القـــدس بيـــن فكــي التطبيــع
ونتائـــج الانتخابــات الأمريكيـــة
بقلم المقدسي
فــوّاز ابــراهيم نــزار عطيــّة
14/11/2020
.
كثير من ابناء الامة لا يفرق بين السلام والتطبيع، كما وكثير من ابناء امتنا يعتقد أن التطبيع مرحلة أولية للوصول إلى اتفاقية سلام، دون أن يعرف الكثير بما يُقصد بكلمة التطبيع التي جذرها من "طبّع" حيث ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة معنى التطبيع: أي جعل الأمور طبيعية سهلة، أما اصطلاحا فهو قبول التعامل والتعايش مع الآخرين مهما كانت تصرفاتهم وصفاتهم، على اساس ان التطبيع يقوم على المصلحة التي لا تنظر للأخلاق والقيم.
وفي الحالة العربية اعلنت بعض الدول الخليجية منذ شهر ايلول من العام الجاري عن نتيتها التطبيع العلني مع الكيان المحتل، بحيث قصدت تلك الدول التسليم الذهني بوجود الكيان الصهيوني داخل البلاد العربية، وبصورة تؤدي لتذويب الفكر العدائي له، فهو عين التخلي عن حقوق الحذر وعدم التأمين لجانب العدو المعروف بطبائعه في تفتيت وتشتيت اللحمة العربية، لذلك قصد الكيان الصهيوني ببناء مجموعة من العلاقات الإقتصادية والاستخباراتية والعلمية مع بعض دول الخليج مستغلا شماعة اطماع الدولة الايرانية في منطقة الخليج العربي، من منطلق سياسة فرق تسد ومن منطلق عميق استراتيجي يهدف إلى الاعتراف بأن لإسرائيل الحق في الأرض الموجودة عليها، وأن وجود الفلسطيني وجود طارئ، وهذا يعد اخطر مراحل التطبيع على القضية الفلسطينية بشكل عام وعلى أهل القدس بشكل خاص.
الدول العربية المُطبعة بالعلن اليوم حتى تاريخ هذا المقال دون الحاجة لتعدادها، تعتبر التطبيع وفق ما تم اقناعها أنه مشاركة في مشاريع تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي...، بهدف إزالة الحواجز النفسية، وهو ما لاحظناه من باب التأكيد على إزالة الخوف، عندما حمل بعض الاطفال من دولة الامارات العربية العلم الاماراتي بجاني العلم الاسرائيلي جنبا إلى جنب، بهدف الترويج بأن العلم الاسرائيلي ليس من قبيل المحرمات.
لذلك حرص الكيان الصهيوني في المراحل الاولى من التطبيع السرّي، بعقد المنتديات والمؤتمرات والمناظرات في المحافل الدولية خارج الوطن العربي، ليشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين وزمرة من المشاركين العرب، بحيث وقع الاختيار على دول الخليج العربي كعينة أولى، ليس من باب البراءة ولم يكن وليد صدفة، وانما وليد تخطيط واستراتيجية عمل مؤسساتي منظم، ليتم تحليل مستوى العلاقات ومدى تجاوب الطرف العربي على لقاءات تتسم بظاهرها بالودية، لتَخلق انطباع نتيجة اللقاءات المتكررة، هذا الانطباع يخلق باللقاءات المتكررة شيئ يسميه علماء النفس بالطبيعي العادي، لذلك حرص مندوبو الكيان في تلك اللقاءات على استمرارية تناول الطعام والشراب وتبادل الحديث في موضوعين فقط، هما التطور العلمي في مجالات التكنولوجيا والزراعة، ليكون المدخل الرئيس للتطبيع، دون الحاجة لتبادل الاعتراف الرسمي في المرحلة الاولى، مما سهل على الكيان الصهيوني في الدخول لعقول بعض الخليجين من زاوتين محددتين، فانبهر الخليجي بذلك التقدم، واصبح شغفه التعرف على ذلك التقدم بطيب نفس بعيدا كل البعد عن التوتّر، والغرابة، والكُلفة، ولربما الشعور بالذنب، ووخز الضمير بما سمعه عن الصهيوني، فينقلب على فكره القديم، ويصبح مروجا لفكرة التقبل بالآخر، ويعتبر فعله طبيعيا لأنه يخدم بلده بالتطور في المجالين سابقي الذكر، لا سيما وأن الجزيرة العربية تفتقر لمقومات الزراعة بالنظر لطبيعتها القاحلة، فيكون الطبيعي التطبيع والشاذ عدم التطبيع، الامر الذي يصبح تبادل الخبرات من وجهة نظره – رغم عدم وجود خبره لديه لينقلها للمجتمع الصهيوني في الاراضي العربية المحتلة - فعلا طبيعيا لا يستدعي انفعالات وشعارات قومية ،هذا هو هدف التطبيع وللاسف نجح بكل معايير النجاح.
