الإسراء والمعراج:
منحُ هويّة للمكان.. وتحوّل تاريخي للبشريّة
نشر في صحيفة
القدس المقدسية، بتاريخ: 13/04/2018م، ص: 15
عزيز العصا
قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"
(الإسراء: 1). تتضمن هذه الآية الكريمة العديد من
المفاهيم، ذات الصلة بمعجزة الإسراء والمعراج. إلا أن جوهر تلك المفاهيم يقوم على
وصف مسار رحلة الإسراء؛ انطلاقًا من المسجد الحرام بمكّة وصولًا إلى "المسجد
الأقصى في "بيت المقدس. فكانت المرّة الأولى التي عرف فيها المسجد الأقصى
بهذه التسمية؛ وفي ذلك منح شهادة ربّانيّة للمكان: تسمية وتنسيبًا وتبعيّة لديانة
الإسلام.
إن المتتبع لحادثة الإسراء
والمعراج، والدارس لمجرياتها وتفاصيلها، يجد أنها شكّلت مفصلًا –أي حدًّا فاصلًا- على
مستوى العالم؛ فقد أسست حادثة الإسراء والمعراج إلى انطلاق الإسلام في أرجاء
المعمورة، وتحقيق تغيرات جذرية في حياة البشرية جمعاء، على المستويات المختلفة،
أهمها أن الإسلام قاد البشرية، نحو اتجاه جديد وحياة جديدة، في أجواء من الإيمان والعدل.
وقد
أشارت الحقائق على الأرض إلى أنه إبّان انطلاق الدّعوة الإسلامية – في مطلع القرن السابع
الميلادي- كانت البشريّة بشكل عام، ومنطقة الشرق بشكل خاص، تقع تحت طائلة ظلم
وفساد عميقيْن؛ فكانت المنطقة تشهد انشقاقات داخل الكنيسة الأرثوذكسية، وكان الفرس يحتلون مناطق من بيزنطا بما فيها فلسطين، قبل أن يسترجعها
الروم (انظر: مقال: الإسراء والمعراج: إعجاز إلهي...وتحول تاريخي، مجلة الإسراء،
العدد: 139). كما جاء الفتح الإسلامي في أواسط القرن السابع، فوصلت
الفتوحات إلى بيت المقدس، واتسعت الفتوحات لتقضي على مملكة الروم، ويستقر الأمر بنشر الإسلام في العراق والشام
ومصر،
ومناطق واسعة من الإمبراطورية البيزنطية، حتى أصبحت الكتلة العربية الإسلامية
الممتدة بين شرقي البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئه الغربية، قوة فاعلة وقادرة على
مواجهة الكتلتين الأخريين: الروم والفرس([1]).
ووصلت الفتوحات الإسلامية، في أقصى حدود مساحتها،
إلى (12) مليون كيلو متر مربع، فانتشر
الإسلام في أرجاء الأرض كافة؛ ولم يكن هناك قارّة أو مكان إلا ووصل إليه، وأقيم
فيه أذان التوحيد لله الواحد الأحد. ليعيش سكان تلك المناطق وقاطنيها
في ظلال عدل الإسلام، وتشجيعه للعلم، وإعمال العقل في شتى أمور الحياة([2]).
بذلك، تولى
المسلمون المسؤولية عن القدس، والمسجد الأقصى، فعمروا المكان وشيّدوه ومنحوه سمات
الإسلام الحنيف وخصائصه، عندما أمّه العلماء من كل حدب وصوْب فأقاموا فيه وحوله
وبالقرب منه. وما قبّة الصخرة المشرّفة إلا أنموذجًا حيًا على مدى التقدم والرقي
والإبداع الذي ميّز الحضارة العربية الإسلامية التي أدارت المكان وحفظته وحافظت
عليه.
ثم جاءت الحروب الصليبية، التي سالت فيها الدماء الغزيرة، واحتُلّ المسجد
الأقصى وبيت المقدس لمدة تسعين عامًا، تم خلالها تحويل قبة الصخرة المشرّفة إلى
كنيسة، وأقيمت صلوات المحتلّين داخل المسجد الأقصى، ورُبطت خيولهم في باحاته
وساحاته.
بقي الوضع على هذا الحال إلى أن حرره
صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله، من دنسهم، وأعاد للمكان قدسيته ومهابته، وفتحه على
مصراعيه للعبادة والعلم والعلماء، ولإيواء الفقراء والمعوزين، ولغير ذلك من
المرامي والأهداف.
