0

الإستشراق والإستشراق معكوساً
نشر في صحيفة القدس بتاريخ 24/10/2018، ص: 11
د. وليد الشوملي
يعرف الإستشراق بأنه دراسة الشرق وبالأخص الشرق الإسلامي بما يحتويه من ثقافات وأديان وآداب وغيرها. كما يعرفه البعض على أنه ذلك العلم الذي يقوم بدراسة وتحليل المجتمعات الشرقية من قبل علماء الغرب. وبما أن الإستشراق بلغ ذروته في القرنين الثامن والتاسع عشر اللذين اتسما بالعصر الإستعماري، فقد أضحت كلمة الإستشراق ذات مفهوم سلبي وأصبحت صورة المستشرق وكأنه ذلك الشخص الذي ركز كل اهتمامه على تشويه صورة الشرق وتقديم المعلومات للمستعمر ليسهل عليه مهمته في استعماره. ففي كتابه  "الاستشراق" الصادرعام 1978 حاول إدوارد سعيد تحويل صورة المستشرق من باحث عن آثار حضارة مندثرة أو محقق في مخطوطة نادرة أو في فترة تاريخية مغمورة الى مرتزق يأتمر بإمرة أسياده الإستعماريين. ولم تقتصر تلك الاتهامات على الغربيين الذين درسوا الشرق بل شملت أيضا بعض المفكرين العرب الحداثيين أمثال طه حسين وعلى عبد الرازق ولويس عوض وتوفيق الحكيم الذين نادوا بتجديد الفكر الإسلامي العربي. فقد تم وصف هؤلاء بتلاميذ المستشرقين وأن هدفهم الأوحد هو ترديد مقولات المستشرقين وتشويه التاريخ الإسلامي والحضارة العربية، إلى حد جعل الشيخ محمود محمد شاكر وصفهم "صبيان المستشرقين" في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "الرسالة" وكان هذا الأخير يردد دوما "الاستعمار، التبشير، والاستشراق" هي ثلاثة أسماء لشيء واحد.
يتهم بعض المفكرين سعيد بأنه وضع كل المستشرقين في سلة واحدة وأنه قام بإعادة إنتاج أطروحة المفكر الماركسي أنور عبد الملك الذي هاجم الاستشراق بوصفه أداة الاستعمارالغربي لتكريس التخلف والتبعية في الشرق مستثنياً الاستشراق الروسي كون روسيا لم يكن لها يوما أطماع استعمارية في الشرق، وأن الثقافة الروسية أقرب لثقافة الشرق منها إلى العالم الغربي وبالتالي فقد قامت روسيا باستيعاب ثقافة الشرق ونظرت اليه نظرة محايدة .
إستند سعيد في منهجه على فكر ميشيل فوكو الذي يخلص إلى أن المعرفة تؤدي إلى السلطة، وبالتالي فقد نظر سعيد إلى الإستشراق كأداة لمعرفة الشرق وبالتالي أنتجت السلطة التي أدت إلى استعمار ونهب ثروات الشرق. ويخلص الى أن"الاستشراق" هو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه، وهو مؤسسة إمبريالية، وأن جوهر الإستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية"
حاول المفكر الراحل مهدي عامل الرد على إدوارد سعيد في كتابه "هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ ماركس في استشراق ادوارد سعيد" التأكيد على أن إدوارد سعيد في كتاب الإستشراق قد وقع في نفس المشكلة التي حاول أن ينتقدها وهي أن الغرب ينظر الى الشرق بنظرة الآخر أو ما يعرف بثنائية "الذات والآخر". فسعيد حسب مهدي عامل قام بقلب الأدوار وأصبح هو الذات والغرب هو الآخر.
صحيح كان لبعض المستشرقين دوافع عنصرية واستعمارية مثل الامريكي برنارد لويس والفرنسي أرنست رينان وآخرين، ولكن هذا لا يعفينا من التفحص الدقيق لكتابتهم وذلك لتجنب التجني عليهم جميعا وإدانتهم جميعا على حد سواء.أضف الى ذلك كان هناك عدد لا بأس به من الذين كتبوا عن الشرق أو عن خبرتهم في الشرق إما هواة، أو صحفيون، أو رحالة أو فنانون أو أشخاص مفتونون بسحر الشرق وغيرهم. وبالتالي لم تكن كتاباتهم تستند الى منهجية علمية مما انعكس سلبا على صورة الشرقي لدى الغرب.
