0
المسجد الأقصى المبارك بردائه الرمضاني:
وقفة صريحة مع الذات!
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 29/05/2017، ص: 15
                                                         عزيز العصا
ها نحن نعبر إلى شهر رمضان المبارك والمسجد الأقصى المبارك –قبلتنا الأولى- هو محط أنظار شعبنا الذين يسعون إلى الوصول إليه بكل السبل، ورغم إجراءات الاحتلال وحواجزه ومعيقاته، إلا أن هناك حضورًا مكثفًا للمصلّين القادمين إليه من أرجاء الوطن الفلسطيني كافة، وذلك لأداء فريضتي الصلاة والصوم في رحاب هذا المكان الطاهر المقدس، بكل المعايير، لما حظي به من ذكر في القرآن الكريم، وكرّمه الله سبحانه وتعالى بأن أسماه بهذا الإسم، كما كرّمه بمعجزة الإسراء والمعراج، مصداقًا لقوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الإسراء: 1).
بهدف توفير أفضل سبل الراحة والتيسير للمصلّين، نرى من الضرورة الوقوف، بل التوقف، عند المشاهد والشواهد والظواهر التي تجري في المسجد الأقصى المبارك من قبل بعض المصلّين، والتي تسبب الأذى للآخرين، بشكل أو بآخر. ونظرًا لكثرة تلك الظواهر ولضرورة تبيانها، فإننا نرى بتبويبها وفق العناوين الرئيسية التالية:
أولًا: التعسف في استخدام الحقوق:     
في ظل التضييق الذي يفرضه الاحتلال –بالقوة- على المقدسيين، في الأيام الاعتيادية –غير الرمضانية- فإن لكل مساحة في المسجد الأقصى المبارك ومحيطه، مهما صغرت، أهمية قصوى في استخدامها بما يخفف من معاناة الازدحام والتزاحم التي تترك في المصلّين، فرادى وجماعات، بالغ الأثر المؤلم وتزيد من معاناتهم.
ومن المشاهد السلبية في هذا المجال اصطفاف السيارات الخاصة للمصلّين القادمين بسياراتهم. إذ أنه من المعلوم أن هناك صعوبة فائقة في إيجاد مواقف للسيارات في شرقي القدس، ناجمة عن قلة الشوارع وضيقها، والقوانين الجائرة التي يفرضها الاحتلال لملاحقة أصحاب المركبات. رغم هذا كله، يُلاحظ أن هناك من يعمد إلى ترك مسافة مترين أو أكثر بين السيارة والأخرى؛ مما يؤدي إلى تضييع مساحات سدى، ويفوت الفرصة لاصطفاف المزيد من السيارات.
وليس ببعيد عن ذلك، هناك ظاهرة انتشار الباعة من أصحاب البسطات في الأبواب المختلفة، الذي يضيقون الطرقات، ويعطلون سير المصلين؛ ما يسبب أذى حقيقيًا لهم ويزيد من معاناتهم في هذه الأيام الحارة، ويضاعف الزمن اللازم لوصلهم إلى أماكن الانطلاق إلى بيوتهم، في رحلة عناء أخرى تنتظرهم. وفي ذلك ندعو المصلّين أنفسهم إلى مقاطعة هذه البسطات، وعدم التعامل معها؛ لأنهم بتوقفهم عندها يضاعفون الضرر والأذى على من هم خلفهم.
وفي ذات السياق، نتوجه إلى سكان البلدة القديمة من القدس، برجاء تجنب الحركة أثناء ذروة تدافع المصلّين، سواء عند القدوم أو عند المغادرة، ويمكنهم استغلال الوقت الواقع بعد دخول صلاة العشاء بربع ساعة ولغاية قبيل خروج المصلين من صلاة التراويح.
من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نقول لكل من "يتعسّف" في استخدام حقوقه والاعتداء على حقوق الغير، بأن ذلك ليس من روح الإسلام الحنيف الذي يدعو إلى التعاون والتعاضد والإيثار. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لا ضرر ولا ضرار"، كما يقول صلى الله عليه وسلم في حديث حسن: "من يؤذى المسلمين في طرقهم فقد وجبت لعنتهم".
