منذ اللحظة الأولى التي تسلمت فيها كتاب "أقواس من سيرتي الذاتية"، لكاتبه البروفيسور الفلسطيني "فاروق مواسي"، شرعت بقراءته، بتمعن؛ لما تركه العنوان من أثر دفعني إلى التعرف على تلك الأقواس، وما تضمه من فضاءات فكرية. فوجدت أن ذلك الكتاب، الذي كانت طبعته الأولى في العام 2001، صادرة عن دار الهدى، أصبح بحلة جديدة (مزيّدة ومنقحة) في العام 2011، صادرة عن شركة ابن خلدون للطباعة والنشر. يتألف من (320) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها مقدمة و(33) قوسًًا-بابًا.
كل قوس يفضي إلى نص وثائقي تجد فيه سيرة ومسيرة لإنسانٍ يوثق للأحداث، ببعديها: الزماني والمكاني، ولنقل: بالبعد الزمكاني، كما أطلق عليه المرحوم عبد اللطيف عقل. وفي كلٍ من تلك النصوص تجد نفسك في جوٍ مختلفٍ عن غيره؛ بنكهة خاصة، ولونٍ خاص منبثق من عنوانٍ خاص يحدد لك المسار مسبقًا. تبدأ تلك الأقواس بـ "صور من الطفولة" وتنتهي بـ "من حكاياتي".
يقدم "ب. مواسي" لأقواسه، بما يشبه الفناء الجميل، بإجابة على سؤال استراتيجي، طالما حيّر العلماء والباحثين؛ فاختلفوا حوله، وهو: لماذا اكتب سيرتي؟ فيؤكد ب. مواسي على أنه "ليس هناك من هو أعرف من الكاتب بنفسه أو ذاته" (ص5). كما يرى أن هذا اللون من الأدب له أهميته، لما له من تجميع في التجربة الأدبية، وتوثيق للحياة بكل جوانبها المتاحة للكاتب: اجتماعية، أو أدبية، أو سياسية أو فنية، ولما لها من تواصل مع المتلقي (ص253).
أما حول أسباب تعرية الكاتب لنفسه أو بوحه بمكنوناته، فيرى ب. مواسي أنها قد تكون، لواحد أو أكثر، من الأسباب التالية: المشاركة الوجدانية، الإقناع والمؤانسة أو مراجعة "أخيرة" لكتابة الفصول، يستعرضها فيعرضها قبل أن تُدبِر أنفاسه (ص5).
يُخبرنا "ب. مواسي" أن أقواسه تشكل، فرادى ومجتمعة، وصفًا حيًا مثيرًا فيه إبداع وامتاع (ص7). كما يلفت النظر إلى أن هناك العديد من قادة الفكر والادب والسياسة ممن اصطف معهم، الكتف بالكتف، لم يذكرهم في أقواسه هذه، مستحضرًا قول "ياقوت الحموي" "وليس كل ما أجده أكتبه، ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني" (ص8).
عند استعراض أقواس-أبواب سيرة "ب. مواسي"، وجدت أنها تفضي إلى العلاقات، المباشرة، مع مجموعة من شعراء العصر ومفكريه وساسته، وليس كلهم، ومنهم: محمود درويش، فدوى طوقان، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني، عبد اللطيف عقل، يحيى حقي، ماتي بيليد، زكي العيلة وسرجون بولس. كما تفضي إلى الحياة الفكرية، والتجارب الشخصية، والمهنية، والوظيفية، والتعليمية، والتعلُّمية... الخ، التي عاشها كاتبنا، وعايشها، عبر العقود السبعة من عمره؛ بدءًا من طفولته وحتى تاريخه.
