وعد بلفور:
توراة الحركة الصهيونية.. وإنجيل الغرب
الاستعماري
نُشِرَ في مجلة
أوراق فلسطينية –تصدر عن مؤسسة ياسر عرفات- رام الله. العدد: 18. ص: 91-104
عزيز العصا
مقدمة
حلّت في الثاني من تشرين الثاني من العام 2017 الذكرى المئوية للوعد الذي
سلّمه وزير الخارجية البريطاني آنذاك "آرثر جيمس بلفور" إلى اللورد "ليونيل وولتر دي روتشيلد"، يشير
فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي هذه الذكرى المؤلمة تبارت الأقلام وتدافع الكتاب والمحللون
والسياسيون للكتابة. وكان لكل كاتب زاوية رصد منها مبررات ودوافع بريطانيا لمنح
هذا الوعد اللاأخلاقي، والنتائج الكارثية التي نجمت عنه.
سوف نتناول في هذا المقال، وعد بلفور بأبعاده الفكرية
والأيديولوجية، وبمحركاته الاستعمارية من قبل القوى الاستعمارية العظمى ذات
المصالح في المنطقة. إذ أن وعد بلفور لم يكن عبارة عن بضعة أسطر صاغها
"بلفور" من خياله، إرضاءً للحركة الصهيونية، وإنما هو تعبير عن تحوّل
مفصلي، شهده العالم في تلك الحقبة، ما جعل بريطانيا تعتبره "إنجاز!"
تعتز به، وتحتفل بمئويته أكثر ابتهاجًا من "إسرائيل" نفسها التي أنشأها
هذا الوعد. كما سيتطرق المقال إلى مقدّمات الوعد، ذات العمق التاريخي والعقائدي،
ونتائجه الكارثية الممتدة لعقود قادمة، يصعب على المرء تقديرها.
نص الوعد: ألغام تستمر انفجاراتها
لا يمكننا التحدث عن هذا الوعد، دون سبر غور النص، وتفهّمه،
ووضع الأجيال اللاحقة في صورة الإجحاف والظلم الذي أوقعه عليها، لكي تبقى ممسكة بناصية
حقوقها ولا تتنازل عنها. فقد جاء في هذا الوعد ما نصّه:
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح
التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة
وأقرته:
"إن
حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين،
وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من
شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية
المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في
البلدان الأخرى."
وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علما بهذا
التصريح.
بقراءة
متمعّنة، نجد أن هذا النص يُقرّ بأنها فلسطين –وليس لها أي إسم آخر-، كما أنه يحمل
أيديولوجيا شرّيرة جوهرها: إن إلغاء شعب وإحلال شعب آخر مكانه، ووفق حسابات الحقل
والبيدر الاستعماريين، أمرًا بسيطا، وأن الشعوب مجرد "أشياء"، يمكن
التخلص منها بسهولة ويُسر، طالما أن القوة متوفرة، وقادرة على السيطرة وتحقيق
مصالح القوة الغازية".
ثم
يَفصِل، تمامًا، بين اليهود وغير اليهود؛ فاليهود "شعب" ولهم وطن،
وسيكون وطنهم "فلسطين"، وأما غير اليهود، على أرض فلسطين فليس لهم حق
المواطنة، وإنما لهم حقوق مدنية تتعلق بممارسة حياتهم اليومية "البيولوجية!"،
وممارسة شعائرهم الدينية. كما أن "وعد بلفور" يحافظ على حقوق اليهود في
البلدان الأخرى التي يتواجدون فيها.
بذلك، نجد أن منبع هذا الوعد الرؤية الصهيونية
الاستيطانية-الإقليمية التي لم ترَ في الآخر سوى أداة لتحقيق مآرب ومخططات، تسعى
من أجل بناء دولة يهودية على حساب الآخر().
