الحروب الجرثومية عبر التاريخ
نًشر في صحيفة القدس بتاريخ: 20/03/2020،
ص: 12
د. وليد الشوملي
تعود
الحروب الجرثومية والبيولوجية إلى حوالي أربعة قرون قبل الميلاد، حيث يذكر لنا
المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودت أن رماة السهام السكيثيون الذين عاشوا على الضفاف
الجنوبية للبحر الأسود هم أول من استخدم السهام المسممة في القتال، ومن هنا جاءت
كلمة Toxin اي
السم باللغة الانجليزية، وهي مشتقة من الكلمة الإغريقية
Toxon وتعني القوس الذي تنطلق منه السهام، وحسب
ذلك المؤرخ فقد استخدم السكيثيون جثث الأفاعي السامة المتحللة، وخلطوها بدم
الإنسان وروث الحيوانات، ووضعوها في جرار ودفنوها في الأرض لفترة من الزمن لتتعفن،
وينتج عنها في نهاية المطاف بكتيريا الغرغرينا والتيتانس، ثم يلقون بتلك الجرار
على الأعداء لتهاجم الجهاز العصبي وتسبب الشلل للجهاز التنفسي.
كما
يروي لنا المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس الذي وصف في كتاباته بين الأعوام 431 -404 ق. م.
أن الإسبارطين ربحوا الحرب ضد أثينا في حرب البيلوبونيز إثر وضع السم في آبار
المياه الأثينية، ويفيد أنه بالرغم من النصر الذي حققه الإسبارطيون، إلا أنهم
أصبحوا بسبب ذلك سيئي الصيت والسمعة لدى الأقوام الأخرى. كما استخدم القائد
القرطاجي الشهير هنيبعل، الذي هاجم روما بعد اجتيازه جبال الألب، الحرب الجرثومية
ضد القائد الاغريقي يومينوس الثاني ملك برغامون، وذلك بقذف أفراد جيشه بجرار مليئة
بالأفاعي السامة والتي سببت لهم حالة من الهلع والتخبط والفوضى، مما حقق له نصرا
ساحقا. وفي عام 1346 استخدم التتار الحرب الجرثومية في حصارهم لمدينة
"كافا" التي تدعى حاليا فيودوسيا في أوكرانيا. فقد قذفوا المدينة بالجثث
المصابة بالطاعون بالمنجنيق، ونشروا الأوبئة في المدينة، كما استخدم الروس عام 1710م
نفس الطريقة في حصارهم للسويديين.
أما
في الولايات المتحدة، فقد استخدم القائد الانجليزي جيفري أمهرست الحرب الجرثومية
في قتاله ضد الهنود الحمر والفرنسيين في الأعوام 1754م-1767م طريقة أكثر بشاعة
وفتكا. فمن أجل تنفيذ الخطة التي رسمها لتقليص عدد سكان البلاد الأصليين إلى أدنى
حد ممكن، قام أحد أعوانه بإهداء زعمائهم بطانيات ومحارم تحمل جراثيم الجدري مما
أدى إلى إصابة وقتل مئات الألوف منهم. وفي أوائل القرن العشرين، وبالتحديد إبان
الحرب العالمية الأولى قام الألمان بحقن الخراف بالجمرة الخبيثة وتصديرها من
رومانيا إلى روسيا، وكذلك قاموا بتسميم الخيول في فرنسا.
