نُشِرَ في صحيفة
القدس، بتاريخ: 07/06/2021، ص: 13
بقلم: عزيز العصا
معهد
القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس
http://alassaaziz.blogspot.com/
إن قراءة متمعنة لهذه
المجموعة القصصية، تبيّن أن الكاتب قد وظّف تخصصه الدقيق في الأدب، ومهنته
الأكاديمية في هذا المجال، ليرسم بالكلمات لوحات جميلة، ترسم ملامح البؤس والشقاء
التي يعيشها المهمشون في مختلف المجتمعات البشرية، التي يسود فيها الظلم والبطش،
والحكم الشمولي لحاكم أوحد يحيط به مجموعة من الفاسدين المفسدين. وأما الملامح
الخاصة بهذه المجموعة القصصية فهي:
أولًا: سرديات مغلقة بإحكام:
يُلحظ على هذه الوحدات
السردية أن كل واحدة منها تناولت موضوعًا محدّدا، تم صياغتها بلغة سليمة وبعبارات
مكثفة، وهادفة تجعل الأحداث على السكة التي أرادها الكاتب لتشكل المسار الصحيح
والدقيق، بل والمسار الأقصر، للوصول إلى المحطة النهائية التي يتشوق القارئ للوصول
إليها. وفي كل مرة نجد "المهمّش" وقد تلقى التعذيب النفسي والجسدي
بأشكال وأنواع وأساليب تخلو من الإنسانية والرحمة والعطف.
وما يفتأ القارئ ينتظر
النهاية، حتى تأتيه من حيث لا يحتسب، وقد وجدتُ أن الكاتب قد "أقفل" كل
سردية من سردياته هذه، بما يجعل المهمّش وقد انتصر على "الظلم والظالم/ين"
في حياته، أو أنه ضحى بحياته بشجاعة وصلابة، وهو متمسك بالمبدأ والفكر النيرّ. وفي
كل مرة تأتي النهاية مشبعة بالرسائل والإيماءات التربوية التثقيفية للأجيال
القادمة؛ بما يشعل إضاءات تحذيرية للظالمين والطغاة ومستخدِمي السلطة والسلطان
والنفوذ في قمع مواطنيهم. كما يحث كل فرد في المجتمع على التمسك بحقوقه، وأن لا
يتنازل عنها أيًّا كانت التضحيات.
وكأني الكاتب يشير للأجيال بأن
ما أنتم عليه من حرّيّة وسعة عيش واستقرار وحقوق فردية ومجتمعية، ما كانت لتصلكم
لولا أن هناك "مهمشين" ناضلوا وتحدّوا الظلم والطغيان، فانتزعوا لكم حريتكم،
وأعتقوا رقابكم من ظلم الطغاة والمتجبرين. ولنا في قصة
يوسف في هذه المجموعة القصصية أنموذجًا حيًّا على ذلك، عندما ضحى
بالكثير من أجل تحرير المجتمع من "توريث الحكم" الذي دأب عليه
"كبير العائلة".
ثانياً: للمجموعة سيميائيات ذات دلالات عميقة:
فقد وجدت مساحة واسعة
للسيميائيات التي تمتعت بها هذه المجموعة القصصية، بدءّا من الغلاف الذي ينبئ
القارئ عن ولوجه إلى نصّ يحمل رسالة إنسانية تؤكد على أن المهمش، عبر العصور يشكل
رمزية تعني إهمال الإنسان وسلبه حقوقه وعدم الالتفات إلى احتياجاته الأساسية التي
تكفلها له النظم الاجتماعية المختلفة.
وأمّا لوحة الغلاف فجاءت بسيميائية
واضحة لبشر مضطهدين قابعين في ظلمات القهر والظلم. كما تأتي سيميائيات الأسماء
التي اختارها الكاتب بعناية ووظفها في النص لتغني عن الشرح والتفسير. فالظالم
كزعيم، أو أمير، أو حاكم، أو عمدة، أو كبير البلد، أو باشا، أو مختار أو سجّان....
الخ. ولا تخلو بعض القصص من الفانتازيا،
كأنسة الديك، واللوحة، والذئب، والكلب، والطنجرة.... الخ وإنطاقها بما يخدم المشهد
ويسهم في بتّ الرسالة التي أرادها الكاتب. ففي رفض الطناجر واحتجاجها وهتاف القطط
والكلاب رسالة للحاكم الذي يموت مواطنوه "جوعًا" وهو غارق في النعم
والمتع...
ثالثًا: المهمشون مبدئيون قادمون من شرائح مجتمعية مختلفة:
لقد جاء كلّ مهمّش في هذه
المجموعة القصصية بفلسفته الخاصة وروايته ومنهجيته في مواجهة الظلم بقوة واقتدار
وتعرية الظالم. بدءًا من القصة الأولى "الفريضة
المؤجلة" التي رفض فيها المهمّش مقايضته رغد العيش وسعته والإمامة
مقابل تنازله عن شرفه، فقضى نحبه ولحقت به زوجته وتشرد أبناؤه. يليه "السجّان" الذي ينكر على مواطنيه مواطنتهم
وحقوقهم في التمتع ببلدهم، ويلقي بهم في السجن، رجالا ونساءً وأطفالًا لأنهم بلا
تأشيره دخول، ويمنح التأشيرة لغانية تشبع غرائزه، ويصف مواطنه بــــ "الوجوه
الرمم".