محاولات غربية متعددة على مدى (120) عامًا.. والأهداف
استعمارية
تتمتع
فلسطين بأهمية
استراتيجية، عبر العصور. لذلك، كانت
محط أطماع القوى الاستعمارية؛ كل منها يسعى إلى توظيفها لصالح حركته التجارية
وتنقل جنوده بين القارات، لكي يحسم أمر معركته مع أعدائه لصالحه. فكان
"نابليون" القائد الفرنسي التاريخي أول من تنبّه إلى ذلك وأعلن على
الملأ، في العام 1798 أثناء غزوه لفلسطين، عن رغبته بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، عندما
وجّه نداءً (لليهود)، جاء
فيه():
"أيها الإسرائيليون، أيتها الأمة الفريدة فرنسا تقدم لكم ورثة آبائكم،
استعيدوا ما أخذ منكم بالقوة ودافعوا عنها، بدعم فرنسا ومساعدتها".
وقد
هدف نابليون من هذا النداء، الذي أعلنه في ظلّ الدولة العثمانية، وقبل (120) عامًا
من انهيارها، إلى تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية، منها():
إيجاد حاجز مادي بشري يفصل
ما بين
مصر وسوريا، واستغلال ذلك في تسهيل وتدعيم الاحتلال الفرنسي لكل منهما، وتهديد مصالح بريطانيا من خلال إغلاق طريق مواصلاتها المؤدّية إلى الهند.
بذلك،
يكون نابليون أول من يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، وقد سبق
"بلفور" بمائة وعشرين عامًا. الأمر الذي جعل وايزمان-الصهيوني يصفه
بأنه أول الصهيونيين الحديثين غير اليهود().
أما
بريطانيا فتجرّأت على الدولة العثمانية، وأخذت ترفع صوتها للاستحواذ على فلسطين،
بشتى الوسائل والطرق، فطرحت المشاريع والأفكار الطموحة بشكلٍ علني، منها:
- في أوائل القرن التاسع عشر، ألّف
"شافتسبري"؛ وهو شخصية بريطانية مهمة، كتابًا، بعنوان: "انجلترا
وفلسطين"، يقول فيه: "لا يوجد حتى الآن نظام فعّال للدفاع عن مواصلاتنا
مع الشرق على خط القناة، وأن الحكمة الاستراتيجية تجعل من الضروري التقدم إلى ما
وراء ذلك الخط، وتشكيل حصن للدفاع عن أهم نقطة حيوية حساسة في نظامنا الدفاعي...
وأن كل شيء يشير إلى أن تلال يهوذا هي الحامية الحقيقية ضد أي هجوم من سوريا"().
-
وفي
العام 1838 أطلق
اللورد آشلي/ البريطاني دعوة لجمع اليهود على أرض فلسطين؛ كخطوة أولى نحو تنصيرهم،
باعتبار أن استعمار فلسطين ضرورة للاقتصاد البريطاني، الذي شهد آنذاك ازدهاراً
وتوسعاً نتيجة للثورة الصناعية().
لم
يتوقف الأمر عند الفرنسيين والبريطانيين، وإنما شهد القرن التاسع عشر أيضًا دخول الألمان
والإيطاليين والأمريكان على الخط أيضًا. وطرح كلا منهم مشروعًا أو أكثر تهدف إلى
الاستحواذ على فلسطين:
-
في العام 1841 أعلن
الضابط الألماني "فون مولتكه" عن مشروع، ينص على إنشاء "مملكة
القدس"، يتم فيها بعث التقاليد والقيم الصليبية، ويجعل من فلسطين دولة واقية
بين مصر وسورية، وجسراً يربط أوروبا بالقارة الهندية. وفي العام 1853، دعا كريستوف
هوفمان/ الألماني إلى جعل فلسطين موطناً لشعب الله، وشعب الله هذا ليس الشعب
اليهودي، الذي لم يعد له وجود، وإنما هو الشعب المسيحي الإنجيلي().
