0

 

حسن عبد الله في نصوصه "دمعة ووردة على خد رام الله":

 يتجول في مدن فلسطين.. ويذكّرنا بقطة "جبرا إبراهيم جبرا"

نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 30/11/2020، ص: 13

                                                         عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

حسن عبد الله؛ كاتب وإعلامي فلسطيني، متعدد الأنشطة والاهتمامات، فإلى جانب وظائفه المختلفة في مجال الإعلام، أصدر عشرين كتابًا بين نصوص أدبية وأعمال بحثية. ونحن بصدد مجموعة نصوصه الكامنة بين دفتي كتابه الأخير "دمعة ووردة على خد رام الله الصادر عن "منتدى العصرية الإبداعي" التابع للكلية العصرية برام الله عام 2020.

يقع هذا الكتاب في (151) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها (12) نصًّا-سردية، يتراوح حجمها بين (6) صفحات و(25) صفحة. وتتأرجح النصوص بين سيرة الإنسان والمكان، والتأريخ لأحداث ذات أثر وتأثير في فلسطين وأهلها.

قبل الشروع في العمل الأدبي للكاتب حسن عبد الله، لا بد من الإشارة إلى أن هذا العمل هو نتيجة من نتائج الحجر الذي فرضه فايروس الكورونا عام 2020. هذا الحجر الذي واجهه عموم الناس وأصابهم بالملل والتأفف والنظر الدائم إلى عقارب الساعة. أما المفكرون فلم يتعاملوا مع هذا الوقت على أنه وقت ضائع؛ وإنما احالوه إلى وقت ذهبيّ -كما أطلق عليه سماحة الشيخ د. عكرمة صبري.

تألف هذا الكتاب من إهداء وشكر واثني عشر نصًّا، تنقل فيها الكاتب بين الخوف الفردي والجمعي من وباء الكورونا الطارئ على حياتهم، وبين عراقة مدن وأمكنة محببة ومريحة للنفس، وسيرة ذاتية للكاتب، وسير غيرية لأصدقاء تركوا أثرًا وتأثيرًا في حياته.

 يستقبلك الكاتب عند بوابة الكتاب التي تتكثف فيها مفارقات زمن الكورونا ومقارباته، ثم يتركك تتجول بين النصوص التي يحيط بك عبقها وتجلياتها من كل الجهات، فلا تكاد تنتهي عن عبق نصّ حتى تدخل في عبق جديد، يجدد فيك الأمل والحب والنشوة التي تبحث عنها بشغف بين الحوادث والأحداث والمفاجآت الكامنة في كل نصّ على حدة.

وإن كان عنوان الكتاب يحمل رام الله، إلا أن الكاتب يأخذك إلى أماكن عديدة، وقد تجلى، وجعلنا نتجلى معه، في عبق الجمال والتاريخ والحضارة والشعر والنثر والأدب والفكر، وكأنه استخرج لكل مكان بطاقة خاصة تعرفه وتعرّف به، أهمها:

القدس، وما أدراك ما القدس، فهي مكان يمسح بمنديله دمعك، وهي المكان المسوّر بالروحانيات ووقار التاريخ وعظمته. وبيت لحم الفلسطينية التي تلملم مفردات لغة الكاتب - والقارئ أيضاً- وشظايا لونه، وحيث ساحة المهد التي تريض فيها الكنيسة التاريخية التي احتمت في مغارتها الأم العذراء بطفلها الذي نطق في مهده. ودمشق عاصمة الأمة إبّان القوة والاقتدار والحضارة، في وصف شعري وشاعري، ففيها تدور الحوارات بين الكمنجة والعود حول سؤال الوجود وحول النهايات". ونابلس التي تجعل زائرها يتحرك وجدانيًّا وذاتيًّا مع التاريخ، ذات البنايات التي تمسك بقوة بقمتي جبليّ جرزيم وعيبال. ووحدة المغربية "وهي ائتلاف من أماكن وحارات وأزقة تقول لزائرها تاريخاً وتقول شعراً".

توقفت حسن عبد الله عند النص الأوّل الرابض خلف البوابة مباشرة، ويحمل عنوان "لا وقت رام الله يشبه وقتها ولا المكان يشبه مكانها"، ولاختياري هذا أسباب سيتعرف عليها القارئ الكريم من خلال التحليل الفني والفكري للنص ومن خلال سطوره وما بين السطور. ففي هذا النص تجد الكاتب يسير عبر ثلاثة أشياء:

أولاً: رام الله التي يصفها بمثلث، رؤوسه: دوارا المنارة، ودوّار الساعة، ورام الله التحتا؛ وكأن الكاتب يتجنب عامدًا متعمدًا ما أحدثته الحجارة البيضاء والرخام بألوانه المختلفة والقرميد بلون "القرميديّ"، من تغيير جوهريّ في المدينة، يكاد يفقدها رونق تاريخها وماضيها العتيد.

ثانياً: يخلق حوارًا جميلاً حول الكورونا التي جاء انتشار ضررها بسبب أن الدول الكبرى أهملت التجارب الصحية في السنوات الأخيرة. ويبث حسن عبد الله رسائل جليّة واضحة وتحذيرية لكل من جعل الملل عنق القلم وحصره، ولكل من جعل أنفاس السيجارة تسحب من حصة القلم. كما يستنكر تكثيف تناول القهوة حتى أغرقت أوراق الكتاب المتناثرة على الطاولة فأفقدتها قيمتها ورونقها؛ عندما طمست القهوة أحبارها وطغت على ما فيها من رؤى ومخططات وطموحات. وفي ذلك رسالة لكل من أصابه الكسل والملل والضجر، ليستحثه على النهوض والعمل الجاد والفاعل.

