0

 إياد شماسنه في روايته "الوجع والجرأة":

المعمورة: أضاعها عِلْيَةُ القوم وأبناؤهم.. وبقيت أسفار خرابها!

نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 02/12/2021م، ص: 10

بقلم: عزيز العصا

معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com


تقديم

إياد شماسنة؛ روائي وشاعر وممرض وإداري ومترجم، ينتقل بأعماله دومًا إلى الأفضل، بل أفضل الأفضل.  قرأت له غالبية ما نشر، من شعر ونثر ورواية. وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده لـ "إياد شماسنة" فهو روايته الثالثة "الوجع والجرأة" الّتي تأتي بعد إصداره لروايتيه "امرأة أسمها العاصمة" عام 2014م، و"الرقص الوثني" عام 2017م، وديوانيه الشعريين: "التاريخ السري لفارس الغبار" و"حدائق الكريستال".

صدرت رواية "الوجع والجرأة"، بطبعتها الأولى، عام 2021، عن "مكتبة كل شيء-حيفا ناشرون" في حيفا. وتقع الرّواية في (399) صفحة من القطع المتوسّط، يتوزّع عليها (36) محطة سردية؛ (3) برازخ و(33) سفرًا. وقبل الغوص في ثنايا هذه الرواية وتحليل مكنوناتها لا بد لنا من التعرف إلى مفهوميّ "البرزخ" و"السفر". فللبرزخ عدة معانٍ ومفاهيم، إلا أننا سنكتفي باعتباره الفاصل بين شيئين، وهناك من يعتبره مرتبة فكريّة إدراكيّة معرفية. وأما السِّفْر فهو الكتاب أو "الكتاب الكبير". ويرى "شماسنة"  أنه "قبل كل سِفْر حكاية"، فافتتح روايته هذه بثلاث حكايات للبرزخ الثاني.   

ثيمة الرواية وسيميائية العنوان والغلاف

تبدأ الرواية بغلاف يشكل عتبتها الأولى وما يكون قد أراده الفنان "شربل إلياس" عندما صمم لوحته، بأن جمع بين ضوء ساطع قادم ليشتت ظلمة المكان، محاولًا كشف ملامح المعمورة، التي نرنو إليها من بعيد. ويُتبع الكاتب ذلك بإهداء فلسفيّ مشبع بالحب.

لقد اتبع الروائيّ "شماسنة" منهجية مختلفة عما تعودناه في التقليد الروائي السائد، فقد استضاف القارئ ليسير به في ممر متعدد الأبواب والمفاتيح، يوصله إلى النص والولوج فيه، بأن فتح له الباب الأول بقول لـ "أناتول فرانس"، الذي يحمل إشارة واضحة إلى أن الأمم والشعوب والحضارات تُحطَّم من داخلها أولًا، وبأيدي أبنائها ومعاولهم، وما من عدو ينتصر إلّا بعد تآكل داخليّ للأمة المهزومة. بذلك يومئ الروائيّ "شماسنة" للقارئ أنه مقبل على نصّ مشبع بصراع له نهاية غير سارّة لحضارة تشبه المعبد؛ عملًا وإتقانًا وقدسيَّة...



ثم فتح الروائيّ الباب الثاني المتمثل بثلاث حكايات، تصف واقع القدس تحت الاحتلال بما يحمله من مرارة وبؤس، متمثل بالاحتلال الذي يرقب حياة المقدسيين ويعدّ عليهم أنفاسهم. وهذا الواقع قادم من عمق التاريخ الذي يدفع بطل الحكايات "عبد المعطي الساحوري" إلى البحث في هذا الحال وصولًا إلى جذوره وأسبابه... ثم ينتقل الروائيّ بنا إلى الباب الثالث الأرحب والأوسع المتمثل بالأسفار –عددها 33 سِفرًا- التي تشكل هيكل الرواية وقوامها الفني واللغوي والسردي، كما ينقلها السارد القادم من المعمورة في أواخر القرن التاسع عشر؛ وهو "الشيخ طاهر عبد المعطي سالم الطاهر"، فيلتقطها ابن القدس "عبد المعطي الساحوري" ويدوّنها ويقدمها للأجيال القادمة التي يقع على عاتقها مهمة تغيير هذا الحال، واستعادة المعمورة التي أضاعها الأجداد لجهلهم وسلبها الغرباء بخبثهم. فيُسدل الستار على التقاء ما أسماه "شماسنة" "الأبعاد المتوازية"، وهي: البرزخ الخالد، والزمن الحاضر وزمن المعمورة!       

ينبؤنا السارد منذ السِّفر الأول –سفر التكوين- ببنائية الرواية، ليجعل القارئ يتوهم توهمًا قاطعًا بالحقيقة، وذلك عندما يعرّف البنيتين –المتخيلتين- للرواية: الزمانية والمكانية مستخدمًا أماكن حقيقية، ومشيرة إلى ملامح حقبة زمنية حقيقية، كما يأتي:

البنية المكانيّة: المعمورة؛ بلدة ريفية زراعية تتبع متصرفية القدس الشريف، تجلس على عرشها القرويّ بين الجبال الشمالية الغربية للقدس.