- كما ارتفع صوت الفيلسوف السياسي الإيطالي "بنيديتّو
موسولينو"، مطالباً بعودة اليهود وسيلة من أجل نشر الحضارة الأوروبية في
الشرق(). وفي منتصف القرن
التاسع عشر، كتب وليام بلاكستون/ رجل أعمال
مسيحي-أمريكي، كتاباً بعنوان "يسوع آتٍ"، دعا فيه إلى تجميع
اليهود في فلسطين، وإلى منحهم الدعم المسيحي، كي تعود فلسطين وطناً لهم().
بهذا تكون المشاريع الأوروبية غير محصورة على الدافع الديني
الخاص باليهود؛ وإنما هناك توجّسات دينية أخرى، تتناقض مع اليهودية، كتلك التي تهدف
إلى حشد اليهود في فلسطين من أجل تنصيرهم.
وأما بالنسبة لليهود، فلم يكن حتى ذلك الحين، قد تأججت
فيهم الرغبات الدينية فيهم نحو فلسطين. وإنما انبثقت عن العقول والعبقريات
الاستعمارية أفكار ورؤى، تم افتعالها لاحقًا، ثم توظيفها بمنتهى العبقرية والذكاء، لكي تؤجج في البسطاء من
اليهود الرغبة والاستعداد والجهوزية للتضحية من أجل العودة إلى فلسطين. ففي الحوار الذي جرى بين "نيولنسكي")) وبين السلطان عبد الحميد الثاني، عندما سأله السلطان: هل اليهود مصممون
على أخذ فلسطين بأي ثمن؟ قال نيولنسكي: إذا لم يحصل على فلسطين فسوف يذهبون إلى
الأرجنتين)).
وهناك
خبيرة عالمية في الحفريات،
تقول: لا أثر لأي أبنية يهودية في القدس، ثم تؤكد أنه لا أثر لما بناه سليمان، كما
أن "اسرائيل" نفسها لم تعثر على آثار عن عهد الهيكل أو زمن سليمان أو
داود داخل المدينة القديمة(). وأما بشأن حائط البراق الذي يدعي اليهود ملكيته، فإن
لجنة دولية مشهورة بالآثار أصدرت في العام (1930) تقريرًا ينص على أن "حائط
(المبكى) بالذات أثر إسلامي مقدس، وهو ملك عربي ووقف إسلامي"().
"بلفور".. بين الاستيطان والوعود والضغوط
لاحقًا لما هو مذكور أعلاه، تتسارع الأحداث، ويبدأ الاستيطان
اليهودي في فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعلن الحركة الصهيونية
عن نفسها، وتعقد مؤتمرها الأول في العام 1897. وعندما
اشتعلت شرارة الحرب العالمية الأولى في العام 1914، كان في فلسطين (36) مستمعرة
يهودية، واليهود يشكلون 5%
من السكان، ويمتلكون 0.8%
من الأرض.
في
هذه الأجواء أخذت الحركة الصهيونية تنشط؛ لكي تستحوذ على ما تريده من الكعكة
العثمانية، وهي فلسطين. ففي العام 1915، قدم وايزمن وهربرت صموئيل
للإنجليز مقترحات لإقامة الدولة اليهودية ذات الطابع الاستعماري():
كان صموئيل يحلم بإرسال ثلاثة ملايين يهودي لحماية قناة السويس للإنجليز، بينما
حاييم وايزمن قدم اقتراحًا، بأنه في حال أصبحت فلسطين تابعة للنفوذ البريطاني،
مستعد لجلب مليون يهودي خلال (20-30) عامًا وزرعهم كحراس على قناة
السويس؛ وذلك بزيادة عدد المستعمرات اليهودية في القسم الجنوبي من فلسطين.
ليس هذا وحسب، وإنما هناك صهاينة آخرون، من داخل بريطاني
وخارجها، كانوا يلوّحون لبريطانيا، المنهكة من الحرب، بإغراءات لا تنافس من أجل إصدار
هذا الوعد. فيقول أحد أحفاد "روتشيلد –الذي تسلّم الوعد في حينه- أن النص
النهائي للوعد قد جاء "ثمرة المحاولة الخامسة لصياغته". كما
أن هناك من يرى أن وعد بلفور هو
"مأثرة" اليهودي "لويس برانديس"؛ الصديق الحميم للرئيس
الأمريكي "ولسون". وهناك دلالات تشير إلى أن علاقة جمعت بلفور من مؤسس
الحركة الصهيونية "هيرتزل"، كان عرّابها القس "وليم هتشلر"
ممثّل الكنيسة الأنجليكانية البريطانية في فيينا.
