0

 

فيصل الحسيني:

أمير القدس وحادي عروبتها

نُشِرَ في مجلة المقدسية، العدد 7، صيف 2020، ص: 179-190

عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

مقدمة


قال الشاعر أبو فراس الحمداني، وقد أَسَرَه الروم سنة (347هـ/959م): سَيَـذْكُـرُنـي قـومــي إذا جَــــدَّ جِــدُّهُــمْ// وفـــي اللّـيـلـةِ الظَّـلْـمـاءِ يُـفْـتَـقَـدُ الــبَــدْرُ. بهذا البيت من الشعر، الذي تردّده الأجيال الناطقة بالضاد منذ ألف عام ونيّف، أردتُ أن أستهلّ مقالي هذا لتعريف الأجيال المعاصرة بالقائد المقدسيّ "فيصل عبد القادر موسى الحسيني"، كبداية لزاوية "أعلام ومعالم" في مجلة المقدسية بقالبها الجديد؛ وهي زاوية تعنى بتعريف القارئ العربيّ بأعلام القدس الذين نشأوا في هذه المدينة المقدسة، وكانوا حماتها، وهي ميدانهم في قيادة الشعب الفلسطيني. كما نضيف في كلّ عدد معلم مقدسيّ تراثيّ، كشاهد على عروبة هذه المدينة التي تأبى الاستجابة لعوامل التهويد والسّرقة التي تجتاحها منذ سبعة قرونٍ ونيّف.

وسنتطرّق في هذا المقال في الحديث عن ضيفنا، بل مُضيفُنا، من خلال معرفة الكاتب الشخصيّة به أولًا، ومن خلال قراءة ما كُتب عنه -وما أكثر ما كُتب عنه- إلّا أنّ مصادر هذا المقال تتركّز في الآتي: كتاب "مقدسيّون صنعوا تاريخًا"([1]) –وما يتضمنه من لقاءات مع شخصيّات عايشته وواكبت حياته عن كثب، وكتاب "حوارات صحفيّة"([2])، وكتاب "فيصل الحسيني: أسطورة المقاومة الفلسطينيّة"([3])، وما نشره كاتب المقال من مقالات عنه رحمه الله في ذكريات استشهاده([4]).

المولد والنّشأة([5])   

"فيصل عبد القادر موسى الحسيني"؛ سليل عائلة مقدسية، أنجبت عبر تاريخها -وفي كل المراحل- رجالًا قاوموا الظّلم وأناروا الظّلمات أمامَ شعبهم وأمتهم. فالجد "موسى كاظم"؛ كان رئيسًا لبلدية القدس أيام العثمانيين، ثم الأب "عبد القادر"؛ ذلك القائد الذي قاتل بشراسة دفاعًا عن شعبه إبّان معارك النكبة وما قبلها حتّى قضى نحبه في نيسان عام 1948م.

ولد "فيصل" في بغداد بتاريخ: 17/07/1940، حيث كان والده "المناضل " الشهيد عبد القادر الحسيني" يربض في معتقلات الانتداب البريطاني هناك. وفي عام 1946 توجهت العائلة إلى القاهرة، حيث التحق بمدارسها. وعندما استشهد والده كان فيصل بعمر ثماني سنوات مع والدته في القاهرة. درس الهندسة في الأكاديمية العسكرية بسوريا، وتخرج منها عام 1966م، ثمّ انتقل ليعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالقدس.

الانتماء السياسي، والعمل العسكري والعودة إلى الوطن([6])  

انتسب "فيصل" إلى حركة القوميين العرب وهو في سن السابعة عشرة، وقبل أن يبلغ العشرين من عمره أسّس المنظمة الطلابية الفلسطينية؛ التي أصبحت نواة منظمة التحرير الفلسطينية. قبل النكسة، في العام 1967، كان "الشّهيد فيصل الحسيني" في الكلية العسكرية بحلب في الشام. وكان، بحكم موقعه في المعركة بالقرب من إحدى المطارات العسكرية، شاهدًا على الهزيمة العسكرية، فأدرك أن التحرير لنْ يأتي عبر جيوش مهزومة؛ فكانت فكرته بإقامة معسكر تدريبي، فتمّ له ذلك بإقامة المعسكر في منطقة "كيفون" بلبنان، كُلِّف هو نفسه بمهمة قيادته والتدريب كونه خريج كلية عسكرية. ورغم قصر مدة المعسكر، إلا أنّ هذا المعسكر أسهم في صقل شخصية "فيصل" وتمكّن، هو ومن تحت إمرته، من التدرُّب على الأسلحة الخفيفة.

