عائشة عودة في "أحلام بالحرية":
سيرة ذاتية.. بنكهة روائية.. وملامح توثيقية
نُشِرَ في صحيفة
القدس المقدسية، بتاريخ: 27/01/2018، ص: 12
عزيز العصا
مقدمة وتقديم
عائشة عودة عودة؛ فلسطينية
من قرية دير جرير، ولدت تحت وابل الحرب العالمية الثانية، التي دفع شعبها ثمنها
كما دفع ثمن الحرب الأولى؛ من شبابه وثرواته، أضف إلى ذلك أن تلك الحرب كانت غطاءً
و/أو حافزًا لتدريب أعضاء الحركة الصهيونية وتأهيلهم لممارسة المذابح بحق هذا
الشعب بعد ثلاث سنوات من تاريخه. وما أن أقيمت الدولة العبرية، إلا وكانت "عائشة-الطفلة" شاهد؛ بالمشاهدة أو
بالسمع، على أشهر مذبحة من المذابح التي تعرض لها الشعب الفلسطيني إبّان النكبة
خلال الفترة 1947-1949، وهي مذبحة دير ياسين. فكان لتلك المذبحة بالغ الأثر في
نفسها.
نشأت "عائشة" في أسرة
مناضلة، وانتسبت إلى حركة القوميين العرب، إلى جانب عدد من رفيقات دربها. وبعد
النكسة في العام 1967، انتسبت للثورة الفلسطينية، وخاضت تجربة مقاومة الاحتلال، بل
محاربته وقتاله على مستوى الكفاح المسلّح؛ حتى مراحل متقدمة من القتال. اعتقلت في
العام 1969، وتعرضت لأقسى وأقصى أشكال التعذيب؛ الجسدي والنفسي والمعنوي والعاطفي
والوجداني، وهُدم بيتها، وحكم عليها بالسجن المؤبد. أمضت في السجن نحو عشر سنوات،
أبعدت بعدها قسرًا عن أرض الوطن، ثم عادت لتستقر في بيتها وقريتها مسقط رأسها ومحط
عشقها الأبدي.
بعد تردد، وحيرة، ومحاولات للكتابة، وتمزيق للأوراق، أطلت علينا "عائشة عودة"، بل أطلت على الأجيال القادمة
في العام 2005، بشهادة على العصر، وهي عبارة عن سيرة وثّقتها في كتاب، بعنوان:
أحلام بالحرية، تشكل الجزء الأول من تجربتها الاعتقالية. وما بين أيدينا الآن، هو
الطبعة الرابعة من هذا الكتاب، الصادر عن دار البيروني للنشر والتوزيع في العاصمة
الأردنية عمان، ويقع في مائتي صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليه عشرة سرديات، لكل
سردية منه عنوان، يشكل تمهيدًا لما بعده، وامتدادًا لم بعده.
سرد ينزاح نحو الرواية المتعددة الأبعاد..
استغرق مني هذا الكتاب بضع ساعات من القراءة، وإعادة القراءة، والتمعن فيما
ورد بين دفتيه، فوجدتُني أمام سرد جميل، جاء بلغة سهلة، متقنة أيما إتقان. وقد
انزاح السارد، وهو الكاتبة نفسها نحو التقنيات الروائية في السرد. ولأنها سيرة
ذاتية، فنجدها تلامس "الرواية السيرية"، ولاستخدامها أسماء أماكن وبلدات
وأحداث وشخصيات وتواريخ واقعية ومعروفة، فإنه تميل إلى "الرواية
الواقعية"، ولأنها وتّقت لوقائع وأحداث جرت باليوم والساعة، فهي تنحى باتجاه
"الرواية التوثيقية". ولكل من هذه الأوجه الروائية لسرديات "عائشة عودة"، في كتابها هذا، ثيمة
"قضية" رئيسية شكلت متكأً أرادت الكاتبة بثّه في قارئها، لمن يسعى إلى
سبر غور النص وتفكيكه وفهمه وإدراك معانيه. هكذا، جاء هذا النص بأبعاد سيريّة وواقعية
وتوثيقية، دون أن تطلق العنان للبطولة المطلقة، والقدرات الخارقة لصاحب السيرة؛
وفي ذلك أمانة ودقة في السرد كم نحن بحاجة إليها، عند التوثيق لقضيتنا، في كل
الحقب والظروف التي مرّت بها.