وعد بلفور: توراة الحركة الصهيونية.. وإنجيل
الغرب الاستعماري
هكذا، جاء وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني من العام 1917، فتلقّفه
اليهود وعد بلفور ببالغ الغبطة والفرح والسرور؛ لأنه ضمانة لهم من "بريطانيا
العظمى" لمساعدتهم في إنشاء دولتهم الحلم. وأخذوا يعضون عليه بالنواجذ،
باعتباره (توراة) اليهود –أو الحركة الصهيونية- في إثبات حقهم بالعودة إلى فلسطين،
وبالوطن القومي().
وأُتبع الوعد بانتهاء الحرب العالمية الأولى والدولة العثمانية
تلفظ أنفاسها، وتم
تنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة التي اقتسم فيها الغرب تركة الدولة العثمانية. وأُسنِدَ
أمر احتلال فلسطين واستعمارها إلى بريطانيا، صاحبة الوعد المذكور. وإذا من عدنا
إلى المشاريع-الحلم التي كان يطرحها المفكرون البريطانيون، بالاستحواذ على فلسطين
واستغلال موقعها الاستراتيجي، فإن وعد بلفور المدعوم أمريكيًا وفرنسيًا، في ذلك
الحين، هو بمثابة (إنجيل) بريطانيا على وجه الخصوص، والغرب على وجه العموم، وسوف
يستفيد منه كل من يسعى إلى السيطرة على المنطقة واستعمارها ونهب خيراتها.
بريطانيا.. وجريمة الحكم
منذ
أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها أحكمت بريطانيا قبضتها على فلسطين وشرق
الأردن، وقامت الإستراتيجية
البريطانية على "تجهيز" فلسطين وإعدادها؛ تمهيداً لِلّحظة
المناسبة التي تعلن فيها الدولة "اليهودية" على أرض فلسطين.
وفي العام 1922م انتدبت بريطانيا على فلسطين، ليصبح
"حاميها حراميها"، وليتم تنفيذ ذلك الوعد. فكان أول مندوب سامي على
فلسطين هو "هربرت صموئيل" الصهيوني المذكور أعلاه؛ الذي أسهم في صياغة
الوعد، والذي قال عند مغادرته إلى فلسطين: "أنا ذاهب لتنفيذ الأوامر المتعلقة بتحقيق مشروع دولتي؛ بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين"().
حتى أن "بلفور" نفسه كان يحضر إلى فلسطين، ويتابع
أمور "اليهود" عن كثب، ففي العام 1925 كان "بلفور" إلى جانب
صموئيل في افتتاح الجامعة العبرية، وقد قوبل حضوره بحالة هيجان شعبي فلسطيني، عبّر
عنه الشاعر "محمد علي الصّالح" في قصيدة بعنوان "ليلى وبلفور"، بحضور مفتي الديار الفلسطينية، في حينه، الحاج أمين الحسيني،
يحث فيها على الثورة والمواجهة، بالقول: قل
لهم "بلفور" يَأْتيكُمْ غَداً//
هل تكاتـَفْتُمْ إلى هذا الخَبـَرْ.