وعلى أية حال، لم يكن سعيد الأول في تقديم الصورة القاتمة عن المستشرقين، فصورة المستشرق القاتمة سبقت سعيد بكثير وتعود جذورها الى قرنين أو ثلاثة قبل ظهور كتابه ذاك. فقد قام الكثير من التقليديين والسلفيين واتباع حركات الإسلام السياسي بالحكم على بحوث المستشرقين على أنها كلها تهدف الى هدف واحد ألا وهو استعمار الشرق ونهب خيراته.
لقد بدأ الإستشراق بالأساس بدافع دراسة الشرق وحضاراته المتعددة والمتعاقبة ومن أجل الكشف عن الكثير من أوجه الاختلاف أو التشابه بين الحضارتين الشرقية والغربية كون الحضارات الانسانية كلها تكمل بعضها البعض وتتلاقح مع بعضها البعض لتقدم للانسانية حصيلة إنتاجها المادي والفكري والادبي.
يجب أن نعترف أن للاستشراق وجه ايجابي وهذا بدوره عرفنا على أنفسنا وكشف لنا عن اسرار خفية وغامضة في حضاراتنا الشرقية لم نكن نعرفها من دون تلك الدراسات، فنحن مدينون على سبيل المثال للإستشراق الألماني الذي لم يكن على وجه العموم ذات صبغة استعمارية لأن ألمانيا لم تكن قوة استعمارية كدول أوروبية مثل بريطانيا أو فرنسا. وكذلك فقد تعلمنا من عدد لا بأس به من المستشرقين المنهجية العقلانية في قراءة الأديان وفي تحقيق المخطوطات. كما تعلمنا منهم أهمية قراءة التراث قراءة عقلانية وواعية لا قراءة عصبوية تؤدي بنا إلى التربع على أمجاد الماضي ونسيان حاضرنا البائس ، بل توظيف ذلك التراث وعصرنته ليكون جسراً نعبر منه إلى عالم الحداثة والتنوير حسب محمد عابد الجابري.  
 ويجب أن لا ننسى أيضا مساهمات المستشرقين النزيهين والذين كانوا أوفياء لمنهجيتهم العلمية مثل مكسيم رودنسون ولويس ماسينيون الفرنسيين. كما أن فكتور هوجو افتتح ديوانه الشعري "الشرقيات" بثلاثة أبيات للشاعر الفارسي سعدي الشيرازي.  وكتب أيضا قائلاً "لم تحرز الدراسات الشرقية مثل التقدم الذي أحرزته اليوم، فقد كان الناس في عهد لويس الرابع عشر هيلينيين (أي ذوي ثقافة إغريقية) أما اليوم فقد أصبحوا شرقيين. وبالتالي علينا أن ننظر الى الإستشراق نظرة موضوعية معتدلة وأن نفرق بين الغث والسمين  دون أن نقع في فخ"الاستشراق المعكوس"وهو المسمى الذي أطلقه صادق جلال العظم على مواقف وآراء مفكري الشرق العربي إزاء كتابات المستشرقين، ويتلخص في أن أولئك جعلوا من الغرب مرجعية حضارية ونافذة يجب أن يتم النظر من خلالها إلى الحضارات الأخرى ومن معايير غربية.
 صادق العظم ينتقد تأثر سعيد المبالغ به من قبل المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يبني أهمية السلطة التي تخلقها المعرفة. ويبين في كتابه "الاستشراق والاستشراق معكوسا" أن إدوارد سعيد جعل جزءا من البنية الفوقية للمجتمعات الأوروبية المحرك الأول لاستعمارها الشرق العربي، أي أن الخطاب الإستشراقي هو الذي أدى الى التوسع الإستعماري الأوروبي خاصة في بداية عصر النهضة. وبالتالي يتساءل العظم: هل يشكل الإستشراق المحفز الأول لأوروبا ليجعلها تسعى لتحقيق مصالحها الحيوية في الشرق، أم أن المسألة معكوسة وهو أن المصالح الحيوية لتلك الدول في الشرق أنتجت خطابها الإستشراقي؟
وخلاصة القول، أنه مهما كانت دوافع هؤلاء المستشرقين، فإنهم قدموا لنا كنوزاً أثرية وجوانب لم نكن نعرف تفاصيلها عن حضاراتنا الشرقية،  وبالتالي علينا توظيفها بطريقة تخدم مصالحنا وتفتح لنا نافذة نطل من خلالها على الحضارة العالمية وليكون لنا موطيء قدم في تلك العالمية لتكون حضارتنا الشرقية على قدم المساواة مع الحضارات الأخرى  وأن  تتلاقح معها لا أن تنصهر فيها كما ترنو إليه العولمة الإمبريالية.

صحيفة القدس صفحة 11
24.10.2018



إرسال تعليق Blogger

 
Top