عتبة وسيمياء تنبئ عن نص جميل..
يتمتع الكتاب بعتبة أولى، هي العنوان والغلاف، ذات سيمياء تنبئ القارئ
وتعده بأنه مقبل على نص يحمل تركيبة من الجمال والبؤس والألم والفرح. فإذا كان
العنوان يومئ إلى الحرية والتحرر من قيود الاستعمار، التي تتغلغل حلقاته في معصم
شعبها جيلًا بعد جيل، فإن الغلاف يتخذ المنحى الجمالي لفلسطين وطبيعتها، من خلال اللوحة
الجميلة، لفتيات يتعاضدن ويلتحمن في شكل سيميائي جميل، من تصميم الكاتبة نفسها،
جميع مكوناتها من أوراق فلسطين الجميلة، من مختلف الأنواع والأشكال والألوان؛ كما
هي في الطبيعة؛ بلا تدخل أو رتوش.
نصٌّ ببنية معرفية متينة..
وأما بشأن بنائية النص، فإلى جانب استخدام الكاتبة للأدوات اللغوية
المتعددة من التصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة والسخرية (المرّة)، اجتمع
في هذا النص متعة السرد، المتحيز باتجاه التصوير السينمائي (ص: 40)، ومتعة التعرف إلى الحقيقة، ومرّرت بين ثنايا النص معلومات وبيانات وبيّنات متسلسلة بتتابع، شكلت للنص جسمًا
متينًا متماسكًا يوثَق بما جاء فيه، بما يمكّن لقارئ من استحضار ذلك الزمن بسهولة
ويُسر، منها:
أولًا:
النكسة شكّلت تحولًا جذريًا في وضع المرأة الفلسطينية:
تمكنت "عائشة عودة"
في هذه السيرة، وبكفاءة سردية عالية، تخللها مشاهد حية وصادقة وواقعية، تم رسمها
بالكلمات، تتعلق بحال المرأة لفلسطينية وأحوالها خلال منتصف القرن العشرين. ففي
عبارتها "كانت أمي تبكي، ومتى لم أرها تبكي؟"[1]
و"المناحة" التي تنصبها النسوة عند وقوع حدث ما، إشارة إلى أن دور
المرأة كان أقرب إلى العجز والخوف من المستقبل منه إلى الفعل والقدرة على التغيير،
ولعل الذروة تكمن في قولها عن والدتها "تنام بعيْن مفتوحة وأذنين تلتقطان
دبيب النمل؛ معتقدة أنها هكذا تحرس لبيت والأسرة"[2]. ثم
أخذت تتساءل: "لماذا تبكي النساء دون الرجال؟"[3].
أضف إلى ذلك الحادثة الطريفة عندما "قال لها عمها، وهو يقرأ شهادتها
المتفوقة: بس يا خسارة إنّك بنت"[4].
فترك ذلك كله "وشمًا في وعيها"[5]،
جعلها تندفع نحو الأمام، لتتقدم صفوف النساء والرجال معًا.
كما حرصت الكاتبة على استعراض جميع أسماء شريكاتها في
النضال، من أعمار، تتراوح بين الطفولة والشباب، ومن عائلات مختلفة، منها من كانت
"أرستقراطية"، لا يُتوقّع منها أن تزج ببناتها في ميادين الكفاح. وهي
بذلك تضعنا أمام انعطاف حاد في دور المرأة الفلسطينية، في مناحي الحياة كافة، حققه
التحول النوعي والكمي الذي عكسته النكسة في العام 1967، دون أن نغفل دور النكبة في
هذا التحول، من خلال السرد الخاص بمذبحة دير ياسين التي كانت فيها المرأة عاجزة عن
الدفاع عن نفسها ولا عن أسرتها؛ بسبب عدم الاستعداد المسبق والجهوزية للمواجهة.