ونظراً لأن
الإستراتيجية البريطانية في إعداد فلسطين لإنشاء الدولة اليهودية، متعددة
الأبعاد والعناصر والأنشطة، فسنكتفي بذكر أهم ما ورد فيها من
إجراءات على الأرض من قبل المنتدِب البريطاني لصالح "الدولة الموعودة"،
رافقها أحداث جسام، منها:
1)
على المستوى الديمغرافي: فقد
شهدت حقبة الانتداب تسريب الأراضي لليهود من الفلسطينيين، بالتحايل والسرقة
والترهيب، فانتقل
حجم ممتلكات اليهود من (620) ألف دونم في العام (1920)؛ كأي ممتلكات لأقلية
تعيش في فلسطين، إلى (مليوني) دونم في العام 1948(). كما تم فتح أبواب فلسطين لمزيد من الهجرات
اليهودية، حتى ارتفعت نسبة اليهود من 5% بداية الانتداب، إلى 31% عند نهايته في
العام 1948
وبعدد (650) ألف نسمة.
2) على المستوى
الإداري: قامت بريطانيا بتوظيف الضباط العسكريين والإداريين البريطانيين الذين يؤيدون الصهيونية؛ من أجل تقديم الدعم لليهود في فلسطين. كما عملت على تهويد المؤسسات الحاكمة بصورة تدريجية؛ بتعيين عدد من اليهود الصهاينة، أو المسيحيين المتصهينين().
3) على
المستوى الأمني: قامت
بريطانيا بطرد العرب من أرضهم، ويكون ذلك بوضعهم فى ظروف سياسية واقتصادية وتعليمية وعسكرية صعبة، ثم وضع المهاجرين اليهود في أماكنهم. وعززت ذلك بالعمل على خلق اضطرابات بين العرب واليهود؛ حتى تسهل عملية الهجرة().
وعلى الجانب الآخر؛ غضت بريطانيا النظر عن الأنشطة العسكرية الصهيونية، بل
سهّلتها ويسّرتها، فتم إنشاء الهاغاناه، التي تعتبر نواة جيش (الدفاع) الإسرائيلي،
وغيرها من القوى الأمنية و/أو العسكرية الصهيونية. كما استغلت الحركة الصهيونية ظروف الحرب العالمية الثانية وموافقة حكومة لندن فشكلت لواءً يهودياً شارك في الحرب وحمل العلم العبري الخاص به().
4) على
المستوى الاقتصادي: لقد ساهمت السياسة التي اتبعتها سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين بشكل كبير في هيمنة الحركة الصهيونية على الاقتصاد في فلسطين(). كما قامت بعزل اليهود من سكان فلسطين عن الفلسطينيين، وإيجاد قيادة سياسية صهيونية؛ حتى تصبح نواة للحكومة القادمة().
وبحلول سنة 1944، أصبح الاقتصاد اليهودي في فلسطين
مختلف اختلافاً جذرياً عن الاقتصاد العربي، وهو ليس في واقع الأمر شديد الاختلاف
عن اقتصاد بريطانيا (العظمى)().
5)
على مستوى التعليم: استفادت الحركة الصهيونية من الدعم البريطاني في مجال التعليم والمنح المقدمة لها، دون التعليم العربي، فأسست العديد من المدارس الخاصة، والدينية، والمهنية، والزراعية، كما أسست الجامعة العبرية التي كانت القاعدة الأولى في التعليم العالي الصهيوني في فلسطين().
هكذا، تكون الأطماع
الصهيونية قد داهمت الشعب الفلسطيني وهو في حالة من الفقر المدقع، ولا يملك إلا ثروة
ضئيلة ومحدودة من الكوادر المتعلمة، مقارنة بالغنى الاقتصادي والثروة الضخمة من
الكوادر المتعلمة العليا، عند الحركة الصهيونية والجاليات اليهودية. لينتهي الأمر بالفلسطينيين إلى الاعتماد على الفطرة في
إنماء الوعي (بديلاً) للتحصيل المعرفي().
رغم الحال الذي هم فيه،
ثار الفلسطينيون على الانتداب-الاحتلال وقاوموه بما امتلكوا من سلاح بسيط، وقدموا
قوافل الشهداء والجرحى والمعاقين. وقام الاحتلال بحل جميع المنظمات السياسية
الفلسطينية، وترحيل زعمائهم، وتشكيل محاكم عسكرية لثوارهم، كانت تنفذ أحكام
الإعدام بلا هوادة.
