0

شلومو ساند واختراع الشعب اليهودي
د. وليد الشوملي

ولد المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في النمسا عام 1946 لأبوين يهوديين من بولندا كانا قد نجوا من الهولوكست، ثم انتقل مع أسرته إلى يافا عام 1948. وقد التحق ساند في شبابه باتحاد الشباب الشيوعي الإسرائيلي لينضم بعدها لحركة "متسبين". وعندما كتب محمود درويش في 1967 قصيدته "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" بقي ذلك الجندي لغزا حتى كشف بعد أربعين عاما عن هويته ليتبين أنه المؤرخ شلومو ساند مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي" الذي عبر عن صحوة ضميره وندمه على خدمته في الجيش. وقد أثار ذلك الكتاب جدلا عالميا واسعا بين مؤيد لأطروحة الكتاب، ومعارض لها. وحقق الكتاب آنذاك أعلى المبيعات لمدة تسعة عشر أسبوعا متتاليا في إسرائيل عندما نشر لأول مرة عام 2008 ثم ظهرت بعدها ترجمته الإنجليزية عام 2009، إلا أنه تعرض إثر ذلك للتهديد من اليمين الاسرائيلي. وقد قام ساند في العام 2012 مع مجموعة من مثقفين ومحاضرين إسرائيليين في جامعة تل أبيب بالتوقيع على وثيقة يطالبون فيها الحكومة الاسرائيلية بالتوقف عن طمس هوية وذكرى قرية الشيخ مونس وإحياء ذكرى تلك القرية، التي تقوم الجامعة على أنقاضها، وطالب هو وزملاء له إسرائيل القيام "بالاعتراف التاريخي" كمقدمة للتصالح مع الفلسطينيين. ويقول ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" والمعنون بالعبرية "متى وكيف اخترعت أرض إسرائيل" أنه في مطلع نيسان 1948 رحل آخر المهجرين من قرية الشيخ مونس ويقول:
"مشوا في دروب وعرة حفاة من كل شيء تقريبا. نساء بأيديهن ومن خلفهن أطفال يبكون. كان الشيوخ العجز يسيرون بصعوبة وهم متكئون على أكتاف الشباب، فيما تم تحميل المرضى والمقعدين على الحمير، تاركين خلفهم كل ما كانوا يملكون داخل قريتهم المحاصرة من ثلاث جهات ما عدا الشمال. فقد غادر أهالي الشيخ مونس موطنهم مذعورين نحو طولكرم وقلقيلية، وسيطر المحتلون وهم يقهقهون بعد أن ظفروا بقرية وادعة. وبهذا تبخر أهالي الشيخ مونس من صفحات تاريخ أرض إسرائيل وألقي بهم في وديان النسيان السحيقة". ويقول ساند أنه منذ أن بدأ عمله محاضرا في جامعة تل أبيب قبل أكثر من ربع قرن ومشاعر الضيق تساوره، لأن الجامعة تقوم على أنقاض قرية مهجرة تقوم مؤسسة أكاديمية رفيعة بمحو ذكرها، ويضيف قائلا:"أحرص في بداية كل مساق أكاديمي على التوضيح أن كل ذاكرة جماعية هي عملية هندسة ثقافية بدوافع سياسية".
 ويكشف لنا ساند كيف أن الصهيونية نجحت في دمج علم الأحياء بالتاريخ، وذلك لتشكيل قومية إثنية عمادها الدين، كما عملت على صياغة الوعي القومي والديني لدى اليهود في شتى أصقاع الأرض. ويفند ساند في كتابه هذا أسطورة النفي القسري لليهود بعد الخراب المزعوم للهيكل الثاني على يد الرومان عام 70 ميلادي، والقضاء على "مسادا" بعد ذلك بثلاث سنوات. ويؤكد أيضا أن الرومان لم يقوموا بترحيل أو اقتلاع أي من سكان فلسطين؛ لأنه لم يكن من المجدي لهم أن يقوموا بذلك العمل؛ فهم بحاجة إلى مزارعين ينتجون لهم نتاج الأرض، ويدفعون لهم الضرائب.
وقد ذهب ساند إلى القول أن عدد اليهود في تجمعاتهم في بلاد فارس، وآسيا الصغرى، ومناطق أخرى قد بلغ قرابة الأربعة ملايين نسمة، وبهذا تسقط أسطورة فلسطين على أنها "وطن الأسلاف" وكذلك أسطورة الممالك العظيمة المزعومة لداود وسليمان. ويؤكد ساند أن التجمعات الدينية اليهودية كانت منتشرة حول مناطق البحر المتوسط، وفي بلاد أخرى من خلال التبشير بالدين اليهودي، وبالتالي فإنه يدحض أطروحة المؤرخ مارتين غودمان وغيره على أن الدين اليهودي لم يكن يوما دينا تبشيريا.
يسلط ساند الضوء على منطقة الخزر، تلك المنطقة التي ظهرت فيها إمبراطورية بلغت أوجها بين القرنين السابع والعاشر الميلادي بعد أن حصلت على استقلالها من الإمبراطورية التركية الغربية في آسيا الوسطى.
