من بين الأساليب التي اتبعها الاحتلال في "الضغط" على المقدسيين بهدف إرهاقهم وإحباطهم، كانت تلك الجبايات المالية (المتعددة الأوجه) التي جعلت المقدسي يدور حول نفسه بلا هادٍ ولا دليلٍ. ولكي نضع الأمور في نصابها؛ فقد تم الرجوع إلى المصادر المتخصصة في الرقم الإحصائي المقدسي، فتبيَّن أن تلك الجبايات تتوزع على المحاور التالية:
أولاً: الأرنونا: وهي تلك الأموال التي يجبيها الاحتلال من المقدسيين، كضرائب يتم فرضها على عقاراتهم (شقق سكنية ومحلات تجارية)، بواقع يتراوح بين (35-90) دولاراً، على كل متر مربع من أي عقار يملكه المقدسي في المدينة( ).
ثانياً: الضرائب، مثل: ضريبة الدخل؛ وهي ضريبة تصل إلى 10% من دخل الأفراد والشركات، وضريبة القيمة المضافة: وهي ضريبة تُحصل بنسبة 17% من قيمة المبيعات، وضريبة الأملاك؛ تحسب بنسبة 3,5% من قيمة الأرض، وضريبة العمال؛ وهي ما نسبته (10%) من دخل العامل المقدسي .
ثالثاً: التأمين الوطني: التي يدفع المقدسي، بموجبها، مبلغاً سنويا مقابل تلقي خدمات اجتماعية وصحية.
رابعاً: هناك مسلسل، لا ينتهي، من أساليب (نهب) الأموال من المقدسيين، لا يتسع المجال لذكره، مثل: مخالفات السير، ومخالفات مواقف السيارات، ومخالفات البناء، وتكاليف هدم البيوت، وتكاليف الترخيص... الخ.
خامساً: الاستئجار: نظراً لسياسة محاصرة المقدسيين وملاحقتهم؛ لمنعهم من البناء الجديد، وهدم القائم، أصبح من العسير على أسرة جديدة أن تجد مكاناً تقطنه، إذ أن عملية الاستئجار في شرقي القدس أصبحت من الصعوبة بمكان؛ حتى أن أجرة المتر المربع الواحد لا تقل عن (10) دولار شهرياً.
إن ما ذُكر أعلاه يقضي بأن (تدفع) الأسرة المقدسية بين (50%-60%) من دخلها لصندوق بلدية القدس. كما أن هناك مجموعة من الحقائق لا بد من التوقف عندها، معمقاً، وهي) ) ( ):
• حوالي (35%) من ميزانية بلدية القدس الاحتلالية مصدره الاموال التي يتم جبايتها من المقدسيين.
• الأموال، التي تُسلب من المقدسيين، لا يُستثمر أكثر من 5% منها في خدمتهم.
• حوالى 70% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وأن 22% فقط من أهل شرقي القدس يتلقون خدمات التأمين الوطني. ويعود ذلك إلى عدة أسباب تتعلق بالخداع والتضليل الذي يتعرض له المقدسيون كي تتخلص بلدية الاحتلال من التزاماتها اتجاههم، وفق أسباب سياسية ممنهجة لحسم الصراع الديموغرافي لصالح الاحتلال.
نستنتج مما سبق أن كدّ المقدسيين، وتعبهم، وأموالهم ينتهي إلى جيوب المؤسسات والجهات الاحتلالية، التي تصرفها على خطط وبرامج تهجير المقدسيين واستئصالهم من قدسهم، كما تصرف على (اغتصاب) أراضيهم لصالح المستوطنين؛ الذين يعيشون في رغد من العيش.