بعد بضعة أشهر، أبلغ "فيصل" مسئوليه نيته التوجه إلى فلسطين، فعبر نهر الأردن إلى الضفة الغربية، مكتشفًا سهولة الطريق، مما فتح أمامه آفاق تنظيم مجموعات عسكرية مقاتلة؛ لكي تنفذ عمليّات عسكريّة خلف خطوط العدو؛ فدخل وأحصى نفسه في القدس، ثم شرع في إدارة المجموعات بالتنسيق مع ياسر عرفات، الذي لم يلتقِ به أبدًا في تلك الحقبة.

ويذكر جميل السلحوت أنه في الذكرى الأولى للنكسة بتاريخ (05 حزيران 1968م) خرجت مظاهرة صاخبة من المسجد الأقصى المبارك، باتجاه "باب العامود"، يتقدمها نساء يحملن المصاحف، وبعض الشخصيات المقدسية، وعندما هدّد الضابط الإسرائيلي باستخدام القوة لتفريق المظاهرة، تقدّم شاب وسيم، متحدّيًا الضابط وجنوده المدجّجين بالسلاح، فانهالوا عليه بالعصيّ، فسقط مغشيًا عليه والدماء تنزف من رأسه، فكان ذلك "فيصل عبد القادر الحسيني"([7]). وفي نفس عام 1968، داهم جنود الاحتلال بيته في القدس، فوجدوا عنده قطعة سلاح مفكك، اعتقل على إثرها وحُكم لمدة عام.

بعد تحرّره من الأسر، وحيث أنه لم يكن يحمل بطاقة شخصيّة حتى عام 1975م، تنقّل "فيصل" في أرجاء الوطن بين أعمال مختلفة؛ فعمل حارثا للأرض في أريحا، وتاجراً للزيت، وموظفا للاستقبال في أحد الفنادق، وفنّي أشعة، وتاجراً متنقلاً، مكملاً بذلك شبكة التعرف التّفصيلي على الوطن.

يؤسس جمعية الدراسات العربية ويدعم العمل المؤسساتي في القدس  

كان "فيصل" من أبرز قادة العمل السياسي في القدس؛ ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية تحت إمرة ياسر عرفات، تخللها عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، وعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. في عام 1977، وبعد أن أصبح لديه بطاقة تمكنه من الحركة والسفر، قرر المرحوم "فيصل الحسيني" الالتحاق بجامعة بيروت العربية في لبنان. وهناك أنشأ خط اتصال وتواصل مع المرحوم "خليل الوزير/ أبو جهاد"، فكان من بين ما اتّفقا عليه: تأسيس مركز دراسات وأبحاث، فكانت ولادة "جمعيّة الدّراسات العربيّة" عام 1980م؛ الهادفة إلى

1)تجميع العقول والخبرات البحثية الفلسطينية([8]). وكان أوّل مقرّ لها في عمارة العارف؛ على الحد الفاصل بين شرقي القدس المحتل في العام 1967 وغربيّها المحتل في العام 1948([9]).

أخذت الجمعية تكبر بجهود "فيصل" بالدرجة الأولى، وأخذ دور "فيصل" يكبر معها؛ فأصبح صاحب حضور واضح في الميدان، ويتحمل مسؤوليات وطنية كبرى. وفي العام 1983 تم نقل الجمعية إلى شقة صغيرة في مبنى بيت الشرق. وهنا؛ تطور الموضوع وأصبحت الدراسات والأبحاث تصدر عن الجمعية تِباعًا، فأصبح للجمعية دور مهم جداً على مستوى الضفة الغربية، وأصبح "فيصل" شخصاً مؤثراً سياسياً([10]).

وكان هناك "مركز المعلومات الفلسطيني لحقوق الانسان (PHRIC)"؛ وهو أحد مراكز جمعية الدراسات العربية-بيت الشرق([11]). ولم يقتصر الأمر على الجمعية وفروعها وأذرعها، فقد أدرك "فيصل" أهمية المؤسسات الوطنيّة في ترسيخ الهويّة العربيّة للمدينة؛ فأولى المؤسسات التعليميّة جلّ اهتمامه، وحرص على الحركة الثقافية، ودعم الغرفة التجارية والصناعية للاستمرار في دورها، ولحماية التجار من بطش الاحتلال، وكان على وعي بأهمية المناهج لتطوير التعليم، واهتم بقضايا مجالس الطلبة ونقابات العمّال ويلبّي طلباتهم من خلال اتصالاته رأس الهرم في القيادة الفلسطينية([12]). 

