحدين. ونذكر كل من يقوم بممارسةٍ ليست من الإسلام والعقيدة
في شئ، ويقوم بها عن علم، بقوله تعالى: "وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ
فِي خَرَابِهَا" (البقرة: 114).
[1] العصا، عزيز
(2016). المسجد الأقصى:
هموم رمضانية.. تتكرر رغم الجهود! نشر في
صحيفة القدس المقدسية بتاريخ 22/06/2016م. ص: 17.
إرسال تعليق Blogger Facebook