بريطانيا.. والنكبة-الجريمة
لم تغادر بريطانيا فلسطين، إلا بعد أن ضمنت نكبة شعبها؛
من خلال تسليح اليهود، بشتى أنواع الأسلحة، وتدريبهم وتأهيلهم. ويقابل ذلك تجريد
العرب من أسلحتهم، وجعلهم عاجزين عن فعل أي شئ أمام القوة المفرطة التي يمتلكها
اليهود. ورغم ذلك، كانت الحرب على الشعب الفلسطيني، الذي قاوم قدر استطاعته، على
مدى نحو عشرين شهرًا، خلال الفترة (1947-1949). وانتهى الأمر بإقامة "دولة
إسرائيل" على 78% من أرض فلسطين.
يرى "أوري ديفيس" أن تلك النكبة قد أسفرت عن جريمة
ضد الإنسانية، جعلت نحو مليون فلسطيني من أبرز ملامحها:
1)
جريمة التطهير العرقي الواسع للشعب الفلسطيني.
2)
جريمة الترحيل الجماعي، التي نجم عنها تهجير زهاء مليون شخص –حوالى
90%- من العرب الفلسطينيين الأصليين، ممن كانوا يقيمون على الأراضي التي وقعت تحت
السيطرة الإسرائيلية. وبقي نحو (150,000) فقط داخل حدود الدولة الناشئة، تم
التهجير الداخلي لهم عن مساكنهم وأراضيهم أيضًا؛ ليصبحوا "حاضرون
غائبون".
3)
تجريد المُهجَّرين من ممتلكات عقارية؛ ريفية ومدينية شاسعة،
ومن الممتلكات المالية. ويقدر أن العرب الفلسطينيين كانوا يمتلكون نحو (90%) من
الأراضي، التي يتوزع عليها مئات القرى والمدن (تعتبر مدن إقليمية)، تم محو (500)
ناحية عربية؛ ريفية ومدينية وتسويتها بالأرض، ليتم إنشاء "دولة
إسرائيل".
4)
وضع تلك الثروة الضخمة، المنهوبة بالقوة، لصالح الاستيطان
الكولونيالي اليهودي (لليهود فقط). والتي قدرتها الأمم المتحدة، بنحو (120) مليون
جنيه فلسطيني (يساوي الجنيه الاسترليني في حينه؛ والجنيه يقابل حوالى ثلاثة
دولارات). وقدرت جامعة الدول العربية ذلك بعشرة أضعاف تقدير الأمم المتحدة.
5)
تجريد أولئك المُهجّرين من حقهم بالجنسية، خالقة بذلك مشكلة
اللاجئين الفلسطينيين.
6)
تم كل ما ورد أعلاه، وغيره، تحت مظلة استغلال "الاحتلال
النازي لأوروبا وما جرى لليهود من قبل النازية"؛ مما قلل من فرص انتقاد
المذابح التي تمت بحق الفلسطينيين.
نتائج أسوأ من الوعد.. وأوسع منه.. والمستقبل
مخيف!
نلاحظ
من نتائج حقبة الانتداب، التي انتهت بالنكبة وإنشاء "دولة بلفور"
الموعودة، أنه عند تنفيذ الوعد كانت
الحركة الصهيونية ومن خلفها بريطانيا، من السوء أضعاف أضعاف ما جاء في النص؛ بأن
تم محو فلسطين الشعب والحضارة والوجود والهوية، ولم يتوقف الأمر عند الحرمان من
المواطنة، وإنما قامت القوّة المفرطة المستخدمة بالإتيان على الحقوق المدنية
والدينية المذكورة في الوعد، التي لم يتم منحها لأصحاب الأرض الشرعيين؛ فعانوْا من
المذابح والتشريد والتهجير، ومن بقي منهم على أرضه، مُنع من ممارسة تلك الحقوق على
مدى نحو عشرين عامًا من تاريخ إنشاء الدولة اليهودية.