اعتقالات متكرّرة

أخذت سلطات الاحتلال تتحسّب من "فيصل" ودوره السّياسيّ المتنامي، والمكان الذي يشغله في بيت الشّرق، والمؤسّسة البحثية التي يقودها، فقامت عام 1982م بوضعه تحت الإقامة الجبرية، ثم اعتقاله (إداريا) في شهر نيسان من عام 1987، لمدة 3 أشهر.

لم يفتّ ذلك من عضد "فيصل"، فالاعتقال عزز مكانته في نفوس الشعب الفلسطيني ودوره السياسي؛ كقائد وطني بارز على أرض الوطن، كما أن الجمعية أخذت تتسارع في نموها ودورها المتعدد الأبعاد؛ بحثيًا وتوثيقيًا وسياسيًا... الخ، فاتسع دورها المؤسساتي في المجتمع الفلسطيني؛ مما أثار حفيظة سلطات الاحتلال، فأمر رابين؛ رئيس الوزراء في العام 1988 بإغلاق الجمعية لمدة عام، في حين تم اعتقال "فيصل" والحكم بسَجنه لمدة ستة أشهر. فقام "اسحق البديري"، وبصفته أمين السر في الجمعية، باستئجار مقرات أخرى للجمعية، وبدأ بالعمل من الصفر، فقام الاحتلال بإغلاقها كذلك.

استمر وضعهم بهذه الحال؛ حيث يتجدد الإغلاق وتغلق المقرات الجديدة، حتى العام 1992. مما اضطر "فيصل" إلى العمل من منزله، وكان ضيوفه يزورونه في الفنادق، حيث كان مدافعاً شرساً عن دور م. ت. ف في الأراضي المحتلة.

ينجو من موت محقق.. ويواصل التصدّي للاحتلال ومخططاته([13])

شهد المسجد الأقصى المبارك يوم  (08/10/1990م) مجزرة التي سقط فيها عشرون شهيدًا فلسطينيًا، كانوا موزعين على أرض الوطن، فتجمع الدم الفلسطيني يومها، ليشكل لوحة لفلسطين التي ترفض الظلم والضيم. وفي خضمّ الأحداث قام جنود الاحتلال بتصويب أسلحتهم، وهي كاتمة للصوت، باتجاه ""فيصل""، إلا أن خبرته العسكرية مكّنته من أن يحذر منها ويزيغ عن مسارها، فأخطأته. ثمّ قام جهاز مخابرات الاحتلال باعتقاله مع نحو مائة شاب آخرين، فقال له المحقق: أنت نجوت اليوم بأعجوبة، فاستحضر "فيصل" مشهد الرصاصة التي أخطأته، ليربط ذلك بقول المحقق، فتأكد له أنها كانت "محاولة اغتيال فاشلة".

لم يثن ذلك "فيصل" من الاستمرار في مواجهة الاحتلال قائدًا لشعبه المقاوِم في جميع الأحداث، كحادثة اقتحام شارون للمسجد الأقصى في 28/9/2000م، إذ كان "فيصل" يدير عمليّات المواجهة مع قوات الاحتلال، فحوصر بقوة إسرائيلية كبيرة على المسطبة الواقعة باب المصلى السفلي من الجهة الشرقية واعتدوا عليه. ومع ذلك صمد وبقي في الميدان حتى خرج شارون الذي استمرت جولته حوالي (4) دقائق. كما أن "فيصل" حاضرًا عند هدم بيوت المقدسيين والاعتداء عليهم؛ يساعد ويؤازر، ويشحذ الهمم، ويعزز الصمود، ويدعو إلى الصبر والبقاء على أرض القدس، مهما كانت المكارِه ومهما كان شظف العيش وقسوته.