ورغم الاختلاف بين المؤرخين والباحثين حول التاريخ الزمني لهجرة شعوب الخزر إلى منطقة حوض بحر قزوين، واستقرارهم هناك، إلا أنهم جميعهم يتفقون على أن انتشار اليهودية بينهم كان قد بدأ بعد اعتناق أحد ملوكهم الديانة اليهودية. واستطاع الخزر السيطرة على أراض واسعة في حوض بحر قزوين والبحر الأسود، وطرد شعوب تلك المناطق إلى أماكن أخرى، كما دخلوا في صراعات وحروب طويلة مع الإمبراطورية البيزنطية. ويعتقد شلومو ساند أن تحول شعوب الخزر إلى اليهودية كان ليحول دون انصهارهم وذوبانهم في الإمبراطوريتين البيزنطية من جهة، والإسلامية من جهة أخرى. ويؤكد أيضا على أن يهود الخزر هم أسلاف يهود وسط أوروبا وشرقها "الأشكناز" الذين اخترعوا الأساطير الصهيونية لتبرير احتلالهم، واستيطانهم لفلسطين التي مكثوا فيها فقط كأقلية نخبوية، ولا تربطهم بها أية صلة إثنية.
ويقول ساند: إن أسطورة النفي تم اختراعها من الكنيسة لتكون عقابا إلهياً لليهود، فقد اعتنق كثير من يهود المنطقة الإسلام وأصبحوا أسلاف فلسطينيي اليوم. وهذا ما كان يعتقده ديفيد بن غوريون وعبر عنه في أوائل القرن العشرين من أن"فلاحي منطقة يهوذا" كانوا قد تحولوا إلى الإسلام لأسباب مادية، وبالتالي فإنهم ظلوا مرتبطين بالأرض ومخلصين لوطنهم.
 يصف ساند إسرائيل بأنها بلد"العرقية الليبرالية" التي تفترض أنه يجب على الأقلية العربية المتنامية في العدد والقوة أن تتقبل إقصاءها من الحياة السياسة والثقافية في إسرائيل. ويرى أنه يوما ما ستنتفض الجماهير العربية في الجليل ضد الظلم إلا أنها ستقابل بقبضة حديدية، الأمر الذي سيشكل منعطفا تاريخيا وجوديا بالنسبة لدولة إسرائيل. فالحل يكمن من وجهة نظره هو أن تصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية. لقد أوضح ساند هدفين رئيسيين من وراء كتابة كتابه هذا، الأول أنه أراد أن يجعل من إسرائيل دولة ديمقراطية حقيقية، والثاني أراد محاربة النزعة التي تتسم بها اليهودية المعاصرة من جعل الإثنية المشتركة أساسا للإيمان الديني. ومن هنا فإنه يخلص بأثر رجعي إلى أن الانتماء الديني لا يمنح الحق التاريخي لأي كان. وبالتالي فإن التطلعات الدينية اليهودية للقدس، هذا إذا ما سلمنا بحقيقة بناء الهيكل المزعوم فيها، لا يمنحهم الحق التاريخي باحتلالها والاستيطان فيها. فإذا كان الأمر كذلك، فإننا نمنح الحق للباكستاني على سبيل المثال أن يطالب باحتلال مكة، وذلك لأن أهواءه الدينية تتجه هناك، وكذلك للبرازيلي باحتلال الفاتيكان تحت حجة أنه كاثوليكي وأهواؤه الدينية تتجه هناك.
لقد جاءت إقامة إسرائيل نتيجة تحالف كبير وعجيب بين الأسطورة والدين ورأس المال والفكر الاستعماري. إذ إن توظيف أسطورة أرض إسرائيل، وربطها بالوعد الإلهي لم يكن كافيا لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، بل تقاطع هذا العامل بمصالح الدول الغربية الاستعمارية التي تمثلت في خلق جزء غريب يفصل بين الشطر الآسيوي من الوطن العربي عن شطره الإفريقي. فقد دقت حملة إبراهيم باشا على فلسطين، وتهديده للباب العالي في عام 1832 ناقوس الخطر لدى القوى الغربية الاستعمارية في أنه إذا ما توحد الوطن العربي كله خاصة مع ظهور البترول في المنطقة فيما بعد، فإنه سيشكل كتلة كبرى تهدد مصالح تلك الدول، ولذا كان لا بد من زرع جسم غريب لمنع تشكل جسم الوطن العربي الواحد وجعل المنطقة في حالة اللاتوازن. وقد تمثل هذا الخوف الغربي في عقد مؤتمر كامبل بانرمان الاستعماري في لندن عام 1907 حيث عقد برئاسة بانرمن نفسه الذي كان آنذاك رئيس وزراء بريطانيا، وكان من نتائجه ضرورة خلق كتلة بشرية صديقة لأوروبا ومعادية لمحيطها، تمثل مصالح الغرب في فلسطين، وتعزل شرق الوطن العربي عن شطره الإفريقي، وتكون بجانب قناة السويس التي هي بمثابة الشريان المائي الحيوي الذي يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط.
شلومو ساند وهو يفند الرواية الإسرائيلية التوراتية والاحتلالية ويسقط الاثنية الاسرائيلية وعلاقتها بالأرض، إنما يؤسس لمرحلة تاريخية جديدة تمكن المؤرخين الفلسطينيين والعرب أن يؤسسوا عليها ويدعم موقفهم في دحض الرواية الإسرائيلية الزائفة في جوهرها وأدواتها.

إرسال تعليق Blogger

 
Top