لتأكيد ذلك، وفي واحدٍ من أشكال التمادي الاحتلالي على المقدسيين وحقوقهم في العيش الكريم على أرضهم، يتبع الاحتلال العديد من الأساليب والطرائق والوسائل التي تؤدي، في النهاية، إلى إخضاع المقدسيين ووضعهم تحت طائلة الفقر المدقع. وقد قدر لي أن ألتقي بالسيد "نبيل دعنا"؛ وكيل توزيع الصحف في القدس، ولأنه يلمس معاناة أبناء شعبه؛ فقد وصف تلك المعاناة الاقتصادية، التي يرزخ تحتها المقدسيون، من خلال الظواهر التالية:
1) يقوم الاحتلال بملاحقة المقدسيين من أجل تحصيل الضريبة, بأشكالها المختلفة. حتى لو كان التاجر ملتزما وفق أوراقه ووثائقه، الا انه متهم (أمام قوانين الاحتلال) بالتآمر، وأنه يجب مخالفته؛ بافتعال أخطاء يصعب عليه الإجابة عليها. كما يتبع الاحتلال وسائل (توريط)؛ كأن يتنكر بثوب سائح يشتري غرضاً، ولا يأخذ فاتورة من التاجر المقدسي. أو أن يتم البحث (داخل المحل التجاري) عن اي مبيعات غير مسجلة في الرخصة. وفي الحالتين، يتم مخالفة التاجر (المقدسي)، بأثر رجعي؛ باعتبار أنه قد مارس عملية البيع هذه لعدة سنوات، فتبدأ رحلة التقديرات وما يترتب عليه من مبالغ يتم إقرارها دون أدنى رحمة.
2) يتم مداهمة المحلات التجارية والصناعية للبحث عن العمال، وإقرار المخالفات على الدخل، بزيادات مذهلة، وبأثر رجعي تحت عنوان "تعديل دخل". أما على مستوى الأسر؛ فحتى الاولاد فوق ال 18 سنة يتم تحصيل ضريبتهم بأثر رجعي.
3) يتم تحصيل الديون السابقة على المقدسيين بأساليب (البلطجة)؛ كأن يتم منع المقدسي (الملاحَق) من السفر، أو مداهمة بيته (ليلاً) لمصادرة سيارته.
4) ومن أبرز مظاهر ملاحقة المقدسيين في لقمة عيشهم، أن التأمين الوطني والضريبة يشكلان (فكا) كماشة على المقدسي لينتهي الأمر بتهجيره؛ بسحب هويته أو طرده، قسرياً، من قبل وزارة داخلية الاحتلال، والتي تعتمد في قرارها على تقرير مؤسسة التأمين الوطني الذي (يقر) بأنه غير مقيم، والإلقاء به خارج الجدار، بحيث يبدو الامر وكأن المقدسي هو الذي اختار المغادرة.
5) هناك سياسة اقتصادية اتجاه المقدسيين خطط لها لتكون مغطاة قانونياً، بما يضمن ممارسة تمييز واضح بين شرقي القدس وغربها؛ فالاسرائيلي تُقبل تقاريره، ولا مداهمات له. في حين أن نظريره المقدسي، يداهم بمعدل (3) مرات كل شهرين من أجل (حزّ) عنقه اقتصادياً.
ولم يتوقف السيد دعنا، قبل أن يُكمل الصورة، بالإشارة إلى أن هذه الممارسات، وغيرها، قد أدت إلى أن تكون نسبة الفقر في شرقي القدس هي الأعلى على أرض فلسطين التاريخية-الانتدابية. ومن الأمثلة على ما يعزز هذا الفقر، وينذر بالمزيد منه، أن عشرة محلات تجارية في شارع صلاح الدين باعها أصحابها وذهبوا إلى المجهول، كما أن مناطق تجارية قد أغلقت محلاتها بالكامل، أضف إلى ذلك تلك المحلات التجارية التي (يغتصبها) الاحتلال تحت ذرائع باطلة. كما انتهى الأمر، حالياً، إلى أن الآلاف من المقدسيين قد تراكمت عليهم الديون لصالح شركات الكهرباء والاتصالات والمطالب الضريبة، بمختلف أشكالها. وهنا؛ ستكون النتيجة، الحتمية، ووفق شريعة الغاب الاحتلالية، إفراغ القدس من (المديونين!) بالقوة.