يعيد لبيت الشرق هيبته وحضوره([14])

بيت الشرق هو مبنى عثماني أنيق وواسع ومتعدد البنايات؛ تم بناؤه عام (1897م)، تعود ملكيته للمرحوم "إسماعيل موسى الحسيني". وكان هذا البيت قد شهد أحداثًا مهمة؛ إذ كان مقر إقامة الإمبراطور الألماني (فيلهلم الثاني)، الذي حضر إلى فلسطين أواخر القرن التاسع عشر في العام 1898، وكان بيت العزاء للشريف حسين بن علي سنة 1930م، كما كان مقر الإقامة الدائم للإمبراطور الأثيوبي هيلا سيلاسي المنفي إلى القدس، خلال الفترة 1936-1937.

كما ذكر أعلاه، كان بيت الشرق مقر جمعية الدراسات العربية منذ عام (1983).  ومنذ أوائل عام 1991، أخذ "فيصل" بالاجتماع ببعض الشخصيات الإسرائيلية المهتمة بعملية السلام. وعندما بدأت عملية السلام في مدريد اختير "فيصل" أحد الأشخاص الرئيسيين لترشيح شخصيات فلسطينية لعضوية الوفد الفلسطيني إلى مدريد. علمًا بأن إسرائيل اشترطت عدم وجود مقدسيين في الوفد؛ فاضطرت م. ت. ف إلى إعادة تشكيل الوفد؛ باستحداث لجنة توجيهية برئاسة "فيصل"، وتكليف د. حيدر عبد الشافي رئيسًا لوفد المفاوضات. واستمرت المفاوضات في مدريد وواشنطن ثم اتفاقيات أوسلو. ومنذ عام 1992م قام ""فيصل"" بتجهيز بيت الشرق وإعداده ليكون مقرًا رسميًا لاستقبال ضيوف الشعب الفلسطيني في عاصمتهم القدس.

بيت الشرق مقرّا رسميًا في القدس العاصمة([15])

تمكن "فيصل الحسيني" من خلال بيت الشرق من فرض أمر واقع يتعلق بشرقي القدس، عاصمة للكينونة السياسية الفلسطينية؛ وهي "الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، التي أعلن عنها في مؤتمر الجزائر في العام 1988". فطلب من مستشاره أن يكون المكان أفضل من الاميريكان كولوني واقل من الاليزيه؛ لكي يرى العالم كيف أننا اصحاب حضارة وضيافة، مع مراعاة مشاعر شعبنا الذي يعاني الفقر والفاقة والعوَز. لا بد من ذكر أن الأشقاء في دولة الكويت هم من دربنا على البروتوكول الخاص باستقبال الضيوف الرسميين.

كان أول من حضر إلى بيت الشرق، بصفته بيت الضيافة الفلسطيني هو "رئيس الوزراء البرتغالي"، باعتبار أن بيت الشرق المقر الرسمي للفريق الفلسطيني المفاوض، ثم تتالت تلك الزيارات، ذات الطابع الرسمي، من قِبَل وزراء تركيا، إيطاليا، أمريكا (وزير التجارة) ومندوب أمين عام الأمم المتحدة الذي حقق في مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994.

منذ ذلك الحين أصبح بيت الشرق هو "بيت الضيافة الفلسطيني"، وبعدها تمت مأسسة العلاقات الدولية، وحضر إلى بيت الشرق أكثر من (30) شخصية رسمية، من مختلف الدول، حتى الامريكان حضروا على مستوى وزير التجارة.

وكان يتم فيه استقبال بروتوكولي كامل، مثل: دخول السيارات والمستقبلين في ظل رفع العلم الفلسطيني، الذي رُفِعَ علنًا أول مرة عند توقيع اتفاق واشنطن عام 1995م، حتى أنه تم نقل مراسم التوقيع بحيث كان يتجاور، على نفس الشاشة، منظر بيت الشرق والعلم الفلسطيني مرفوع عليه، والبيت الأبيض حيث تتم مراسم التوقيع. وأثناء الاجتماعات بين الوفد الفلسطيني والضيوف كان العلم الفلسطيني يتّخذ المكان المناسب على طاولة الاجتماعات، حسب الأصول. كما كان يتم منع أي مرافقة إسرائيلية للوفود داخل بيت الشرق.