ثالثاً: قضية جهاد احمد صالح يحمل النكبة مذ كانت في ذروتها؛ فقد وُلِد جهاد في اليوم الأول لإعلان الدولة العبرية (15/5/1948). وفي حياة جهاد رحلة عذاب الشعب الفلسطيني الذبيح. فعندما كان بعمر ست سنوات، وبينما هو ووالده يجلسان تحت شجرة زيتون بالقرب من جفنا، وبينما هو يلهو ويلعب "اخترق نشيج متقطع سمعه"، ليكتشف أن الوالد الذي حضر النكبة وعاش تفاصيلها مهجرًا من العباسية، قد استعاد ذكريات مؤلمة مبكية ذات صلة مباشرة بتلك الزيتونة ذاتها والصخور المحيطة بها. إذ كان نصيب جهاد أن وُلِدَ على صخرة مجاورة للشجرة لم تستطيع شقوقها الاحتفاظ ببقايا ملابس ولادته، ولكنها حفظت له الذكريات؛ فكانت أقل صلابة من عصابات الحركة الصهيونية، وأكثر إنسانية منهم.

هكذا، يعود جهاد إلى الصخرة–الحضن، والصخرة-الشاهد على البطش والقتل والتشريد... يكبر جهاد وينتسب إلى الثورة، لتعيش والدته رحلة شاقة مع الترقّب والانتظار على طول المسار الزمني للثورة عمان-دمشق-بيروت-عمان- رام الله. وعندما يلتقيها وهو في السبعين من عمره تأخذ هي دور الأمّ ذات الـ (86) عاماً الشغوفة بابنها، ويأخذ هو دور الطفل الهادئ المستقر في أحضان أمّه المتدثر بدفء حضنها الذي شهدت عليه الصخرة قبل سبعين عاماً...

إنني أرى في هذا النصّ مشروع رواية تشكل شخصياتها روافد غزيرة لروائي يسعى لبناء شخصيات عاشت النكبة وعايشتها؛ بما يفضح الدولة التي تتشدق بالديمقراطية، ليعل الصوت أمام العالم أجمع بأنها ما كانت لتكون لولا القتل، بل التقتيل والذبح، والتشريد لنحو "أقل من مليون" من شعب فلسطين، وأسْر الآلاف.

إلى جانب جهاد وقصة حياته المؤلمة، يتجول حسن عبد الله مع الأصدقاء ومع المكان ومع القطّ الأليف. إذ يظهر مشهد رفيق المقهى وأمسيات رام الله الصيفية، والشاعر والمفكرّ وسمير شحادة؛ الذي يستذكر بمشاعر تتأرجح بين الفرح والحزن، وظائفه المختلفة التي تقلدها قبل أن يتقاعد، وابنه البكر الشهيد نزار.

وأما القط فيأخذ نصيباً وافرًا في النصّ، إذ أن للكاتب حسن وبطل النص جهاد قصص وحكايات مع القطط، لا تملك وأنت تقرأها إلا أن ترى بوضوح "أنسنة" القط، وما في سلوكياته من مبادلة للوفاء والحنان والإخلاص والحب. ويؤكد جهاد أن للقط ذاكرة علينا التوقف عندها بعمق بالقراءة والتحليل.

هنا، توقفتُ مطوّلا وأنا استذكر جبرا ابراهيم جبرا في "البئر الأولى"([1])؛ وهي فصول من سيرته الذاتية، في واحدة من أسمى صور الرفق بالحيوان، تتمثل في ذكره لـ "القطة فلّة" التي كان يتحدث عنها كأحد أبطال سيرته تلك، إذ أنها كانت "تنهض معهم وتنام معهم في الدار، وتقضي على الجرذان"، حتى وفاتها التي رسم منها لوحة تعبر عن فراق حبيب؛ عندما كان يوم وفاتها يوم حزن للأسرة، بجميع أفرادها، بخاصة سوسن-الطفلة، لينتهي الأمر بدفن "فلّة" وفق مراسم خاصة؛ في حفرة ورصفوا فوقها الحجارة.   


أخيراً،
وجدتُ في نصوص حسن عبد الله هذه كثيرًا من التنوّع في الأماكن والجماليّات، وذكر ما تمنّ به علينا الأرض من أشجار ونباتات، تشكل الجزء المنعش من بيئتنا التي علينا حمايتها من بطش العدوانيين والسوداويين، أيا كانت أشكالهم وجنسياتهم. وليأذن لي القارئ أن أسرّ في أذنه بأن شعبي الذي أعتز بانتمائي له يتمتع بإمكانات وقدرات تستحق التوقف عندها بعمق؟ إذ أن جهاد الفدائي الذي قاتل الأعداء بشراسة يمتلك من الإنسانية والحب والحنان ما يؤنسن القط، ويجعله شريكاً أساسياً في حياته اليومية.. ولا يمكنني المغادرة قبل أن أقول: لله درّك يا حسن عبد الله، الكاتب المبدع والمبتكر، لله درّك يا جهاد أيها الفدائي-الإنسان الذي حمل البندقية بيد وغصن الزيتونة التي وُلِدَ تحتها مشرّداً ــــ طريداً باليد الأخرى!

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 28/11/2020م



[1] جبرا، إبراهيم (2001). البئر الأولى: فصول من سيرة ذاتية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت-لبنان. الطبعة الثانية.

إرسال تعليق Blogger

 
Top