0


لا شك في أن الصراع القائم على أرضنا هو صراع وجود، بكل المعايير والمقاييس السياسية والأيديولوجية والفكرية. إذ أن "المستوطنين" متحفزين، دومًا، للانقضاض على أي ثغرة؛ للسيطرة وملء الفراغ. أما بالنسبة إلى القدس، فالوضع في أقصى مستوياته؛ بسبب ارتفاع وتيرة "التهويد" فيها على حساب حقوقنا الوطنية المشروعة والمتوارثة كابراً عن كابر. وأما متطلبات وجودنا فتتركز، في حدها الأدنى، في الصمود والإيمان بأن أي مساومة أو خضوع للابتزاز والتخويف، هو خروج من الملّة، ببعديها: الشرعي والوطني.
وعليه؛ فإن ما جرى في بلدة سلوان المقدسية في الآونة الأخيرة، من تسريبٍ لخمسٍ وعشرين شقة، يقع ضمن المعايير المذكورة؛ أي أنه خيانة دينية ووطنية وإنسانية، قام بها نفرٌ ليسوا منا ولسنا منهم. لقد كان لهذا الحدث، الذي أشبعته وسائل الإعلام نقاشًا وتحليلًا وتحقيقًا ، انعكاس كارثي على كل بالغٍ عاقلٍ من أبناء شعبنا منتمٍ لقضيته ولقدسه عاصمة الدولة الموعودة؛ التي قدمنا عشرات آلاف الشهداء على مذبحها، حتى اللحظة.
لندع القانونيين يدافعون عن العقارات المذكورة؛ بأن يثبتوا بطلان عمليات البيع تلك، ولنتوقف عند الشأن الذي يمكننا التحدث فيه، وهو استخدام أسماء مؤسسات ذات صبغة دينية أو وطنية أو إنسانية، وإقحامها في عمليات البيع وتسريب العقارات للمستوطنين، الأمر الذي لم يكن من قبيل المصادفة؛ ولكنّ هناك مخططًا تقوم عليه مؤسسات ودول (دولة الاحتلال إحداها) تهدف إلى اختراق المؤسسات المقدسية و/أو تلك القائمة على مصالح القدس وأهلها؛ بهدف إحباط العمل المؤسساتي، بخاصة ذات المسميات المعبرة عن أي رمزية؛ دينية أو تاريخية أو وطنية أو إنسانية... الخ، وذلك بخلق حالة من التشكيك وعدم الثقة بتلك المؤسسات، ولكي يَنْفَضَّ الشعب الفلسطيني من حولها، كما تفقد مصادر تمويلها "النظيفة"؛ الساعية إلى الإسهام في مقاومة عملية التهويد التي تتعرض لها القدس، منذ العام 1967 حتى تاريخه.
إذ أن تكرار الإشاعات المغرضة وتوسيعها، وإن لم تجد من يلجمها، سيؤدي إلى (انهيار) العمل المؤسساتي–المتماسك في القدس، مما يعني الانتزاع التدريجي لهيبة القدس (والأماكن المقدسة) ومهابتها من نفوس عموم الشعب الفلسطيني، ومن خلفه عموم أبناء الأمة. لينتهي الأمر إلى حالة من "فتور" الهمة نحو القدس، بشكل عام، والأقصى بشكلٍ خاص، وانكفاء عملية الدفاع عنها أمام عملية الاستباحة والتهويد المنظمين التي تجري على قدمٍ وساق.
إذا كان أهل مكة أدرى بشعابها، فإن المقدسيين هم الأكثر شعوراً بمرارة واقع "قدسهم-قدسنا-قدسكم"، وهم الأكثر "استشعارًا" بخطورة ما يداهمهم من أحداث وحوداث. لذلك؛ قمت بالتحاور والتداول مع الباحثة المقدسية "عبير زيّاد"، وهي من قاطني بلدة "سلوان"؛ حيث تمت الكارثة المذكورة. وقد كان لها رأي ينم عن فهم دقيق لما يجرى حولها للقدس وللمقدسيين، يتلخص فيما يلي:
1) لا يجوز الإعفاء من المسؤولية لأيٍ كان، من مسؤولي المؤسسات المقدسية و/أو المؤسسات العاملة في الشأن المقدسي، بشأن حماقةٍ/خيانةٍ يمارسها أي شخص يستظل بتلك المؤسسات.
2) على المموٍّلين التحرّي والتدقيق فيما يتم صرف الأموال وفي آليات الصرف وأوجهها، لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
3) إجراء مراجعة شاملة للصفقات التي تمت بشأن العقارات الأخرى في القدس؛ لكي لا تتكرر المأساة في مكان آخر من القدس.
4) لا بد من إخضاع أي عملية بيع أو شراء في القدس لرقابة أمنية فلسطينية مختصة؛ تكون موافقتها شرط أساسي لإكمال الصفقة.
من جانبٍ آخر؛ نرى بضرورة أن يلتفت الوطنيون والشرفاء إلى مؤسساتنا، بحمايتها من عمليات الاختراق، والنأي بها عن الإشاعات، والإبقاء عليها منارات مقدسية؛ لخدمة القدس وأهلها. فهذه المدينة، وما يتصل بها من جغرافيا واقعة خلف الجدار، تقع في بؤرة "زلزال" التهويد الذي، إن لم نقف في وجهه بقوة واقتدار، فلن يُبقي ولن يذر. مما يتطلب وجود مؤسسات قوية-متماسكة ذات أهداف ومرامٍ تسعى إلى المحافظة على إنساننا هناك، الذي يتعرض إلى الفساد والإفساد لانتزاعه من أحشاء القدس ولانتزاع القدس من أحشائه، وفي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بلا قدس ولا مقدسيين.
وأما على مستوى العاملين في المؤسسات المقدسية؛ فإنهم مطالبون بغربلة مؤسساتهم وجعلها عصية على الاختراق، الذي يؤدي بها بعيدًا عن الأهداف التي أقيمت من أجلها، وأود أن أذكِّرهم بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني. فالبيانات والشجب والاستنكار لن تحمي مؤسسة ولا عقاراً، ولن تعيد شيئًا من بين أنياب المستوطنين، وإنما العمل الجاد والمتواصل والحذر والمتابعة، هي الكفيلة بالمحافظة على ما تبقى من القدس التي "تُقضم" شيئًا فشيئًا.
أما صانعوا القرار، على المستوى الوطني وعلى مستوى الأمة، فإننا نقول لهم كلام حق يُراد به حق: أنكم مسؤولون، أمام الله وأمام التاريخ، عن الإهمال والتقصير الممارس بحق القدس التي تُهوّد بلاطة بلاطة، وبحق أهلها الذين يُرمى بهم على قارعة الفقر والتشريد والتهجير والفساد والإفساد.
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 12/10/2014م، ص17
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
aziz.alassa@yahoo.com

إرسال تعليق Blogger

 
Top