"فيصل" يرى أن التفاوض علم وفنّ ومنهج([16])

كان ""فيصل"" يردد مقولة مهمّة، وهي: إن استراتيجية المفاوضات تقوم على بعدين مترابطيْن؛ لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وهما: الشكل والمضمون. والمقصود بالشكل، تلك الإجراءات والبروتوكولات التي يجب تنفيذها بدقة ملحوظة لضيوف المقر الفلسطيني، بما يؤكد على قابلية الفلسطينيين لاستلام زمام مجمعهم ودولتهم، وتوظيف ذلك الشكل لخدمة ومساندة "المضمون"، الذي يعني القضايا الجوهرية التي يتم التفاوض حولها. وبشأن البروتوكول الصحفي، كان من الدّقة بما جعل الصحفيين الإسرائيليين يبلغوا "رابين" بأنه على حكومة إسرائيل أن تتعلم من بيت الشرق، قائلين له: اذهبوا إلى "فيصل الحسيني" وتعلموا منه.

كان "فيصل الحسيني" يؤمن بضرورة اختراق الجانب الاسرائيلي؛ تحت نظرية "اسمع ولا تتكلم". وبالرغم من عدم قناعته باتفاقية أوسلو التي كان مغيباً عن الجزء السري منها، إلا أنه دعا إلى تبنيها، باعتبارها "ولد معاق" أنجبته المفاوضات الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي، مما يتطلب رعايته والمحافظة عليه قدر استطاعتنا.

لم يصبح "فيصل" وزيرًا في السلطة الوطنية الفلسطينية؛ لكي يبقى يعمل في القدس ومن القدس بصفته مسؤول ملف القدس؛ لفرض الأمر الواقع باسم م. ت. ف، وكان يصر على أن يقوم كل من يزور غربي القدس بزيارة شرقيّها، حتى لو زار ياسر عرفات.

وكان عام 1992م قد أعلن بأنه "يمكننا أن نأخذ غزة دون مفاوضات، وأن نأخذ الضفة يمفاوضات، أما القدس فلا يوجد أمامنا سبيل سوى فرض أمر واقع؛ وهو أن تبقى القدس الشرقية عربية، وهذا ما نفذناه منذ عام 1967م، لقد حافظنا على كينونتنا، وعلى هويتنا العربية ومقدساتنا، وعلينا أن نبني بنيتنا الاقتصادية الحرة"([17]).

وعندما عينه الراحل ياسر عرفات مسئولًا عن ملف القدس، أقام علاقات دولية وعربية ممتازة. وانفرد بموضوع القدس، واخذ يبحث عن تمويل لمشاريعها ومؤسساتها من منظمات عربية ودولية، على المستويات: التعليمية والصحية والشبابية... الخ.

ومن الأمثلة على دور "فيصل" في توسيع دائرة العلاقات الدولية أن زيارته إلى كندا عام 1992م كانت الزيارة الأولى لأول مسؤول فلسطيني لكندا، ألقى كلمة في افتتاح مؤتمر حقوق الإنسان للمنظمات الغير حكومية في العاصمة الكندية أتاوا، ركز فيها على الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال، كما التقى مع الجالية الفلسطينية الكندية، كشف فيه عن الاستراتيجية العليا لإسرائيل "اسرائيل من النيل الى الفرات"، يقابلها الاستراتيجية العليا للفلسطينيين "فلسطين من النهر الى البحر"، ولكن الاستراتيجيات السياسية تتغير حسب المعطيات([18]).

كانت هناك لجنة مسؤولة عن ملف القدس، تشكلت نتيجة اجتماع بين المرحوم ياسر عرفات ورابين في القاهرة في العام 1994، بحضور المرحوم "فيصل الحسيني". مثّل فلسطين فيها "فيصل الحسيني"، ومثّل إسرائيل "موشيه شاحال" وقد تولت تلك اللجنة الملف الخاص بمتابعة عدم إحداث تغييرات جوهرية في شرقي القدس، خلال المرحلة الانتقالية (1994-1996).

لقد جعل "فيصل" لتلك اللجنة دور كبير في خفض عدد البيوت المهدمة. وأنها بقيت، ذات أثر، حتى وفاته عام 2001، التي تلاها هدم (18) بيتًا دفعة واحدة. ثم بدأت تتوالى عمليات هدم بيوت المقدسيين، على قدم وساق، دون إبداء ردود الفعل المطلوبة، كما كان يفعل المرحوم "فيصل". مما يعني أن تلك اللجنة بقيت فعّالة حتى وفاة المرحوم "فيصل"، وأن الفلسطينيين لم يكملوا المتابعة في هذا الملف، رغم أهميته في حماية المقدسيين بالحد الأدنى.

