"أنطون يوسف الشوملي-أبو الوليد"؛ يكبرني بأربعين عاماً ونيّف، لكنه كان صديقي؛ لأنه والد صديقي "وليد"، زميل الدراسة في الجامعات العراقية، في أواسط السبعينيات من القرن العشرين، وفي صيف كل عامٍ دراسي، كنا نعود إلى أرض الوطن، فكان من ضمن برنامجي (السنوي) زيارته لأُقَبِّل جبينه، وأنهل منه ما استطعت من طيِّب الحديث وأرقِّه؛ فقد كان شاعراً؛ ينظم الشعر المشبع بالفكر والتربية، وكان تربوياً؛ فهو معلمٌ منذ نعومة أظافره، وإلى أن انتقل إلى جوار ربه، وكان إدارياً؛ فقد شغل منصب نائب مدير إذاعة فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، وكان سياسياً-محنكاً؛ فقد فتح عينيه في ظل الحكم العثماني، وأغمضهما وهو يرقب حراب الاحتلال الصهيوني، وما بينها عاش الانتداب البريطاني وعايشه؛ فرصد، بعينِ صقرٍ، الخطط (الخبيثة) للإنجليز التي سرّبت فلسطين لليهود بغير وجه حق؛ بالتزوير، والخداع، والترهيب.
لقد اجتمعت تلك الخصائص في شخص "أنطون الشوملي-أبي الوليد"؛ لتنجب لنا شاعراً، تغنى بالأمة، وتاريخها العريق، كما تغنى بفلسطين؛ وطن وهوية، ولأنه صاحب نظرة ناقدة-ثاقبة، فلم يتجاوز عن الأخطاء التي شاهدها، أو عايشها، أو سمع بها، فوجه سهامه نحوها بالنقد والتصويب. أما الشباب (أمل المستقبل في كل عصر) والمرأة (بانية الأجيال) فقد خصّهم بأشعار وقصائد مطولة، تشيد بهم وبدورهم في البناء. وأما المناسبات الوطنية، ببعديها: الديني والاجتماعي، فقد كان لها نصيبٌ في أشعاره، لدرجة أن قصائده في تلك المناسبات، كانت مثل "كاميرا ذكية"؛ التقطت صوراً لتلك المناسبات لا يمكن محوها.
وعليه؛ فإن قصائد "شاعرنا-أبي الوليد" هي وثائق تأريخية بامتياز؛ وذلك لقدرتها العالية على رسم ملامح الفكرة التي يريدها، بكلمات واضحة مستنبطة من بطون اللغة العربية التي هي تخصصه الدقيق. كما أن "شاعرنا-أبا الوليد" كان يأخذ دور الرسّام-الفنان القادر على إسقاط المشهد على الورق، بما يشبه الصورة الناطقة؛ المعبرة (بصدق) عن الواقع الموصوف.
أما في مجال فهمه لمعنى العروبة، ولجوهر الأمة التي (يعتز) "شاعرنا-أبو الوليد" بانتمائه إليها؛ فإن مراجعة دقيقة ومتمعنة لقصائده التي نظمها في أبواب: الوطنيات، والفلسطينيات، والسياسة، والدفاع عن الأرض... إلخ، تجعلك تتوقف عندها، معمقاً، بالقراءة والتحليل، لتجد نفسك أمام "شاعرٍ" قادرٍ على رؤية ما وراء الجدار، التي كان يتمتع بها "شاعرنا-أبو الوليد". ويتضح ذلك من خلال المحاور الآتية، التي أمكنني رصدها في قصائده كما وردت في "ديوان شعر" الصادر عن اللقاء (مركز الدراسات الدينية والتراثية في الأرض المقدسة، 1998):
أولاً: العروبة؛ جسدٌ روحه الإسلام:
نظر "شاعرنا-أبو الوليد" إلى أن الأمة (العربية) وصلت ذروة أمجادها وحضورها بين الأمم، من خلال رسالة الإسلام، التي حملتها للبشرية جمعاء، ويعتبر أن فخر العرب؛ الذي عليهم أن يتباهوا به بين الأمم، في أنهم أنجبوا الهداة والصالحين، وأنجبوا "محمد الأمين"، إذ يقول:
كفى العرب الكرام غداة فخر هدى الدنيا ونور العالمينا
فهم ولدوا الهداة الصالحينا وهم ولدوا محمد الأمينا
