0

 سمير أبو الهيجا في كتابه "عين حوض":

يدافع عن عروبة بلدته ويكذّب ادعاءات التهويد!

بقلم: عزيز العصا

معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس

aziz.alassa@yahoo.com

http://alassaaziz.blogspot.com/


مقدمة

"سمير أبو الهيجاء"؛ باحث وكاتب فلسطينيّ حيفاوي، سليل عائلة تاريخية، ضربت جذورها في أعماق فلسطين منذ مئات السنين. عرفته وصادقتُه من خلال انشطته الكتابية والثقافية ومؤلفاته ذات العمق الوطنيّ، المتعلق بالظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني منذ قرن ونيّف؛ من طرد، وتهجير، وترانسفير، ولجوء، وسرقة أراضٍ، وتزوير... وما يعنيه ذلك من عذاب وقهر ناجم عن فقدان وطن وتيهان بوصلة المستقبل!      

وأما الإنجاز الأخير الذي نحن بصدده لـ "أبو الهيجا" فهو كتابه-دراسته "عين حوض". يتضمّن الكتاب-الدراسة، الحقوق محفوظة للمؤلف، والمطبوع في القدس عام 2020، بحجم (176) صفحة من القطع المتوسّط. راجعه ودققه وصممه الكاتب والشاعر المعروف خالد غبارية، وصمم غلافه د. فرح طرزي ياسين. ولان الغلاف يشكل عتبة النص، وينبئ القارئ عن روح المحتوى الذي هو مقبل عليه، فإن الغلاف تمتع بسيميائية تشير إلى بلدة تتمتع بجمال أخّاذ، وتقع وسط محيط واسع من الخير العميم والوافر؛ من الأشجار الباسقة والأرض المكسوّة بالخضار من شجيرات ونباتات، حتى انك لا تكاد ترى للتراب أية ملامح.

بقراءة متمعنة لهذا الكتاب، وجدتُني أمام عمل جاد، يكاد يأسرك بضرورة قراءته من الغلاف على الغلاف؛ لما يوفره من معلومات وبيانات وبيّنات تتعلق بالاحتلال الاستيطاني الإحلاليّ الذي وقع على أرض فلسطين، وتتوزع هذه المعلومات بين الجديد غير المسبوق، وبين تأكيد ما ذكره الآخرون، مما يعزز رواية وطنية متكاملة الأركان من حيث شهادات الشهود العيان. وأما الملامح التي تمتع بها هذا الكتاب، وتجعله مصدرًا مهما من مصادر الرواية الوطنية الفلسطينية، كما وجدتُها، فهي:

عراقة السكان وقانونية الملكية ونقاء البيئة:

فقد تتبع الباحث "أبو الهيجا" الجذور التاريخية للبلدة قيد الدراسة "عين حوض" (الكتاب، ص: 11-42)، مستندًا إلى ما كتبه الرحالة والمؤرخين، الذين زاروها ووثقوا لها من مختلف الجوانب الحضارية والزراعية والعمرانية، بعمق زمني يعود لأيام الصليبيين، الذين أقاموا على رقعتها حصنًا وديْرًا؛ أي قبل نحو تسعة قرون من إقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين، تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

كما يتبين وجود شبكة من الصلات الجغرافية، والديمغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية بـ "عين حوض" وسكانها بمحيطهم الجغرافي والاجتماعي مع جوارهم من قرى ومدن، لا سيما وأن أراضيها تمتد من الشمال إلى الطيرة، وتصل من الجنوب إلى حافة البحر. وجميع أراضيها ملك لسكانها من آل أبو الهيجاء. وهي موقوفة منذ عام 1910م، تحت اسم "وقفية سعيد الكوكباني" وقفًا ذرّيًّا على خمسة حصص تتوزع "بالتساوي" على خمس حصص. 