لقد تمكّن "فيصل" من دعم أهالي القدس ببناء ستة آلاف وحدة سكنيّة، هدمت سلطات الاحتلال مائتين منها، ووفّر السكن لأربعين ألف مقدسيّ، وأسهم في إعادة (1500) مقدسيّ إلى بيوتهم بعد أن طردهم الاحتلال منها([19]). وهناك العديد من الأمثلة على الدور الذي قام به "فيصل" في القدس في مختلف المجالات، التي لا يتّسع المجال لذكرها في هذا المقال

"فيصل" يستشرف المستقبل البعيد: يتنبأ بالانتفاضة الثانية ويرى نتنياهو الحالي ويحذر من تهويد القدس([20])

في أوائل عام 1998م توجهت إليه صحيفة الحياة اللندنية بستة أسئلة، حول مواضيع سياسية وأيديولوجة مختلفة، استهلّ الإجابة عليها بقوله:

منذ أن تولى بنيامين نتنياهو منصب رئيس وزراء إسرائيل، وهو لا يدخر جهداً من أجل تدمير عملية السلام التي انطلقت من مدريد في تشرين أول 1991م، واستندت على قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام. هذه السياسة للحكومة الإسرائيلية الحالية التي تتعارض كلياً مع مبادئ عملية السلام، تتماشى تماماً مع الخطوط الأساسية للبرنامج الذي طرحه نتنياهو لحكومته، القاضي بإفراغ المفاوضات من مضمونها، من خلال استمرار احتلال الأرض الفلسطينية، ومواصلة بناء المستوطنات، وتوسيع القائم منها، والسيطرة على مصادر المياه، ورفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة مع الاحتفاظ باحتلال القدس العربية باعتبارها، كما يدعون، "مدينة واحدة وموحدة ستبقى إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية".

وعليه، توقّع الانتفاضة التي حصلت بعد ذلك بعامين تحت اسم "انتفاضة الأقصى"، بقوله: وإذا ما استمرت الحكومة الإسرائيلية في وضع العراقيل أمام عملية السلام؛ وإذا ما واصلت تجاهلها لحقوقه الوطنية المشروعة؛ وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة، فإن أحداً لا يمكن أن يعلم ماذا سيحصل، وما هي الأخطار التي تهدد المنطقة والعالم، وتكون كل الخيارات أمام شعبنا متاحة وبمختلف الوسائل؛ فقد تكون انتفاضة أو غيرها، خاصة وأنه وصل إلى درجة خطيرة من الإحباط، بعد أن قدم كل ما يمكنه في سبيل السلام ولا يكافأ إلا بالرفض والتعنت الإسرائيلي، وعدم وجود وقفة جدية تسانده في مواقفه السلمية من دول العالم.

ولم يسجل على فيصل الحسيني أنه تقاعس بشأن ما يجري في القدس من عملية تهويد، أو تغاضى عما يقوم به الاحتلال من إجراءات تتم في كل لحظة، من أجل تحقيق تلك الأحلام الاحتلالية المجنونة المشبعة بالمعتقدات المريضة التي لا تستند إلى أي منطق، سوى منطق القوة الغاشمة التي يمتلكها بدعم وإسناد من الامبريالية الاستعمارية الأمريكية والأوروبية.

وفي صدد تعقيبه على الحفريّات والأنفاق حذّر "فيصل" من أن دولة الاحتلال تسعى للوصول إلى منطقة الأقصى والصخرة، تمهيداً لإقامة الهيكل الثالث" الذي طبعوا واجهته على قطعة النقد الإسرائيلية فئة (خمسة شواقل)، حتى نرى العمود الذي يحمل شعار الهيكل الثالث وتلك الاضلاع الاثني عشر التي تعني الأسباط الاثني عشر.

فيصل الحسيني: "أمير القدس"... سمات عامّة

لعلّه من المفيد التذكير بأن سمات القائد وصفاته وخصائصه وأثره وتأثيره تظهر على حقيقتها بعد وفاته؛ أي بزوال سلطته وسطوته. وأما بشأن فيصل الحسيني، فيمكنني أن أجزم بأن كل من قابلته وتحدثت معه عن هذا الرجل، وجدتُ في نبرات صوته لحنًا حزينًا على قائد مقدسيّ قضى نحبه في 31/5/2001م، أثناء زيارته للكويت، وهناك لغز في وفاته المفاجئة تلك. قضى الرجل فبكته قدسه بكاءها للرجال والأبطال الذين مروا عليها عبر تاريخها العريق. ولكن ذكراه باقية في نفوس من عملوا معه، ومن تعاملوا معه، ومن عايشوه ومن عاصروه.