عَبَرَ بنا "ب. مواسي" أقواسه من خلال القوس الأول الموسوم بـِ "صور من الطفولة"، مستخدماَ أسلوبًا سرديًا، نادرًا ما يُستخدم في سرد السير؛ فقد تحدث بأن جعل القارئ هو "مواسي-الطفل"، مستخدمًا ضمير المخاطَب (أنت) . ولعله يهدف بذلك إلى جعل القارئ جزءًا "حيًا" من المشهد، لا مجرد مراقب له، كما أنه يملك حرية أكثر وهو يتوجه للمخاطب، وذلك في مسائل حساسة قد يكون التعبير الذاتي فيها أكثر حساسية.
أما في الأقواس الأخرى، فقد استخدم ضمير المتكلم (أنا)؛ وبذلك حقق شرط الانتماء للموضوع الذي يسعى (السارد) إلى إيصاله للقارئ.
بعد قراءة تحليلية- تفكيكية لما بين غلافي هذا الكتاب، وجدتُني أمام الأبعاد أو المرتكزات التالية التي تتكئ عليها النصوص الرابضة خلف تلك الأقواس، الممتدة من طفولة "منكوبة" إلى شيخوخة حكيمة-ناصحة-مرشدة تشعل للأجيال شمعة تضيء لهم المظلم من "سراديب" الحياة والتواءاتها وتعقيداتها، التي ترتفع وتيرتها جيلًا بعد جيلٍ:
أولًا: طفولة منكوبة؛ مشبعة بالهزائم والخرافات، تنتهي بدولة على جماجم شعبه:
فأول مشهد عشناه مع "مواسي-الطفل"، كان في بلدته باقة الغربية في 21/5/1949؛ عندما شاهد، بأم عينه، الفصل الأهم من فصول النكبة: دخول "اليهود الأوائل" إلى بلدته (ص9). ثم تستمر مشاهد النكبة، بصورها المختلفة كهروب الفلسطينيين من أماكنهم الأصلية، والسكن في ملاجئ رطبة- قذرة لا تصلح إلا لمعيشة الحشرات التي خلقت للعيش فيها، وقصف الطيران الحربي الاحتلالي (عند الافطار في رمضان)، وملاحقته للأسر الفلسطينية (ص10).
كما أن الخرافات حاضرة في طفولة مواسي، ولعل أكثر ما يثير السخرية والاشمئزاز والحزن، في آنٍ معًا، تلك الايمانيات الغريبة التي أرى أن مصدرها هو الإعلام المعادي، مثل: "نظرية السبعات" التي تناقلها شعبنا، والتي سمعتها أنا كذلك في طفولتي، عند هزيمتنا في العام 1967، وهي: أن العرب سوف ينتصرون وسيتراجع هؤلاء الأغراب بعد: 7 أيام أو 7 أسابيع أو 7 سنوات أو 70 سنة (ص9). أضف إلى ذلك كيف أن هناك من (أفهم) "مواسي-الطفل" وأقرانه بمواجهة عدوان المستوطنين بالأهازيج الدينية، باعتبارها (تعويذات) تحمي من الأذى (ص13).
هكذا؛ تستمر حياة "مواسي-الطفل"، الذي نجا من عدد من الحوادث القاتلة، مع أمٍّ باكية؛ لا يجف لها دمع، وهو ببنطلون مرقّع، وبقدمين حافيين مكلّفيْن بحمله إلى مدرسته التي يعلمه فيها معلمون عينهم "اليهود-الغزاة"، وإعادته عبر مسلك صخري شائكٍ (ص12-13). طفولة تشهد على (تشرّد) شعبه وبكاء الأقارب عبر الحدود الجديدة، ومقاومة العدو القادم، رغم قلة الحيلة. أما الوجه (الضاحك) لتلك الطفولة، فإنه لا يخلو من ألعاب تلك الحقبة: البنانير، الحاب (الكورة) المجيدي (المبارزة).