وأما عائلة "أبو الهيجاء" التي تقطنها، فهناك اختلاف بين الباحثين حول جذورها؛ فهناك من يعتقد بأن جدّهم الأول "حسام الدين أبو الهيجاء" قدم مع صلاح الدين الأيوبي، وهناك من يقول بأنه جاء قادمًا من قرية "كوكب أبو الهيجاء"، وفي روايات أخرى تنسبهم إلى الحمدانيين، الذين تعود جذورهم إلى قبيلة تغلب العربية، وهناك مقولة تنسبهم إلى الإمام الحسن رضي الله عنه، ومقولة أخرى تنسبهم إلى "جعفر بن أبي طالب (الطَّيَّار).

عين حوض قبل النكبة:

وفق أرشيف الهاجاناة سنة 1942م، تبلغ مساحتها نحو (15,000) دونما؛ ثلثاها جبلية والثلث الآخر ساحلي، يقطنها (70) نسمة، ويوجد فيها (7) عائلات لا تمتلك أراضٍ، وقامت الهاجاناة بإحصاء دقيق لكميات الحبوب (القمح والشعير والذرة والسمسم) والخضروات وأعداد الأغنام والدواجن ولأحصنة والجمال والحمير. وفيها مدرسة ومسجد –تم تحويله إلى خمّارة بعد النكبة- (الكتاب، ص: 43-45).

كانت "عين حوض" تتمتع بحركة تعليمية للذكور والإناث، ومن يتفوق منهم يتم إرساله على حيفا لإكمال تعليمه (الكتاب، ص: 48-50). كان فيها معصرتين، ومقبرة تسمى مقبرة العرب تضم رفاة الشهداء الذين قاتلوا الصليبيين، وعدد بيوتها (130) بيتًا (الكتاب، ص: 53-58).

وفي مشهد حضاري متكامل، يصف الباحث "أبو الهيجا" أكلات "عين حوض" وحلوياتها والأدوات والأواني المستخدمة فيها، وأنواع اللباس، وأيام الحصاد، والأعراس، والأغاني، وأعمال سكانها في الزراعة وصناعة الشيد وإنتاج الفحم، وقطع الحجارة وصقلها وبيعها، وطحن الحبوب في مطحنة البلدة. ويكمل بالمشهد الطبيعيّ الخلّاب؛ الأشجار والغابات والشجيرات والحيوانات البرية والطيور. وقد أدى هذا كله إلى مناخ جميل متوازن؛ الأمر الذي جعل القرية خالية من أي نوع من الأمراض (الكتاب، ص: 63-79).              

العلاقة مع اليهود- من علاقة حسن جوار إلى هجمات احتلالية-إحلالية:

قبل الانتقال إلى نكبة "عين حوض" وتشريد أهلها، لا بد من التأكيد على حقيقتين تتعلقان بالمعتدين اليهود، وهما: أما الأولى، فإنّ قرية "عين حوض" خالصة الملكيّة لأهلها، وهي موقوفة وقفًا صحيحًا كما ذكرنا أعلاه؛ أي أنه ليس لليهود فيها أي وجود، مباشر او غير مباشر. وأما الحقيقة الثانية، فهي أنه منذ سنة 1903م كان لليهود مستعمرة "عتليت" مجاورة لهذه القرية، وكانت العلاقة بين يهود هذه المستعمرة وأهالي القرية علاقة حسن جوار، حتى سنة 1948م؛ إذ أصبحت المستعمرة مصدرًا لإيذاء القرية والاعتداء على أهلها ومهاجمتهم (الكتاب، ص: 55).

وهناك من يؤكد على أن أول وجود يهودي كان لليهود في قرية عتليت، وأن أهالي "عين حوض" وضعوا عليهم حارسًا لحمايتهم، بعد أن كانوا حفاة عراة (الكتاب، ص: 101). وعندما أصبح لهم مستعمرة في ذات المكان كانت العلاقة بين القرية والمستعمرة طيبة، وكان مرضى القرية يتعالجون في المستعمرة (الكتاب، ص: 116). وكان اليهود يدعون رغبتهم العيش مع العرب بسلام (الكتاب، ص: 123).