أما الاحتلال؛ فقد أفرحه غياب ذلك الرجل القابض على قدسه؛ بغربيها وشرقيها كالقابض على الجمر.  كما يفرح الاحتلال لغياب قائد يتمتع بما أطلق نبيه عويضة؛ مدير المكتب الصحفي لبيت الشرق، وصف "القائد والإنسان"، وفق استراتيجيته تقوم على قاعدة: إذا أردت الوصول إلى أهدافك، فتحرك سريعا وبقوة بعد الاعتماد على الله ثم على شعبك"، وموجز سمات الرجل وخصائصه([21]):

-       تجسد في شخص "فيصل" صفات المفاوض المتمسك بالحق، الثابت على الموقف، وكان يصل ليله بنهاره من أجل حماية القدس وحماية أهلها؛ إذ كان بحسه المرهف، ووطنيته الجياشة، يعرف ماذا يريد شعبه، فكان يعمل وبإصرار منقطع النظير لتحقيق ما يريدون، متجاوزا كل العقبات التي كانت وفي كثير من الأحيان تعترض طريقه، كان يتجاوزها بابتسامته الدائمة التي لا تفارق محياه، والتي تشيع الأمل في النفوس، وتبعث الثقة بالمستقبل.

-       كان يؤمن بأن حب الناس وثقتهم، أغلى غاية يمكن أن يصل إليها الإنسان، يمتاز بتواضعه ومحبته للجميع، لم يغلق باب مكتبه أو منزله أمام أحد، ولا أعرف أنه رفض مد يد المساعدة لأي طالب لها.

-      كان "فيصل" رجل سلام، بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ يسعى وبكل جهده لتحقيق السلام القائم على الحق والعدل واستعادة الحقوق كاملة غير منقوصة، ومن هنا كان دفاعه عن القدس ليس كمدينة فقط، إنما كتاريخ وحضارة وثقافة ولغة...

ختامًا،

هذا هو "فيصل-السياسي" القادم من طفولة معذبة وتشرد، إلا أنها طفولة مشبعة بالفكر الوطني الصادق وبالانتماء المبدئي والعقائدي للوطن، الذي ينتظر ابنًا بارا يحميه من نائبات الدهر التي أودت به حتى أصبح نهبًا للغزاة القادمين من كل حدب وصوب، ومن كل لون ومن كل جنس؛ يجمعهم مصلحة واحدة، وهي: محو فلسطين الوطن والهوية الطبيعية من أهلها القابضين عليها عبر آلاف السنين، وإنشاء "إسرائيل" القادمة من عمق الادعاءات العقائدية الكاذبة.

وإذا علمنا بأن القدس تدخل ضمن تلك التعقيدات التي يختلط فيها السياسي بالعقائدي المدعوم بالقوة المفرطة، والقسوة والشراسة بلا حدود، فإننا حينئذ ندرك ما هي طبيعة، أو لنقل، تركيبة ذلك القائد الذي يمكنه الصمود والتحرك بنجاح بين الألغام التي انغرست في جسد فلسطين بشكل عام، وفي تفاصيل القدس بشكل خاص، عبر نحو قرنين من الزمن.

لقد تبين لنا مما سبق أن "فيصل الحسيني" لم يألُ جهدًا في تخليص القدس من بين أنياب الاحتلال الذي أطبق عليها من كل جانب، فكانت الأفكار والممارسات الإبداعية الخلاقة في جعل بيت الشرق بيت الضيافة الفلسطيني في القدس، بل أنه المطبخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان يدير دفة الصراع على القدس من الجانب الفلسطيني.

كما يتضح لنا أن ""فيصل الحسيني" كان يتلمس أنفاس القدس، بتاريخها وموروثها الحضاري، التي تئن من وطأة المحتل الذي سعى، بكل السبل، إلى تهويدها وحفر الأكاذيب والضلالات في تفاصيلها كافة. ففي رده على "ديفيد بيليغ" حول عملية تزوير التاريخ التي تجري في القدس، نلمس مدى اليقظة التي كان يتمتع بها "فيصل الحسيني" والفريق العامل معه، والدور الوطني الذي كانوا يقومون بأعبائه، رغم قلة الإمكانات.