ثانيًا: اصطفاف المصلّين وتنظيم الصفوف:    
لقد اهتم الإسلام بتسوية الصفوف في الصلاة، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ, فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ). وهذا يعني، أنه لا مبرر بالمطلق لعدم المحافظة -قدر الإمكان- على تواصل الصفوف وتراصها والتخلي عن مظهر التشرذم جماعة هنا وجماعة هناك.
كما أنه لا يجوز اختراق الصفوف وقطع صلاة المصلين، لأي سبب كان، فعلى من لم تكن عنده نية إكمال ركعات التراويح، أن لا ينغمس في الصفوف الأولى ثم ينسحب ويؤذي المصلّين ويضايقهم. كما أن هناك كثير من المصلين حين سجوده يجافي ويباعد بين مرفقيه وصدره، وهو بذلك يضيّق على من بجانبه ويؤذيه وفي الحديث "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة" صححه الألباني.
ثالثًا: سلوكات شخصية ليست من آداب المسجد:    
هناك من الصائمين من يملأ بطنه عند إفطاره، فيشحن 100% أو أكثر، ويأتي للصلاة وفيها يتجشأ وينفث الروائح الكريهة حوله بشكل "كروي!" ويؤذي المصلين بجانبه. ونقول لهؤلاء: ألا فخففوا، وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه.
كما أن هناك من المصلّين من "يطيب!" له الحديث في مواضيع شتى هي من نوع القيل والقال والأحاديث الدنيوية، وبصوت مرتفع، أو بهمس يشوش على المجاورين، ويشتتهم ويثير غضبهم وغيظهم. ونقول لهذه الفئة من المصلّين: كم هو جميل، وأنت في رحاب المسجد الأقصى المبارك، أن تستثمر فرص الخير، وأن تستفيد من الوقت في هذا المكان الطاهر، الأقرب إلى السماء، في الذكر والاستغفار والدعاء وقراءة القرآن. وندعوه لئلا يكون ممن ينطبق عليه ما ورد في الحديث الصحيح الذي صححه الألباني: "سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقًا أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة".
وأما بشأن الجلوس في المسجد، فإن من آداب المسجد أن يجلس الشخص بأدب وتواضع جم، ويكون شكل الجلوس إما جلسة التربع أو جلسة الصلاة، وتُكره تلك الجلسات العجيبة في أشكالها والتي تؤذي المسلمين وفيها تعسف وعدم احترام ولا مراعاة للآخرين. كما أن بعض المصلين يضع كرسياً وعليه متاعه أو سجادته وعليها أشياءه في الصف الأول أو في أي مكان في المسجد، ثم يذهب إلى بيته -يفطر او يقضي حاجاته- ثم يعود لهذا المكان الذي حجزه، وكأنه ورثه عن أبيه، وهو بذلك يحرم من يبكر ليأخذ أجر الصف الأول أو الغريب البعيد المشتاق للصلاة في الصف الأول!
رابعًا: اعتداءات على حرمة المكان.. ومساس بمهابته:    
إذا كانت الملاحظات أعلاه تتعلق بسلوكات أفراد ترحل برحيلهم، فإن هناك ما يؤلم عندما يتعلق الأمر بالاعتداء "السافر" والمباشر على مكنونات المسجد الأقصى المبارك، الذي لكل ذرة فيه دورها في صياغة تاريخ الأمة على هذه الأرض، كما أنها تتمتع بقدسية تجعل المعتدي عليها وقد ألقى بنفسه في مهاوي تصل حد اقتراف الجرم شرعًا.
ونستشهد، في هذا المقام، بما أفاد به المهندس "عرفات عمرو" المدير العام للمتحف الإسلامي في المسجد من أن هناك من يشذ عن هدف قدومه إلى الأقصى المبارك، من داخل الوطن وخارجه، وخصوصا في شهر رمضان الفضيل، عندما يخط الكتابات والرموز والرسومات المشينة على العديد من العناصر المعمارية والتاريخية والأثرية في المسجد والتي تمثل جزءًا من تاريخ وتراث المسجد الأقصى فتشوهه تغطي العديد من المعالم فيه. أضف إلى ذلك ظاهرة التسول المكثفة داخل المسجد. وكذلك محاولات النشل وسرقة مقتنيات المصلين والمعتكفين، وعدم الالتزام بقواعد النظافة وطهارة المسجد.