اسرائيل بصفتها ممثل الكيان الصهيوني في كل العالم، وجدت بعد صراع طويل مع الفكر العربي منذ العام 1948 حتى العام 1994، أن التطبيع السرّي مع بعض الدول العربية قبل ابرام اتفاقية تنهي حالة العداء، يستدعي دخولها في علاقات تجارية من باب الرخاء والازدهار ورفع الدول من قوائم الارهاب، بهدف جعل العلاقة معها علاقات طبيعية مناقضة للمقاطعة تماما، وبذات الوقت تلك العلاقة تحمل دلالة القبول بوجود إسرائيل بشكلها ونظامها وصيغتها كدولة طبيعية وليس كدولة استيطانية محتلة، وكذلك القبول بدورها وافعالها وإيديولوجيتها، بسياق متصل للترويج بواقع الفلسطيني المقيم بصورة طارئة على ارض فلسطين، بأنه حالة شاذة وعليه التكييف بواقع دولة الاحتلال، وهذا ما دفع بعض ابواق الخليج المتصهينين بترديد الفكرة على العلن، واعتبار حق الكيان الصهيوني "اسرائيل" في فلسطين ازلي تاريخي وقبل وجود العرب، واصبحت الشتائم سيدة الموقف على القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ولم يوفر كل جهد في أن ينال من القيادة والشعب من بعض المسؤولين من حكام الخليج.
لذلك ثمار التطبيع اليوم ظهر على الملئ وكشف عن انياب المحتل، بما فرضه قبل يومين حول تغيير الوضع القائم في المسجد الاقصى ومحيطه، عندما سمح الاحتلال للمستوطنين بمواصلة انتهاك حرمة المسجد الاقصى لمدة زمنية اضافية بواقع نصف ساعة ، وهذا التغيير ملازم للتطبيع الذي اعطى للاحتلال حرية التصرف دون ادنى اعتراض أو احتجاج من احد، على اساس ان هذا هو أمر طبيعي والقادم القريب اسوء.
لذلك تكمُن الخطورة في بعض الدول الخليجية المطبعة التي اقامت علاقات تجارية ونشاطات مختلفة غير سياسية، مع الكيان المحتل منذ عقدين ونصف من الزمن ووقّعت اتفاقات تجارية غير علنية معها، بقبول فكرة الوجود والقبول بفكرة الوضع القائم، فبعضها اصبح عراب الحرب والسلام لمنطقة قطاع غزة، والبعض الآخر اصبح عراب تحت شعار حماية للقدس والمسجد الاقصى، بإقامة مشاريع تجارية فيما تم تسويقه بالقدس الشرقية، وللأسف الجانب الفلسطيني وافق على مشروع التقسيم قبل التطبيع العربي العلني.