البنية الزّمانيّة: تدور أحداث الرواية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ أي أيام الحكم العثمانيّ؛ فتكون المعمورة خاضعة لصاحب السلطان في الآستانة. 

نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 02/12/2021م، ص: 10

أما من الناحية الجوهرية، والمتعلقة بالنص الروائي، فجاءت عناصر الرواية، المتمثلة بوصف المكان، وتسلسل الأحداث وتتابعها، والشخصيات والسرد، متآزرة ومتماسكة للحد الذي جعلها تتحرك معًا داخل النص، دون انفصال، مما شكّل حالة من التشويق للقارئ الذي يتوزّع شغفه بين البحث في تاريخ المكان وسماته، أو شغف بالأزمنة والعصور وسماتها، وبين البحث في شخصيات الرواية وكيفية إنطاقها و/أو استنطاقها. فبالرغم من أن المكان تخييلي، إلا أن السارد أشار إلى جواره ومسالكه والطرق الحقيقيقة المعروفة بأسمائها، كما وردت في النص. وأما الزمان، فجاء حقيقيًا؛ من خلال الأحداث والأسماء والتواريخ التي تم توظيفها في النص. 

كما جاء السرد مكثّفًا جدًّا؛ حتى أن السطر الواحد يضم أكثر من حدث وأكثر من شخصية تتزاحم في النص. كما تداخلت الفنتازيا والحقيقة، والتخييل والواقع، بما يجعل النص بحاجة إلى قارئٍ يقظٍ متأنٍ، قادرٍ على القراءة وإعادة القراءة.

ختامًا،

جاءت هذه الرواية بثيمة متعددة الأبعاد؛ تأريخية، وسياسية واجتماعية، وتتلاقى هذه الأبعاد لتنصهر في البعد المعرفي؛ وهو البُعد الرئيس الذي يبحث عنه القارئ المثقف والعارف بخبايا "المعمورة" وما خُطّط لها في الظلام، وما جرى لها ولشعبها. وأما جوهرها فيقوم على اختراق تابوهات عِلية القوم في مجتمع المعمورة، الذي تتنافس فيه المرأة مع الرجل في جميع الأحداث، حتى أدوار التجسس والأدوار الأكثر جرأة، إلى جانب دورها في إدارة المنزل وإرضاء الزوج "المزواج".

لقد جاء البُعدٌ المعرفي مشبع بالبيانات والبيّنات التي تشير إلى حياة المجتمع الفلسطيني في القرن التاسع عشر إبّان الحكم العثماني، كان فيها الفرد مظلومًا مضطهدًا ليس له قيمة إلا بقدر من يحني ظهره ويكون مطيّة للكبار الذين يخدمون الحاكم، ذكرًا أو أنثى. وأما الأنثى، فيُضاف إلى ذلك "معضلة" أنها أنثى؛ فتقتل "نحرًا" كما الشاه، لأي شبهة أو إشاعة مغرضة، مهما صغرت؛ قربانًا للجهل الناجم عن انعدام التعليم، والشعوذة الناجمة عن الفقر المدقع. فقد تبين من أحداث الرواية، أن مساحة الموت أوسع من مساحة الحياة، والحزن هو السائد، وأنه لا فرح "تقريبًا" في المكان.

وإذا كان لا بد من تبيان الوجع في هذه الرواية، فإنني رأيته يتمثل في تمسّك قيادات مجتمع المعمورة بالقديم البالي الذي كان يزيد الفقير فقرًا ويزيد الغني غنى، مما أظهر عجز عِلية القوم عن تربية أبنائهم تربية وطنية مستقيمة، فانبهروا بالغرباء وحضارتهم وإغراءاتهم؛ مما جعلهم عرضة للاختراق من قبل المستعمرين الذين استخدموهم من أجل الانقضاض على المعمورة. فكانت النتيجة المأساوية بضياع المعمورة ومحيطها الجغرافي، وتشتت شعبها، ليبقى أثرها المكتوب في "أسفار الخراب في المعمورة"، محفوظًا كمخطوط لدى "عبد المعطي" وهو يكابد الغرباء، الذين قدموا منذ خراب المعمورة، وقواتهم المنتشرة في كل مكان.

يكاد المرء يرى الأحداث وكأنها تدور في العصور الوسطى، بل العصور الأكثر ظلامًا وظلمة في حياة البشرية، لولا أن السارد كان يشير إلى تواريخ حقيقية، يسندها بأسماء حقيقة لأمكنة وشخصيات وأماكن معروفة!

لقد وجدت في هذه الرواية إضافة نوعية إلى الرواية العربية والمكتبة العربية؛ لما تتميز به من جرأة في طرح القضية الأكثر تعقيدًا أمام الروائيين؛ وهي فلسطين وما جرى على أرضها من أحداث. وعليه، فإنني أهيب بصانعي القرار في الشأن الأدبي الالتفات بجدية ومسؤولية وطنية إلى هذا العمل الأدبي، بجعله على رفوف مكتبات مدارسنا وجامعاتنا، وتسويقه عربيًّا ودوليًّا؛ لما فيه من عمل رصين ومتقن؛ سردًا وحبكة وأحداثًا ولغة!          

 فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 13/11/2021م

 

إرسال تعليق Blogger

 
Top