بعد تجاوز مراحل التحقيق-التعذيب، تخصص "عائشة عودة" نحو الربع الأخير من سيرتها
هذه، ولثلاثة عناوين كاملة، هي: "استئناف الحياة"، و"زقزقة"،
و"مع المجموعة" لإبداعات المناضلات في مواجهة السجّان وقهره؛ من خلال
دوام الارتباط بالوطن بسمائه وأرضه وجباله وأزهاره، والتفنّن في مراوغة ذلك
السجّان، والقدرة العالية على انتزاع بعضًا من حقوق الأسير. ويقابل ذلك، أن المرأة
الإحتلالية قامت بدور قذر اتجاه بنات جنسها من الأسيرات، عندما كانت تغلق بحذائها
فم الأسيرة الفلسطينية المكبّلة والمسيطر عليها من كل الجهات.
ثانيًا:
شهادة حية على بشاعة الاحتلال:
لم أتردد في حياتي في الكتابة عن عنوان، بقدر ترددي عن
الكتابة عن الشهادة "الحية والجادّة والصادقة التي وثّقتها "عائشة عودة" في سيرتها هذه، فكلما مرّ من
أمامي مشهد من مشاهدها أشعر بالتقزز والقشعريرة من أفعال المحققين، الذين تتلمذوا
في الدولة العبرية، التي تعلن عن نفسها بأنها "واحة الديمقراطية في
العالم"!
لكي أترك للقارئ اكتشاف ما عجزتُ عن اكتشافه وفهمه وإدراكه،
أكتفي بالإشارة إلى أنه تم توظيف علوم الشيطنة كافة من أجل انتزاع اعتراف من
الأسيرة الشابة الجميلة، التي أسمعوها كل قذارات أحاديث الشارع الساقط الخالي من
الأخلاق والقيم الإنسانية. فالمحقق-القاتل مع "رسمية عودة"، يصبح ودودًا
رحيمًا مع "عائشة"؛ للحد الذي جعلها تعتقد بأنسنته ووعيه المتقدم على
غيره من المحققين، ولكن سرعان ما اكتشفت حقيقة بشاعته.
وأما أساليب التعذيب، فحدّث ولا حرج؛ باستخدامهم كل ما
يمس كرامة النفس البشرية، وامرأة احتلالية،
تستخدم قدمها في إغلاق فم بنت جنسها؛ لتمنعها حتى من الصراخ تحت وطأة الألم.
أضف إلى ذلك، أن يمتد التعذيب ليشمل كل ما يتعلق بحياة
الأسيرة من سكن وانتماء وعواطف ومشاعر ووجدانيات. فكم هو محزن مشهد هدم "البيت
القديم، المبني في ثلاثينيات القرن لعشرين، الذي رأت فيه أول نور حياتها؛ فشكّل
حميمية إلى نفسه ووجدانها"[6].
ثالثًا:
شهادة أخرى بشأن مذبحة دير ياسين نحن بحاجة لها:
كانت "مذبحة دير ياسين" من أشهر المذابح التي
قامت بها عصابات الحركة الصهيونية إبّان النكبة، وفي هذه السّيرة نجد أن "عائشة عودة" أضافت شهادة مهمة للغاية، يجب
أن تضاف إلى ما تمّ جمعه من شهادات عيان على تلك المذبحة. فهي التي كانت في دير
ياسين قبل المذبحة بأسبوع أو أكثر، وتصف نساءها الجميلات الحضاريات وبيوتها
الجميلة الملوّنة، تعيد أمامنا، وبعد نحو سبعين عامًا ما رأته وما سمعته، بصدق
وموضوعية تستحق التوقف عندها بالدراسة والتحليل[7].