لست في مقام شرح الخصوصية الفلسطينية في هذا المقال، وما نتج عن اتفاقية اوسلوا وما تبعها من اتفاقيات بين منظمة التحرير الفلسطينة وحكومة الاحتلال الاسرائيلي في العقد الاخير من القرن الماضي، وإن كنت متحفظا على كثير من الامور حول تلك الاتفاقيات التي نقضتها بمقالات سابقة، لكن اردت من خلال هذا المقال تسليط الضوء على واقع التطبيع العربي العلني في الايام الاخيرة من سنة العجائب سنة 2020، الذي سيعزز من قوة وشرعية الكيان الصهيوني " اسرائيل " بما يخدم مبررات وجودها الكولونيلي "الاستعماري" على ارض فلسطين بشكل عام وعلى القدس بشكل خاص، ناهيك عن استمرارية احتلال اجزاء من الاراضي السورية واللبنانية، والتطبيع العربي الحالي بداية انهاء الوجود العربي في القدس بدلالة الافعال والتطبيقات على الارض، التي تدعم فكرة سيطرة الاحتلال على الحجر والبشر زمانيا ومكانيا، مما جعل تبجح السلطة المحتلة من خلال رئيس وزرائها مفاخرا بن يامين نتنياهو، بأن العالم يهرول إلى إسرائيل وقد صدق فيما قاله، وهذا يؤكد على أن مقولة القوّة بكافة أشكالها تجعل العالم يتنازل لك، وقد وصلت إسرائيل إلى هذه النتيجة من خلال تجربتها في أن صلابة مواقفها، وبطشها الاستعماري، وحسُ استغلالها لأطماع التوسع الايراني في بعض دول الخليج، وتعزيز فائض القوّة لديها عسكريًا واقتصاديًا وعلميا، جعل من العرب مطبعين مسيرين غير مخيرين، إلى درجة رفع التطبيع من السرية للعلن دون حياء أو تردد.
الامثلة كثيرة على قوة التقدم العلمي للكيان الصهيوني، فتجاربه في الطب والزراعة وغيرها أنبأت عن ثقة الجماهير العربية بذلك التقدم، وإلا كيف نفسر ثقة بعض المسؤولين العرب بالتداوي في مستشفيات الكيان المحتل، وشاهدنا عينات حديثة حول تلك الثقة خلال الشهر المنصرم، رغم تصريح احد المستشفيات الفلسطينية في القدس بتوفر ذات الاجهزة المتوفرة في هداسا، لكن ماذا نقول لمن فقد ثقته بالله عزوجل واتخذ من البشر من دون الله مقومات الحياة.
نحن اليوم بحاجة للنقاش الهادئ ليفضي بنا إلى التطرق لكوارث التطبيع الفردي والجماعي على قضية العرب والمسلمين، فالقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، ليست ملكا لأهل القدس وحدهم، انما اهلها واضعي ايدهم على حجارتها ومعالمها وتاريخها، باسطي سلطتهم ونفوذهم المادي والمعنوي عليها من قبيل الامانة.
بناءً على ذلك، يجب أن يصل صوت النقاش بنتائجه لكل ضمير حي من المسؤولين العرب والمسلمين من خلال الدبلوماسية الفلسطينية، التي و للأسف لم تستطع ايصال معنى خطورة التطبيع على وجود الدول المطبعة حتى اللحظة، مع العلم أنه يمكن لها فعل ذلك، فنحن ولله الحمد ما زلنا متمسكين بسلاح الصبر الذي تجاوز صبر النبي أيوب عليه السلام، وهو سلاح لا يتقنه أهل الخليج، فمناصرتهم للقدس يعني مناصرتهم للقضية الفلسطينة، فنحن صمام امان لوجودهم، بحيث يجب اعلامهم أن التطبيع بداية نهاية تجمعاتهم، كما ويجب اعلامهم أن نائج الانتخابات الامريكية لن تصب ضمن مصالح بلاد العرب، فالحزب الجمهوري والديمقراطي وجهان لعملة واحدة ، احدهما يسقي العرب السم بالعسل والثاني يسقي العرب السم دون ملطفات، ولاؤهم للصهيونية هدفه تعزيز وجود اسرائيل واستمراريتها كدولة محتلة، لأن وجود اسرائيل ضمانة حقيقية للامن القومي الامريكي ومصالحه ، لذلك فلن يتنازل الحزبين الامريكيين عن حضانة دولة الاحتلال، إلا بتنازل آل سعود عن الحرمين الشريفين في الحجاز، الامر الذي يستدعي من الدبلوماسية الفلسطينية تغيير نهج طرحها ومخاطبتها لحكام العالم العربي، ولا بئس من التعلم من الاخطاء واخذ دروس العبر، لكن من الخطيئة المكابرة والاستمرارفي الخطأ.
إرسال تعليق Blogger Facebook