أما
أكثر تلك الحروب بشاعة فهو ما استخدمته اليابان قبل الحرب العالمية الثانية وإبّانها
في مقاطعة منشوريا، وبالتحديد في الفترة الواقعة بين 1932م إلى نهاية الحرب
العالمية الثانية، فقد انتشرت الفرقة رقم 731 المكونة من حوالي ثلاثة آلاف عالم
وتقني تحت إمرة الدكتور شيرو إيشي، ومن بعده كيتانو ميساجي في حوالي مئة وخمسين
عمارة، وخمسة معسكرات، حيث قامت بإجراء تجارب على المعتقلين، وذلك بنشر بكتيريا
الديسنطاريا والكوليرا والطاعون، مما أدى الى مقتل ما يزيد عن عشرة آلاف معتقل،
وقد تم إعدام باقي المعتقلين، وأخذ جثثهم للتشريح لأجل إجراء التجارب عليهم. كما
قامت اليابان بتلويث المياه والطعام في المدن الصينية المختلفة بأنواع مختلفة من
البكتيريا مثل الكوليرا والجمرة الخبيثة والسالمونيلا والطاعون، وذلك برش تلك
المدن بالجراثيم من الطائرات. ومن أجل فحص نجاعة برنامج حربهم البيولوجية باستخدام
الجمرة الخبيثة، فقد اختار الانجليز جزيرة غرينارد على مقربة من الشواطئ
الاسكتلندية، وإثر ذلك بدأ انتشار الجمرة الخبيثة في الخراف الاسكتلندية مما جعل
عملية التطهير الكاملة هناك شبه مستحيلة حتى يومنا هذا.
كما
استخدم النازيون الحرب الجرثومية على المعتقلين في المعسكرات، وذلك بحقنهم بأنواع
مختلفة من البكتيريا، بما فيها بكتيريا أحادية الخلية، وكذلك التهاب الكبد
الفيروسي (أ). وقد استخدم البولنديون حيلة ضد الألمان أثناء احتلالهم لبولندا، فقد
لجأ الأطباء البولنديون إلى استخدام لقاح معين يظهر نتائج خادعة تدل على الإصابة
بمرض حمى التيفوئيد، مما جعل القوات الألمانية تبتعد عن تلك المناطق، وتمتنع عن
اعتقال المواطنين، وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال. والجدير بالذكر أن الولايات
المتحدة لم تمتنع عن استخدام نشر الأوبئة البيولوجية في الحرب الكورية التي دارت
رحاها بين الأعوام 1950-1953.
كما
حدث أن تم ملاحقة المعارضين للأنظمة الشيوعية إبان الحرب الباردة بطرق شتى لم تخل
من استخدام الجراثيم البيولوجية، ومن أشهر تلك الأحداث كانت قتل المعارض البلغاري
والكاتب الصحفي جورجي ماركوف في لندن في 7 سبتمبر/أيلول في العام 1978، حيث تم
لسعه برأس مظلة مدبب ومسمم.
أما
بخصوص انتشار الأوبئة والجائحات، والتي لم يثبت أنها غير جزء من الطبيعة، فقد ابتليت
البشرية بثلاث منها، حيث كان الوباء الأول هو انتشار الطاعون الذي بلغ ذروته
ما بين الأعوام 1347م-1351م وحصد حياة أكثر من 100 مليون شخص. أما الجائحة
الثانية فقد كانت الكوليرا التي حصدت الملايين من الأرواح على مدى ست فترات
طوال القرن التاسع عشر وكذلك هجوم آخر في أوائل القرن العشرين. أما الجائحة
الثالثة فقد كانت الإنفلونزا الإسبانية التي حدثت عام 1918 وحصدت أرواح أكثر
من 50 مليون شخص.
هذا
عرض مختصر لتاريخ طويل من الأوبئة والجراثيم، واستخدام الدول والشعوب لها ضد بعضها
البعض مما ألهم بعض الروائيين العالميين كتابة روايات بلغت ذروة الأدب العالمي
والإنساني، منها ما كتبه غابرييل غارسيا ماركيز في العام 1985 في روايته الشهيرة
"الحب في زمن الكوليرا". وتعود تفاصيل تلك الرواية إلى نهاية القرن
التاسع عشر، حيث أنها تروي قصة شاب فقير وغير وسيم كان يسكن في قرية صغيرة في
البحر الكاريبي في مقتبل العمر، وكان يعشق شابة رائعة الجمال وهي على مقاعد
الدراسة، إلا أن أبيها زوّجها من طبيب ثري. وبعد وفاة زوجها بعد بلوغها سن السبعين
عاد إليها عشيقها الذي انتظر لأكثر من نصف قرن للقائها ودعاها لركوب مركب نهري معه.