كان "شاعرنا-أبو الوليد" واضحاً في تشخيصه لما قام به العرب والمسلمون في حروبهم، على من كانوا يسومون شعوبهم سوء العذاب من ملوك وجبابرة، عندما عرّف تلك الانتصارات على أنها ليست (احتلالات)؛ وإنما هي "فتوحات"؛ أدت إلى إنقاذ البشرية من "ظلمة" الظلم، والجهل، والتخلف، على مستوى كوكب الأرض، إذ يقول:
وكنا سادة الدنيا جميعاً ومرغنا جباه الظالمينا
أزلنا دولة من بعد أخرى وكنا الفاتحين الراحمينا
وفي شرق وفي غرب بنينا بناء الملك تياهاً ركينا
بذلك؛ نتوصل إلى نتيجة رئيسة مفادها: أن فكر "شاعرنا-أبي الوليد" يتركز على أن الأمة العربية تكاد تكون مجرد جسد، غير مؤثر على الأمم الأخرى، إلى أن جاء الإسلام، فبثَّ فيها الروح التي جعلت منها أمة مهابة الجانب بين أمم الأرض، فنشرت العدل، وأعلت من مرتبة العلم والعلماء؛ فبددت ظلام الجهل، والتخلف بنور العلم، وباللحاق بركب الحضارة، فيقول:
ملأنا بلاد الله علماً وحكمةً وآيات عدل في الملا ومراحم
سلوا الغرب أين العرب كان مكانهم من العلم والآداب قبل التخاصم
ثانياً: قادة الأمة رمز عزتها:
فقد أشاد "شاعرنا-أبو الوليد" بالقادة العرب –المسلمين- الذين أعاد إليهم الفضل في رفعة الأمة، وتحقيق الانتصارات؛ بتوفيق من الله ومنّته، وقد استشهد على ذلك بأبي عبيدة، وخالد بن الوليد، وبالخلفاء الراشدين، وغيرهم من قادة الفتح، فيقول:
وإن أبا عبيدة من بنيهم وسيف الله خالداً الملينا
ومن نصروا لدين المسلمينا ومن ولدوا الخلائف راشدينا
ومن قادوا الجيوش مظفراتٍ وربك فاتح ما يفتحونا
كما أن "شاعرنا-أبا الوليد" قد اعتبر أن رفعة العراق وعزته قد تجلت، عبر التاريخ، في فترة الحكم الإسلامي. ففي الحرب العالمية الثانية (في العام 1941) نظم قصيدة في ثورة رشيد عالي الكيلاني على الإنجليز، عندما أعلن فيها "شاعرنا-أبو الوليد" عن وقوفه، التام، مع الثورة وقائدها، فاستذكر أمجاد بغداد (عاصمة العراق) التي بناها الخليفة هارون الرشيد، بقوله:
إذا بلغت عاصمة الرشيد فحي المجد في شخصٍ "رشيد"
أما صلاح الدين الأيوبي، فقد اعتبره "شاعرنا-أبو الوليد" منقذ الأمة من براثن أعدائها الصليبيين. فالصليبيون، كما يبدو من وجهة نظره، أعداء حقيقيون للمسيحية، كما هم أعداء للإسلام. وقد تجلى ذلك من خلال قصيدة له بعنوان: "ذكرى معركة حطين"، والتي يحيي فيها صلاح الدين الأيوبي، بقوله:
يا أيها الملك العظيم: تحية من شاعرٍ من بحر مجدك يغرفُ
أما عن بطولة صلاح الدين وصلابته، وحنكته القيادية، فيستطرد وهو يشيد بمناقبه وخصاله، كقوله:
عنت الفرنجة لحكم سيفك مصلتاً ولهم فرائص راعدات رجرفُ
سل سهل حطين إذا احتدم الوغى أنّ صلاح الدين قام يطوفُ
فرقت جمعهم بعزم صادق وفللت جيشهم خضماً يزحفُ
كما يصف الأثر الذي تركه صلاح الدين، حين قدم إلى القدس منتصراً، وما قام به من (إعادة) القدس إلى وضعها الأصلي؛ وذلك لأن الصليبيين قاموا، خلال فترة حكمهم، بتغيير هويتها العربية-الإسلامية، على المستويات كافة: عمرانياً، وحضارياً، وديموغرافياً... إلخ، فيقول "شاعرنا-أبو الوليد":
فدككت ما شادوا وربك ناصرٌ وبنيت ما دكوا وربك منصفُ
ثالثاً: التوأمة المسيحية-الإسلامية في مواجهة المشروع الاستعماري:
لقد كرّس "شاعرنا-أبو الوليد" حالة من الأخوة، والالتصاق بين المسلمين والمسيحيين؛ في مواجهة المشروع الاستعماري على أرض فلسطين. ففي 22/7/1946 استشهد (41) فلسطينياً، بسبب عملية تفجير إرهابية لـ "فندق الملك داوود" في مدينة القدس، من قبل جماعة الأرغون (بأمرٍ من قائدهم مناحيم بيغن)، وفي الذكرى الأربعين، ألقى قصيدة (رثاء) للشهداء، منها:
وا لهفتاه فإن أقدس بقعة في الأرض أضحت مسرحاً للجاني
المسجد الأقصى المبارك حوله والقبر مذعوران ينتحبان
ويبدو من هذا البيت أن هناك عدواً مشتركاً؛ يستهدف المسلمين والمسيحيين، في آنٍ واحد، وقد (أفصح) عن هذا العدو من خلال تعريفه لمعنى (الخيانة) وعقوق الوطن، في قصيدة له نظَمها في العام (1934)، بعنوان: (فلسطين تنادي الشباب)، بقوله:
فكم رأينا من ابنٍ عقوقٍ يخون البلاد لنيل الثراء
يعين اليهود لنيل العهود ويُدعى الزعيم يا للبلاء
ثم يصف حال فلسطين وأحوالها، التي كانت تحت حراب الانتداب البريطاني، وما تعانيه من فكي الكماشة المُطبقان عليها؛ وهما: الإنجليز واليهود، الذين أصبحوا يتدفقون، بكثافة، إلى فلسطين من بلدانهم الأصلية، فيقول وهو يبارك للكيلاني ثورته ضد الإنجليز:
فلسطين الجريح اليوم ترجو خلاصاً منهم ومن اليهود
وفي قصيدته التي ألقاها في رثاء شهداء فندق الملك داود، ينتقل "شاعرنا-أبو الوليد" من استخدام مصطلح "اليهود" كأعداء، من خلال مداهمتهم لأراضي فلسطين واستباحتها، إلى الحركة السياسية التي تقف خلف هذا كله، وهي الحركة الصهيونية، فيقول:
يا آل صهيون رويداً إنكم أمعنتم في الشر وفي العدوان
يا آل صهيون خدعتم خدعةً وأراكم والله في خسران
لا يستوي الحق المبين وباطلٌ إن أودعا في كفتي ميزان
النتائج والاستنتاجات
يُلاحظ مما سبق أننا أمام شاعرٍ يتمتع بسعة أفق، وثقافةٍ عالية، وفهم دقيق لطبيعة الصراع على هذه الأرض، منذ الخليقة وحتى تاريخه. إذ لا يمكن لقصائد وأشعار، بهذا العمق، إلا ويقف خلفها "شاعر" مؤمن برسالته الوطنية والدينية تجاه شعبه وأمته والإنسانية جمعاء؛ لما يتعرضون له من خدع وأكاذيب، أدت إلى ضياع فلسطين، وتفتيت الأمة العربية، وإذلال الإنسان العربي، أينما حل وارتحل، وذلك بسبب فرقة أبناء الأمة وتشرذمهم، وقد أوجز "شاعرنا-أبو الوليد" هذا الحال، بقوله:
وظللنا سادة الدنيا إلى أن تفرق شملنا فرقاً مئيتا
فضيم في البلاد الظلم حتى أذيق العرب مطعمه المهينا
كما أننا وجدنا في أشعار "أبي الوليد" تجسيداً حياً للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين (النصارى) وما تتمتع به من صدق ومودة؛ أدت إلى حسن القربى بينهما حتى أشادا معاً، حضارة استهدفها أعداؤهما، من يهود وصليبيين وغيرهم. كما أن هذه العلاقة مختلفة، تماماً، عن علاقة اليهود بالمسلمين؛ التي تقوم على العداوة والبغضاء. ويتجلى ذلك في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}. (المائدة: 82)
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نشر في مجلة الإسراء، العدد (117)، أيلول وتشرين أول-2014، ص: 81-87
الرابط: http://www.darifta.org/israamagazine/117/e117/index.html
إرسال تعليق Blogger Facebook