وإذا تساءلنا: ما الذي يبقي هؤلاء في قدسهم؟ فنقول: توفير الأموال المطلوبة، لكي لا يتركوا فراغاً للاحتلال كي (يعشعش) فيه. وهذا يدفعنا نحو سؤال استراتيجي (مركب): والحال هذه؛ أليس من حق المقدسيين أن يتوجهوا إلى دولتهم؛ التي تُعرف القدس بأنها عاصمة الدولة، وإلى أحرار الأمة؛ الذين يعرفون القدس بأنها "قبلتهم الأولى"، وهل أن ولاة الأمر لا يعرفون الحل (المالي) لهذه المعضلة؟
إذا أنتظرنا رد أحرار الأمة، إلى حين، فإنه لا يمكننا المغادرة قبل التعرف على واقع دور (سلطتنا-دولتنا) اتجاه ما يجري في القدس من عملية إفقار (مبرمج)، يليه (تهجير) وحرمان من سرير النوم الدافئ.
لقد قدر لي مقابلة المقدسي "أحمد غنيم"، الذي وثق لسرديات مقدسية، بعنوان: الشيخ ريحان، والتي بدا فيها متعلقاً بقدسه، كما يتعلق الوليد-الرضيع بثدي أمه الحنون، فعلق على دور الدولة الفلسطينية على ما يجري في عاصمتها، مشخصاً واقع العلاقة بالقدس وبما يجري بحق المقدسيين، فأشار إلى أبرز ملامح تلك العلاقة، والتي تتمثل فيما يلي:
1) لا يوجد استراتيجية فلسطينية في القدس؛ تواجه عملية الأسرلة والتهويد، على الرغم من وجود عدة مرجعيات فلسطينية عاملة على موضوع القدس، ولا أقول عاملة في القدس، لأن معظم هذه المرجعيات والمؤسسات موجودة خارج القدس، وعلى رأسها محافظة القدس، ووحدة القدس في مكتب الرئيس، والمؤتمر الشعبي للقدس، ووزارة القدس... الخ.
2) إن غياب القائد المقدسي فيصل الحسيني؛ الذي نجح في جعل القدس عاصمة لدولتنا، رغم الاحتلال، أدى إلى تقسيم ملف القدس، بشكل مقصود. كما أدى إلى تعدد مرجعياتها وتفتيتها؛ لأسباب لا تغيب عن المتابع الفطن!
3) أدى، هذا كله، إلى غياب الدعم المادي والمعنوي، وعدم وجود سياسة فلسطينية واضحة اتجاه القدس. فأدى، بدوره، إلى إضعاف كل المؤسسات الوطنية في القدس، إن لم نقل إقفال معظمها، بعد أن كانت تلك المؤسسات تشكل عناوين في مواجهة الاحتلال، ليس فقط على مستوى القدس، وإنما على مستوى الوطن الفلسطيني كاملا، فقد تم شلّ عمل المؤسسات النقابية والعمالية والمهنية والسياسية، والشبابية، وباتت القدس يتيمة وحيدة تواجه المحتل دون نصير.
هكذا؛ تتضح الصورة، لمن أراد التعرف على القدس وواقعها، فليس أشد مرارة على المقدسي أن يرى جحود الشقيق والأخ والصديق، وأن يُترك في مهب الرياح العاتية للاحتلال، المتمثلة في استراتيجيته التي يلخصها "أحمد غنيم" في خمسة ركائز: الحصار، التهجير، الإحلال والاستيطان، الأسرلة والتهويد.
إلى أن يتم النظر إلى أوضاع المقدسيين الآيلة إلى الانهيار، وإلى أن نجد من يتأجج فيه لهيب الروح الإسلامية الحقة، والوطنية الحقة، والقومية الحقة، نقول: القدس هي المفصل، والمعيار الحقيقي في الحكم على كلٍ منا، وأن التاريخ لن يرحم ساكتاً على حقوق القدس والمقدسيين، وأن "وِزرهم" سيبقى معلقاً في عنق كل صانع قرار؛ يمكنه عمل شئ للقدس وأهلها، ويمارس "الجحود" بحقهم، وهم يواجهون، منفردين، ويلات: الحصار، والتهجير، والإحلال، والاستيطان، والأسرلة والتهويد في آنٍ معاً.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
aziz.alassa@yahoo.com
نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 07/09/2014