وينهي ماركيز روايته بأن العاشق ادّعى أن السفينة موبوءة بالكوليرا، مما حدا
بالمسافرين لترك المركب وإخلاءه للعشيقين فقط. ولو بقي ماركيز على قيد الحياة إلى
يومنا هذا لاستبدل عنوان روايته تلك بعنوان "الحب في زمن الكورونا".
صورة المقال كما نًشر في صحيفة القدس بتاريخ: 20/03/2020، ص: 12
|
ولم يكن ماركيز الروائي الوحيد الذي كتب عن الأوبئة العالمية، فقد سبقه بحوالي أربعة عقود، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الروائي الفرنسي الجزائري المولد ألبير كامو الذي يصف في روايته "الطاعون" انتشار وباء الطاعون في مدينة وهران الجزائرية، ويثير فيها تساؤلات حول القدر والوجود الإنساني.
ولا
يخلو الأدب العربي من وصف لحالة الهلع التي تصيب الناس إثر تفشي الوباء كما فعل طه
حسين في سيرته الذاتية "الأيام" في وصف صراخ أخيه المصاب بالكوليرا
ومعاناة العائلة من وجع المصاب الأليم بموته.
أما
فيما يتعلق بالقوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بتلك الحروب، فقد كانت اتفاقية
جنيف للعام 1925م أول محاولة دولية للحد من استخدام الحرب الجرثومية، واستخدام
الغازات السامة والخانقة، إلا أن تلك الاتفاقية لم تحظر الأبحاث، أو إنتاج أو امتلاك
الغازات السامة والجراثيم. كما اشترطت الكثير من الدول الموقعة على تلك الاتفاقية
الحق في الرد والانتقام إذا ما تم الاعتداء عليها بالجراثيم والبكتيريا. ويذكر أن
الولايات امتنعت عن التوقيع على هذه الاتفاقية حتى عام 1975م. أما المادة الأولى
للميثاق الدولي الذي تم عرضه للتوقيع في 15 نيسان 1972م، فإنها تنصّ على ألا يترتب
على الدول الموقعة، وتحت أي ظرف كان أن تقوم بتطوير أو إنتاج أو تخزين أو الاحتفاظ
بمواد بيولوجية أو جرثومية لأغراض سلمية كإجراء وقائي، وكذلك عدم امتلاك أسلحة
لاستخدام تلك المواد في النزاعات المسلحة.
كما تنص المادة الثانية من ذلك الميثاق، على أن تقوم الدول
الموقعة على ذلك الميثاق، وبأسرع وقت ممكن، بتدمير أو استخدام تلك المواد المذكورة
في المادة الأولى أعلاه للأغراض السلمية بفترة زمنية لا تتعدى تسعة أشهر من دخول
تلك الاتفاقية حيز التنفيذ. كما تنص المادة الثالثة على ضرورة امتناع الدول
نقل أو تداول تلك المواد لأية جهة كانت بشكل مباشر أو غير مباشر أو تشجيع أو حث أي
دولة على إنتاج أو امتلاك أي من تلك المواد المذكورة في المادة الأولى.
وهنا يتوجب علينا أن نسأل أنفسنا: هل الكورونا جزء من
نظرية المؤامرة أم هي جزء من الطبيعة يتوجب التعامل معها بذكاء وتضافر الجهود
الدولية؟
ففي
حال كانت الكورونا جزء من مؤامرة، فهذا يعني تضافر الجهود العلمية والسياسية معاً
من أجل مواجهتها. أما إذا كانت جزء من الطبيعة فلا بد لنا إلاّ أن نواجهها بالتقدم
العلمي والتكنولوجي واستثمار الأموال الطائلة للقضاء عليها وعلى كافة الأوبئة التي
تهدد الجنس البشري، بدلاً من تبديدها لحرف الفكر الإنساني نحو الأساطير والغيبيات
غير العقلانية!
إرسال تعليق Blogger Facebook