لم
يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما أخذت الدولة الوليدة، ومنذ أيامها الأولى بالتحرش
بجيرانها من دول الجوار (العربي)، وتدبير القلاقل والفتن داخل كل قطر من تلك
الأقطار بطريقة تضمن حالة الاضطراب الدائم وعدم الاستقرار الداخلي، فشاركت في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وامتدت
أذرعها الأمنية حتى المغرب وعمان واليمن. ويتم ذلك كله بالتنسيق مع الولايات
المتحدة وبريطانيا، ومع أذرعهما من دول المنطقة.
وفي العام 1967 كخيار إسرائيلي، أصرّ عليه ضباط هيئة
الأركان العامة للجيش، إذ تأكد لديهم ضعف العدو البالغ، فأرادوا توجيه ضربة قاتلة،
واستكملت احتلال ما تبقى من فلسطين، التي لا تزال ترزح تحت أطول احتلال في التاريخ
المعاصر.
وبعد هذه الحرب ونتائجها، تبدأ إسرائيل بالتمدد مكانيًا
وزمانيًا، بعد أن دمرت العديد من القرى الفلسطينية، بخاصة الحدودية منها، وسحقت
حارة المغاربة وحولت حائط البراق الإسلامي إلى "المبكى" اليهودي، ووحدت
القدس كعاصمة لها، ثم أخذت تعيث فسادًا في المدن والقرى والبلدات والمزروعات
والأشجار، ونشرت المستعمرات على طول الضفة الغربية وعرضها، حتى وصل عدد المستوطنين
فيها مؤخرًا إلى نحو (650) ألف مستوطن.
أي أن الوعد أصبح بلا حدود ولا مساحة لأرض، وأن شعوب
المنطقة المحيطة بفلسطين، بالإضافة إلى الشعب الفلسطيني، أصبحت تعيش تحت رحمة
عنجهية القوة التي تمتلكها دولة الوعد، وما تمتلكه من دعم -لا محدود- من أعتى قوى
الأرض. ولعل ما يفسّر ذلك، مفهوم موشيه دايان لـ "أرض الميعاد"، إذ يقول:
من الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة().
كما أن هناك حقيقة تفيد بأنه "لا يهم أين يعيش اليهودي، فإنه يحمل وطنه معه
من خلال دافعه الديني غير المحدود)).
وهذا ما يجعل المستقبل مخيفًا، وأن أبواب الصراع سوف تبقى مفتوحة على كل
الاحتمالات، على أرض فلسطين وجوارها، وفي أي بقعة في العالم؛ لأنه لا يمكن لأي كان
أن يحدد الأراضي المنصوص عليها في التوراة، كما أن "شهوة" الاستحواذ
تبقى مفتوحة، ولا تتوقف عند مكان ما أو زمان ما، طالما أن هناك من يقلّب
"التوراة" ويتصفحها ويقرأها وفق أهواءه الفكرية والعقائدية والسياسية.
للقانون كلمته
وأما
على المستوى القانوني المتعلق بهذا الوعد، فهناك العديد من القانونيين الذين
تناولوه من وجهة نظر القانون الدولي، وسوف أشير في هذا الجانب إلى "د. خليل
حسين" في مقال له في صحيفة الخليلج، بتاريخ: 08/11/2017، وأبرز ما جاء فيه:
1)
وعد بلفور هو اتفاق غير جائز بالمطلق، باعتباره يجسد صورة
انتهاك لحقوق شعب فلسطين، وبالتالي يعتبر مخالفاً لمبادئ الأخلاق والقانونين
الدولي والإنساني.
2)
لا يعتبر التصريح معاهدة دولية ترسي حقوقاً وواجبات على من
وقعها. وبريطانيا لا تملك فلسطين حتى تتمتع بمشروعية إصدار هذا التصريح. كما أن وعد
بلفور خطاب أرسله بلفور إلى شخص لا يتمتع بصفة التعاقد الرسمي وهو روتشيلد.