تلك المذبحة التي اشتعل أوارها وامتدت نيرانها ولهيبها حتى أكلت الأحياء أيضًا،
وليس الأموات؛ وذلك لبشاعة القتل والرعب باستخدام أدوات القتل المتاحة كافة.
رابعًا:
عائشة عودة لا تعقّم شعبها:
لم ألمح من خلال السرد لهذه السيرة أن الكاتبة بذلت جهدًا لإخفاء، أو
التغاضي عن، ما يتعلق بالوجه الآخر للمجتمع، وهو أولئك العملاء والجواسيس، الذين
يشكلون السر الكامن خلف الانكشافات السريعة للخلايا الفدائية، ولأماكن إخفاء
السلاح. أضف إلى ذلك من سارع إلى الانهيار أمام محققي الاحتلال، وأخذ يدلي
بمعلومات وبيّنات كان بإمكانه عدم لبوح بها وإخفائها بسهولة ويسر. كما أن لكاتبة
وضعت نفسها أمام مرآة لحقيقة كما هي، فاعترفت بأخطائها وتعجّلها واختلال توازنها
أمام المحققين، إلا أنها في لحظة ما، ما فتئت أن عادت إلى استعادة قدرتها على
الصمود والتحدي، أيًا كان الثمن، ونجحت في ذلك.
خلاصة القول،
لقد
تمكنت "عائشة عودة"،
في هذا الجزء (الأول) من سيرتها، من قول ما نحن بحاجة له من التوقف مع الذات،
بنظرة نقديّة بنّاءة؛ تجعلنا أكثر قدرة على مواجهة الاحتلال، من أجل نيل الحرّية،
التي تبدأ بالأحلام وتنتهي بواقع ملموس، عند ضبط إيقاع النضال وتنظيمه وتأطيره
وتعميقه، سياسيًا وفكريًا، في نفوس الجماهير.
لقد
وثّقت للوطن إبّان الحقبة الممتدة بين النكبة والنكسة وما بعد ذلك، ببيئته
الطبيعية الجميلة المعتمرة بالجمال الأخّاذ، ومبانيه المصممة بطريقة تجعلها مفتوحة
على الطبيعة، وتبقى معها في حالة عناق دائم، ما يخلق بينها وبين ساكنيها حميمية
فوق العادة، وهذا ما يدفع الاحتلال إلى البحث عن أي سبب لنسفها وإزالتها من
الوجود. كما وثّقت للمرأة الفلسطينية بعيد النكسة مباشرة، ودورها الكفاحي، على
أعلى المستويات، إلى جانب الرجال الأبطال وأفعالهم وتضحياتهم، في مواجهة الاحتلال
وغطرسته، فكانت العمليات الفدائية ذات أثر فاعل، جعلت الاحتلال وأجهزته الأمنية
يرتبكون، وتتلاشى عنجهيتهم وصلفهم أمام تلك العمليات مهما صغرت.
ويبقى
القول، أنني أرى في هذه السّيرة ما يجب البناء عليه في "استكتاب"
المناضلات والمناضلين، والمجاهدات والمجاهدين، لتوثيق سِيرهم في الأسر، لتضاف إلى
سيرة شعبنا ومسيرته، وروايته الوطنية، في مواجهة رواية ضالّة ومضلّة يتبنّاها
أعداء هويتنا ووجودنا على هذه الأرض؛ تدعي بأن فلسطين كانت "أرض بلا شعب".
وأما هذه السّيرة، فإنني أوصي بوضعها "بكثافة" على رفوف مكتبات المدارس؛
لكي يبقى أبناؤنا على تواصل مع سير الآباء والأجداد، الذين ضحوا دفاعًا عن الأجيال
القادمة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تم قراءة الكتاب وتحليله في الرباط-المغرب، 4-6 كانون الأول 2017م
إرسال تعليق Blogger Facebook