وبنظرة ثاقبة نجد الكاتب يعالج
ظاهرة المنافقين المتسترين بالدين تحت اسم "حرّاس
الشرف" وهم يمعنون في تعذيب وامتهان امرأة نسبت أن تلبس عباءتها،
فابتكروا لها سياطًا يمارسون به "الجلد الحلال": عندما برروا جَلْدَها
بابتكار تهمة "الزنى" لتلك العفيفة الطاهرة. وفي موضع آخر تجد المهمشين
جماعات يدفعون حياتهم ثمن شبق "الباشا"
الذي يقايض علاجهم لنيل شرف "نبيلة" النبيلة:
وفي قصة حيكت بأسلوب مشبع والخيال الواسع نقف أمام ظاهرة
اعتبار ولادة الأنثى "عار" فيتبع الكاتب
فكرة إخفائها في "قمباز" أبيها الذي يموت عنها وهي شابة، فتخرج وتواجه
المجتمع، وتنتصر على أصحاب القنابيز الذين يتفرقون عنها بصمت. وهناك صورة لسذاجة
الظالم وضيق أفقه كالعمدة الذي تشاغله "المشعوذة" وتحصل منه على حرية
المعارضين لحكمه. وللاحتلال والمستوطنين حضور من خلال قصة "موت الامام"؛ إذ تختلف أهل القرية على تعيين
إمام، فجاء القريب إمامًا لهم، ثم أمر بهدم الجامع وبنى مكانه مقرّا له.
كما أن المشترك بين هؤلاء
المهمشين أيضًا مفهوم العفّة والكرامة والتضحية من أجلهما؛ كالزوجة التي ترفض أكل
بقايا طعام الملوك، وذاك الذي اتهم بالزندقة لمجرد خطأ في الأذان لينتهي أمره بأن تكون
أسرته طعامًا للكلاب الضالة. وفي قصة الزعيم (كبير العائلة) يصل الصراع مع الأحرار
ممثلين بيوسف ذروته، عندما يصمد يوسف ويضحي بأسرته كاملة من أجل إحقاق حق المجتمع
بحكم نفسه بنفسه دون أن تورّث قيادة المجتمع داخل عائلة الحاكم ومن ذريته. وفي
صورة على نهاية الظالم نجد قصة "الشنفزي"
الذي منع الداية من توليد مواطنة فماتت، والذي اعتقد مواطنوه أنه لن يموت؛ فمات
ببعوضة اقتحمت أنفه.
ولم يغادرنا "عياد" قبل أن قبل أن يأتينا
بسرديات تشير إلى معنى المواطنة وصدقتها وأصالتها وقدرتها على حماية الوطن عند
النوائب، مقارنة مع النفاق للحاكم الذي يزول أصحابه ويتفرقوا عند أول أزمة تمر بها
البلاد، كما في قصة "أنا مواطن"؛
إذ يفرّ من حول الملك جميع منافقيه لمجرد اعتقادهم أنهم قد يموتون دفاعًا عن الملك
أو دفاعًا عن الوطن. وأن هؤلاء المنافقين ليسوا سوى شياطين يبتكرون للحاكم فنون
الظلم والفتك بالمعارضة كما حصل مع الوزير الذي رفض الموافقة على ملفات فساد
موبوءة، فحيكت له تهمة الفساد الوارد في تلك الملفات لينتهي أمره سجينًا مظلومًا.
ختامًا،
لقد تميزت هذه المجموعة
القصصية بأنها تشكل نصوصًا وسرديات تحمل رمزيات عبّر عنها "المهمشون"،
وقد عضوا عليها بالنواجذ؛ تحمل سمات الأخلاق الحميدة، والعفة والطهارة. والقدرة
على الصمود في مواجهة الظلم والظالمين وتحمّل سياطهم، أو الموت تحت التعذيب ـــ لا
يهم ــــ فالمهم هو حماية المبدأ وحرية الرأي والمحافظة على قول كلمة الحق في وجه
الظالم الحائر، أيُّا كان مستوى جوْره أو ظلمه. كما كان لكل مهمش في هذه المجموعة
القصصية مقولة فلسفية انطقه بها الكاتب، تبقى نبراسًا للأجيال، مثل: يا باشا، عنقي
تؤلمني من كثرة الطأطأة؛ أي أن الطأطأة أَلمٌ وليست مصدرًا للمتعة.
وفي وصف ثنائية مؤلمة تحكم
البشر، يقول الكاتب: طرف يغرق في الموت البطيء، وطرف يغرق في الاستمتاع بتصفية
أرواح بشر في وحل القذارة. بهذه الصورة المأساوية أختم قراءتي لهذه المجموعة
القصصية مبارِكًا للكاتب "د. سعيد عياد" جهده الذي أتى أكله من خلال هذه
المجموعة القصصية، وتاركًا للقارئ الكريم أن يقرأ ما لم أقرأه، ويلمح ما لم ألمحه بين سطورها.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
3 حزيران، 2021
إرسال تعليق Blogger Facebook