3)
كما يعتبر وعد بلفور باطلاً لعدم شرعية مضمونه، حيث إن موضوع
الوعد هو التعاقد مع الحركة الصهيونية لطرد شعب فلسطين من أراضيه، وإعطائها إلى
غرباء استجلبوا من أصقاع الدنيا كافة. وطرد شعب من أرضه ترفضه الشرائع الدولية.
4)
إضافة إلى انتهاك آخر لقواعد ميثاق عصبة الأمم المتحدة، عبر
إدماج تصريح وعد بلفور في صك الانتداب على فلسطين، وإقراره من قبل العصبة في
24/7/1922.
... وتستمر الجريمة
أمام عنجهية القوة التي تسيطر على العالم، عبر المائة عام الأخيرة، وأمام
الفظائع الموصوفة أعلاه، والتي جوهرها محو شعب وحضارة وهوية عن أرض فلسطين، وإنشاء
شعب آخر، قادم من خلف البحار، مكانه، لا يمكننا أن نتوقف عند شخص بلفور ووعده،
الذي كان تنفيذًا لسياسة دولته، وحسب، وإنما علينا أن نجمع المشهد من جميع أطرافه
الأوروبية وغير الأوروبية –من الغرب والشرق-، لنخرج بنتيجة مذهلة، مفادها: إن
المؤامرة واسعة ومتعددة الأبعاد، وأن "وعد بلفور" هو صورة أخرى لـ
"نداء نابليون"، وأن المجرمين بحق الشعب الفلسطيني، والذين سيحاسبهم
التاريخ –عندما يحل المنطق محل عنجهية القوة- كُثر، عندما حلّت مصالحهم محل
ضمائرهم.
إنها الجريمة ذاتها، التي انطلقت شرارتها قبل مائة عام
لا تزال مستمرة؛ فغالبية شعبنا في المخيمات، بعيدًا عن أرض الآباء والأجداد،
و"إسرائيل" التي أنشئت على أرضها، لا تزال تترعرع وتكبر وتتضخم على حساب
ما تبقى من الأرض، ولا تزال تلاحق الشعب الفلسطيني، أفرادًا وجماعات، بالسجون
والحروب، والحواجز، وبشتى أنواع القمع. كما أنها تعد الخطط، وتوفر آليات التنفيذ
لإغراق الجوار العربي بالفتن والحروب الداخلية، التي ستستمر لعدة عقود قادمة.
ليس هذا وحسب، وإنما لا تزال روح الجريمة، تسري في جسد
الصف الاستعماري، وعلى رأسه بريطانيا؛ بإصرارها، بعد مائة عام من وعدها، على أن ما
جرى بحق الملايين من الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد وحرمان من حق العيش كبشر تحت
الشمس، هو مشروع ولا يستحق حتى كلمة "اعتذار"!
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 22/11/2017
شلايل، عمر (2013).
فلسطين في صراع الشرق الأوسط. دار الجندي
للنشر والتوزيع. القدس. فلسطين. ط1. ص: 90.
محافظة (2009). مرجع سابق.
الحوت، بيان (1991). فلسطين (القضية-الشعب-الحضارة): التاريخ السياسي من
عهد الكنعانيين حتى القرن العشرين. دار الاستقلال للدراسات والنشر. بيروت، لبنان.
ط1. ص: 297-298.
حمدان،
عبد المجيد (2007). إطلالة -1- على القضية
الفلسطينية. المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديموقراطية. رام الله، فلسطين. ص: 24.
الدجاني والدجاني (2001)، مرجع سابق. ص: 34-35.
جبارة، تيسير (1986). دراسات في تاريخ فلسطين الحديث. مؤسسة البيادر
الصحفية. القدس، فلسطين. ط2. ص: 46-47.
الفرا، عبد الناصر. البُعد السياسي لفلسطين من عام 1914-1948. جامعة القدس المفتوحة – غزة
– فلسطين انظر:
العصا،
عزيز (2015). في كتابه "إسرائيل الأبارتهايدية "وجذورها في الصهيونية
السياسية": "أوري ديفيس".. يقولُ ما لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُه. نشر في
صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 10/12/2015م، ص: 18