نكبة "عين حوض" والأكاذيب حولها:

كانت "عين حوض" واحدة من قرى فلسطين ومدنها التي قاتلت وقدمت جحافل الشهداء دفاعًا عن وجودها في مواجهة "العصابات الصهيونية". إلا أن الكف الفلسطيني، المتمثل بالسلاح المتواضع جدًّا وانعدام التدريب وقلة الخبرات، لم يتمكن طويلًا من مواجهة "المخرز" الصهيوني-البريطاني، الذي يمتلك القوة المفرطة والمال بأرقام فلكية، والخطط المحكمة المرسومة بدقة وعناية منذ أمدس بعيد. وقد تتبع الباحث "أبو الهيجا" أحداث النكبة، جاهدًا نفسه لتبيان حقيقة ما جرى، من خلال شهادات حيَّة قدمها عدد من أبناء القرية.

لقد هوجمت قرية "عين حوض" عدة مرّات في شهر نيسان 1948م، فصمد أهلها ودافعوا عنها وبقوا فيها. وهناك حادثة كررها الشهود في هذه الدراسة، تدلل على اتباع أهالي هذه القرية استراتيجية الصمود والمقاومة والدفاع من قبل الحرّاس من أبناء القرية، وهي: أن الصهاينة اعتقلوا شخصًا من الطيرة، فاحتجزوا زوجته وأولاده، وأرغموه على التوجه إلى أهالي "عين حوض" طالبًا منهم الاستسلام، فلقيه المرحوم "عبد الله أبو الهيجاء" (رحال)، فأشهر بندقيته على الرجل وقال له: "قل لهم الحرب بيننا"! ومن شهداء عمليات النكبة: عطا نجيب أبو الهيجاء وامرأة أخرى قتلت في بيتها. إلا انها، وبحسب الرواية الإسرائيلية، سقطت نهائيًّا في أيدي العصابات الصهيونية، بين الهدنتين في 15/7/1948م (الكتاب، ص: 80-88، 118، 123).

وللرد على الأكاذيب التي تتضمنها الرواية الصهيونية، يخصص الباحث "أبو الهيجا" مساحة واسعة للرد على الكاتب "شوكي لبناي"، الذي نشر تقريرًا في صحيفة "مكور ريشون" العبرية، تخلله عدد من الضلالات بشأن قرية "عين حوض" وكيفية سيطرتهم عليه، ومما يفنّده شهود الباحث في هذا التقرير (الكتاب، ص: 88-95، 111):

-       إن المفتي الحاج أمين الحسيني لم يزر القرية قط، مما يكذّب ادعاء الكاتب –ومن خلفه الحركة الصهيونية- "بأن أهالي القرية خرجوا بإيعاز من المفتي"! وهناك من الشهود من يؤكد عكس ذلك؛ أي أن رفض مغادرة أي فلسطيني لبلاده (الكتاب، ص: 100-101).

-       وهناك ضلالة صهيونية أخرى يروج لها الكتاب الصهاينة، تدعي بأن العرب هربوا من تلقاء أنفسهم (الكتاب، ص: 104).  

-       إن القرية ظلّت معمورة بأهلها حتى اللحظات الأخيرة قبل سقوطها بأيدي العصابات المهاجِمة؛ مما يكذّب ادعاء التقرير بأن "أبا حوشي أبا حوشي (رئيس بلدية حيفا في حينه) زار القرية عام  1947م فلم يجد فيها أي إنسان"! ويؤكد الشهود أن "أبا حوشي لم يدخل القرية في ذلك الوقت؛ لأن أحدًا لا يجرؤ على دخول القرية.

-       لم يسكن "عين حوض" أي غريب ولا حتى مستأجر، سوى شيخ المسجد، والعمال الذين يعملون في القرية. مما يكذّب ادعاء التقرير بأن "خمس عائلات يهودية سكنت القرية"!