منذ ذلك الحين، بقي مكان إسراء رسول الله، صلى الله
عليه وسلّم، مصون مهاب الجانب، وله قدسيته ومكانته في نفوس المسلمين، فقد عادت له
مكانته الدينيّة والعلمية؛ عندما حظي باهتمام خاص من قبل الحكام، في الحقب
الزمانية المختلفة، وكان قبلة العلماء والباحثين والدارسين من أرجاء الأمة كافة،
من الشرق والغرب. ولم تتعرض القدس والأماكن الدينيّة فيها
لأي أذى حتى النكبة في العام 1948م؛ عندما قامت فيها جيوش (الإرغون والهاجاناه) بإطلاق مئات
القنابل الهدامة والمحرقة على المدينة المقدسة، فأصاب أماكنها المقدسة ومؤسساتها
الدينية بالدمار والخراب([3]).
كما أنه في حرب حزيران في
العام 1967م، وما إن تمكن الاحتلال الإسرائيلي من دخول القدس إلا وشرع في إطلاق
أيدي المحتلين لمدة (3) أيام؛ تم فيها السلب والنهب للبيوت والدكاكين والسيارات،
وتجريف العمارات والأماكن الأثرية، وذلك على يد وزارة الأديان التي أسكنت
المهووسين من اليهود في الأماكن التي كانت دور علم للمسلمين. ثم بدأت قصة تهويد
المدينة من خلال نهب أراضيها وعقاراتها، ثم الجدار الذي شطر شرقي القدس إلى شطرين:
الأول تم ضمه لغربي القدس، والآخر أُلحق بالضفة؛ لضمان تفوق ديمغرافي لصالح
اليهود. وقد أدى هذا الشطر إلى أن قُسِمَ المنزل الواحد إلى قسمين([4])،
وغير ذلك من الإجراءات ذات الطابع التهويدي المتعلقة بمناحي الحياة كافة، كالتعليم
والثقافة والاقتصاد... إلخ.
الآن، وقد مرّ نصف قرن
ونيّف على الاحتلال الإسرائيلي للقدس وفلسطين، نجد أن الاحتلال، وبدعم مطلق من
الحلف الاستعماري، يخطط، على مدار الساعة من أجل العبث في مكان الإسراء والمعراج،
وشطبه من الوجود، وتهويده، والحفر الدائم والمستمر تحت المسجد الأقصى المبارك
وحوله، من الجهات جميعها، وإقامة الحدائق التلموديّة، وإنشاء الأماكن التلمودية
الأخرى مختلفة الأغراض والأهداف. ويرافق ذلك آلة إعلامية ضخمة، على مستوى العالم،
مدعومة من الغرب والشرق الاستعماريين، تروّج إلى حتمية بناء ما يسمّى بالهيكل مكان
المسجد الأقصى المبارك.
ماذا بعد،
والحالة هذه،
فإن الشعب الفلسطيني أولًا، ومعه أحرار الأمة، مطالبون باليقظة والتيقّظ من أجل
حماية مكان الإسراء والمعراج الذي مُنح لهم، وأصبحوا مكلفين بحمايته والدفاع عنه،
بقرار ربّانيّ، في معركة طويلة وشرسة، تقوم
على صراع بين الحق والقابضين عليه، وبين الباطل ومن يتبناه من قوى الشر والظلم،
على طول العالم وعرضه من جهةٍ أخرى.
لأن للباطل
جولة، فما علينا إلا الصبر والصمود والمحافظة على ما تبقى بين أيدينا، وكف الأيدي
الآثمة عن العبث لصالح محتل تلتهم نيرانه كل ما تصل إليه من تراث وحضارة، وكل
عناصر الهوية الدينية والوطنية.
فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 11/04/2018م
[1] غنادري،
سميح (2009). "المهد العربي: المسيحية المشرقية على مدى ألفي
عام". دار 30 آذار للنشر. ط1. ص: 193.
[2] العصا، عزيز (2016). "مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم: نور
سطع.. شقّ ظلمة المكان والزمان.. وعم العدل محل الظلم". مجلة الإسراء. العدد
125. ص: 20-27.
[3] الخالدي، حسين فخري (2014). "ومضى عهد المجاملات... مذكرات" – بيروت 1949-.
دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن. ط1. المجلد الأول. ص: 78-79.
[4] الخطيب،
أنور عبد الحي (1989). "مع
صلاح الدين في القدس- تأملات وذكريات". دار الطباعة العربية- القدس. ص: 138-141.
إرسال تعليق Blogger Facebook