كما يشير عمرو إلى أن هناك بعض الولدان الذين يطلقون الألعاب النارية والمفرقعات بين جموع المصلين، ويتراكضون بينهم أثناء الصلاة محدثين الضوضاء والضجيج، مما يخدش حرمة الصلاة. وهنا، أضم صوتي لصوت المهندس عمرو، بما شاهدته بأم عيني في ذات إحدى الليالي التي جلست فيها جلسة إيمانية هادئة في رحاب المسجد الأقصى، عندما فوجئت بعشرات الكرات تتناثر حولي من كل جانب، يطيّرها أطفال يتضاحكون ويتدافعون، بحركات لا تلقي بالًا لا للسجد ولا مكانته وقدسيته ولا للمصلّين.
ولا يمكن المرور عن هذه الظاهرة قبل التوقف عندها وقفة جادة ومسئولة، تفيد بأن فيها مساس بحرمة المسجد الأقصى المبارك؛ حيث يتعدى الأمر لعب الأطفال ومرحهم -ضمن الحدود الممكنة-، لما يفتح الطريق لمن يتربص بهذا المكان المقدس، ويسعى إلى أن ينفي عن هذا المكان كل ما ورد في القرآن من هالة وبركة، قاصداَ إفراغه من مفهومه العقائدي الديني, ويسعى إلى تحويله إلى ساحات للعب واللهو وفضاءات للاستمتاع بالأشجار والخضرة والمياه. كما أن بلدية الاحتلال جاهزة لتنفيذ افتراءاتها وادعاءاتها بـ "ضرورة" جعل ساحات المسجد الأقصى ساحات عامة خالية من أي بعد ديني.
وفي محاكمة ضمير سريعة، نجد أن الأمر من مسؤولية الكبار وصانعي القرار والقائمين على النظام في ساحات المسجد الأقصى المبارك والمرشدين، بأن يتم متابعة هؤلاء الأطفال وتنبيههم وتوجيههم وتثقيفهم، وإحياء ضمائرهم ووجدانياتهم وأحاسيسهم باتجاه أن هذه البؤرة هي بوابة السماء، وهي مصلى الأنبياء ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء.
ونقول للكبار وللصغار من القادمين إلى المسجد الأقصى المبارك، بأن هذا المكان يتمتع بعبق التاريخ ومهابة العقيدة الإسلامية السمحة، وهو مكان للعبادة والاعتكاف والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. كما أن مدير عام  المتحف الإسلامي داخل المسجد يدعوهم لزيارته والتمتع برؤية المقتنيات التاريخية والنفيسة فيه، والتي تعبر عن تاريخ المدينة العريق ومسجدها الأقصى المبارك.
أخيرًا وليس آخرًا    
لا تشكل الملاحظات المذكورة إلا القليل مما يجب أن يقال، فالمجال لا يتسع لذكر المزيد.  وفي كلمة وداع لا بد أن نذكّر أنفسنا بأنه إذا كانت الطاعات والقربات والحسنات تضاعف في المسجد الأقصى، فإن الأمر كذلك في حال الإساءات والسيئات والذنوب التي تُضاعف على مقترفيها –والعياذ بالله- وفق قاعدة "الغنم بالغرم" كما يقولون. فاحذروا وانتبهوا أيها المقيمون في المسجد الأقصى المبارك، ولا تتهاونوا في أي سلوك أو تصرف، مهما صغر أو كبر. فمن منا –ولا نزكي على الله أحد- بإيمان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي كان إذا قدم إلى المسجد الأقصى صلى وقال: هيا بنا، عجلوا الرحيل علنا نذنب ذنباَ في المسجد". كما يروى ان "كعب الأحبار" رضي الله عنه كان يسكن في دمشق ويقدم إلى المسجد الأقصى عن طريق غور الأردن، فإذا وصل والعيزرية –شرقي المسجد الأقصى المبارك- بدأ بالتكبير ويظل على هذه الحال إلى أن يعود وينهي حين يحاذي العيزرية خوفاَ من الذنب.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 27/05/2017م -01 رمضان 1438هـ-


إرسال تعليق Blogger

 
Top