ولا يمكننا المغادرة قبل الإشارة إلى أن هناك ذكرًا لا يتوقّف لـ "فيصل" من خلال "مؤسسة فيصل الحسيني" كجمعيّة خيرية، نطاق عملها مدينة القدس وضواحيها. ولعل من أجمل ما في هذه المؤسسة أن ربّانها، ومن يدير دفتها ولديْه: "محمد عبد القادر" رئيس المؤسسة، و"فدوى" المديرة التنفيذية، اللذين يصدق فيهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (رواه مسلم). تعنى هذه المؤسسة بتطوير مدينة القدس في مختلف الجوانب التعليمية والصحية والاجتماعية، والثّقافيّة والرّياضيّة([22]).

رحم الله "فيصل الحسيني"؛ المقدسي الذي بنى وأعلا البناء، فصنع تاريخًا لا يمكن محوه من ذاكرة الأجيال، حتى توج أميرًا لعاصمتنا الأسيرة.

عزيز العصا، فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 30 آذار، 2020م



([1]) العصا، عزيز، والخطيب، عماد (2018). أمير القدس: فيصل عبد القادر الحسيني. في: "مقدسيّون صنعوا تاريخًا. وزارة الثقافة. رام الله. فلسطين. ص: 161-199".

([2]) حلاوة، نوال (2019). مقابلة مع فيصل الحسيني سنة 1992. في: "حوارات صحفيّة. دار أفاتار للطباعة والنّشر. القاهرة. مصر. ص: 140-145".

([3]) الوحيدي، ميسون (2017).  فيصل الحسيني: أسطورة المقاومة الفلسطينيّة. المؤلفة نفسها. رام الله. فلسطين.

([4]) انظر: العصا، عزيز (2018).  في الذكرى السابعة عشر لاستشهاده: مؤسسة "فيصل الحسيني" تجدد ذكراه.. وتوقدها في النفوس. نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسيّة، بتاريخ: 31/05/2018م، ص: 16؛ العصا، عزيز (2015). في الذكرى الرابعة عشر لاستشهاد فيصل الحسيني: المقدسيون في العراء.. ينشدون السّكن. نُشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 31/05/2015م، ص: 18.

([5]) العصا والخطيب (2018). ص: 165".

([6]) مقابلة مع السيد "عبد القادر فيصل الحسيني". منشورة في "العصا والخطيب (2018). 167-168".

([7]) الوحيدي (2017).  ص: 15.

([8]) تم تسجيلها لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحت اسم "جمعية الدراسات العربية"، بأسماء كل من: فيصل الحسيني، وإاسحق البديري، وزهير الريّس، وفؤاد العارف، وباسل الحسيني، وإحسان عطية، وآسيا حبش ولميس العلمي.

([9]) مقابلة مع السيد "اسحق أحمد البديري". منشورة في "العصا والخطيب (2018). 168-171".

([10]) نفس المصدر.

([11]) حلاوة (2019). ص: 141.

([12]) الوحيدي (2017).  ص: 20-21.

([13]) مقابلة مع مفتي الديار الفلسطينية "الشيخ محمد حسين"، ومقابلة مع السيد "عبد القادر فيصل الحسيني". منشورتان في "العصا والخطيب (2018). 171-173".

([14]) مقابلة مع السيد "عبد القادر فيصل الحسيني"، ومقابلة السيد "إسحق أحمد البديري". منشورتان في "العصا والخطيب (2018). 173-175".

([15]) مقابلة مع السيد "كامل الحسيني". منشورة في "العصا والخطيب (2018). 175-180".

([16]) مقابلة مع السيد "كامل الحسيني". منشورة في "العصا والخطيب (2018). 175-180، 182".

([17]) حلاوة (2019). ص: 145.

([18]) حلاوة (2019). ص: 141-142.

([19]) الوحيدي (2017).  ص: 49-50.

([20]) العصا والخطيب (2018). 182-191.

([21]) مقابلة مع السيد "نبيه عويضة". منشورة في "العصا والخطيب (2018). 195-196".

([22]) مقابلة "فدوى فيصل الحسيني"، المنشورة في: العصا (2018).

إرسال تعليق Blogger

 
Top