الاستراتيجيات القتالية للعصابات المهاجِمة:

لقد تعرضت "عين حوض" إلى عمليات مداهمة ومباغتات، وكر وفرّ، ووفق استراتيجيات قتالية، ذكرتها هذه الدراسة، منها:

-        الجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية في أماكن أخرى، كالطنطورة المجاورة، ودير ياسين، وقبية، وسقوط حيف... كل ذلك وغيره أخاف القرى الصغيرة (عين حوض واحدة منها) (الكتاب، ص: 92).

-        تعليمات القيادة الصهيونية لجنودهم بأن يقتلوا أكبر عدد ممكن من السكان وأن يحرقوا البلد، ويخرجوا منها (الكتاب، ص: 92-93).

-        استراتيجية الصهاينة بمهاجمة البلد من ثلاث جهات وترك الجهة الرابعة مفتوحة لخروج السكان. وهذا ما حدث مع قرية عين حوض؛ أي أن السكان خرجوا تحت حدّ السيف الصهيوني (الكتاب، ص: 95-96، 98)، كما أن القتل شمل الماشية أيضًا (الكتاب، ص: 107).

-        وهناك استراتيجية الهجمات المتكررة بانتظام، فقد كانت العصابات الصهيونية تهاجم قرية عين حوض بوتيرة "مرة كل 48 ساعة"، وقد دخلوا القرية نحو (5) مرّات، آخرها المرّة التي خرج فيها السكان بلا رجعة (الكتاب، ص: 127). حيث خرج غالبية السكان إلى الجبال والكهوف، وبعدهم خرج الحراس والمدافعون عن القرية (الكتاب، ص: 129).

-       استراتيجية المحو والإنشاء، فقد تم محو هذه القرية والعبث في هويتها الجغرافية والحضارية، ليطلق عليها اسم "عين هود"، ويتم جعلها "قرية للفنانين"، وأقاموا عليها مستعمرتين أخريين، هما: نير عتصيون ويمين أورد –مدرسة دينية- كما لاحقوا سكان القرية من مالكي الأراضي لاستلاب أراضيهم منهم؛ لبتر صلتهم بها إلى الأبد (الكتاب، ص: 102-103).

ختامًا،

   لا يمكنني مغادرة هذا الكتاب الدراسة دون الإشارة إلى ما انتابني من حزن جارف وضيق وغضب وحنق، أثناء القراءة وإعادة القراءة؛ لفهم ما بين سطورها وما خلفها من مكونات الرواية الوطنية. ومما يريح البال شهادات شهود العيان من أهالي "عين حوض" الذين تضمنتهم هذه الدراسة، وما تميزت به هذه الشهادات من الدقة والوضوح والموضوعية، مما يجعلها وثائق من التاريخ الشفوي، التي يمكن الاتكاء عليها عندما نمتلك زمام محاكمة المعتدين على أرضنا وهويتنا الحضارية ووجودنا الإنساني.   

 كما أن آخر صفحتين، وما تبعهما من وثائق وصور، جعلتني أستعيد أنفاسي، عندما يبث الباحث "سمير أبو الهيجا" رسالة جليَّة وواضحة لذلك القادم من بعيد، من خلف البحار، وقد أطلق عليه تسمية "الذي حلّ بعدي"؛ ففي هذه الرسالة تشخيص واضح لحالة الصراع، واختلال توازنات القوة، التي جعلت هذا القادم يحتسي الخمر في مسجدي، ويرسم لوحاته (الفنّية) على جماجم الآباء والأجداد، مذكّرًا إياه بأن ما يجعل هذا القادم يستذكر ما قبل (2000) سنة ظلمًا وزورًا وبهتانًا، من الأولى أن يجعل من هم أحياء يرزقون يستذكرون (70) سنة هم الأقوى وهم الأقدر على استعادة حقوقه مهاما طال الزمن.       

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 18 تشرين الثاني، 2021

 

إرسال تعليق Blogger

 
Top