هكذا؛ بدأ "يتَبَرْعم" "مواسي-الشاعر"؛ بدأ شاعرًا من طفولته يقلّد من سبقوه (ص43)، وفي صفه الثامن كانت قراءته الأولى للشاعرة فدوى طوقان، في كتابها "اخي ابراهيم" حيث لم يكن يهمه، يومها، إلا هذا الحب الحنون الذي توليه لأخيها إبراهيم (ص78). كما قرأ (بدءًا من الصف الثامن) عشرات الكتب الأدبية –أولها تاريخ الأدب العربي للزيات-(ص107، ص145). وفي نفس هذا الصف، بدأ رحلته في البحث عن الكتب وقراءتها بنهم (ص145).
حينها؛ وهو نفس هذا الصف (الثامن) حسم أمره؛ بأن خرج من حالة التدين اللاإيماني إلى التعرف إلى الشيوعية "المنتقدة" للاحتلال وممارساته، لينتهي به الأمر ناشطًا مع الشيوعيين خطيبًا على منابرهم (ص14، ص191). وبرغم ذلك نرى أنه في العام 2001 اعتمر هو وزوجته، ونَظَم قصيدة بعنوان "الحج الأصغر"، مطلعها (ص230):
بسم الله دخلت أنا مكة
أعزف شوقًا لنبي عاش بوجداني
ثانيًا: مواقف وذكريات لا تُنسَ:
رغم أن "ب. مواسي" استماحنا عذرًا بأنه سيتغاضى عن فتح الملف دون تحفظ، "إلا انه يبوح لنا، بأسلوب لا يخلو من الطرافة والمتعة، بما يعزز فضولنا في التعرف على ما وراء "جدار" "مواسي-البروفيسور"، منها:
كان في صفّه الأول بترتيب متأخر جدًا بين أقرانه، ثم انقلب هذا الوضع في الصف الثاني وما تبعه. وأنه في طفولته كان يؤم المصلين؛ لانشغال الكبار (المتعلمين) في أشغالهم، فانطبق عليه المثل القائل " إذا غابت الخيول ....". ولم ينسَ وصف براءة طفولته عندما اهتم بالطلقات الفارغة الناجمة عن إطلاق نار عشوائي من والده، كاد أن يرديه قتيلًا (ص9-10).
في قوس "صفحات التعليم" يبوح لنا بالمزالق والأخطاء التي وقع فيها وهو معلم ومشاغبات الطلبة وضحكاتهم (ص17)، ثم يعترف انه ذات مرة رَسَبَ اغلب طلاب صفه في امتحانات الثوامن (ص25)، فكتب لهم قصيدة:
منارتي مخمودة الأعطاف
مذ أخبروني أنني بلا قطاف.
أما شاعرًا؛ فيعترف أن هناك من سخر من شعره (ص43). وأن أكثر ما كان يثيره قراءات سميح القاسم، ومحمود درويش ونزار قباني (ص58).
ومن الاعترافات أن احدهم، وعندما علم أن "فدوى طوقان أرسلت برسالة إلى فاروق مواسي" "أشاع" أن مواسي هو من كتب الرسالة وليست فدوى، وأتبع آخر بإشاعة أخرى أن "مواسي سيخطب فدوى"، متناسيًا انها ولدت هي وأمه في نفس السنة (ص80).
هناك (ذكريات) رائعة، تشير إلى حالة الانسجام والتعاون والتعاضد بين الطوائف الفلسطينية كافة، كما في عسفيا التي يسكنها الدروز والمسيحيون والمسلمون وهم يعيشون في وفاق اجتماعي رائع، حتى أن مواسي المعلم "المسلم السني" كان يضطر إلى حمل دفتر يسجل فيه الدعوات لاستضافته من قبل المجتمع المحلي بتنوعه المذكور (ص17)، كما أن "ب. مواسي" يفرق، تمامًا، في نظرته وتعامله، بين اليهودي والصهيوني (ص71).
أما حول السر في قدراته اللغوية الفائقة؛ فيعيدها "ب. مواسي" إلى أنه منذ أن شرع يقرأ، ويعي ما يقرأ، أخذت لغة القرآن تتنفس في وجدانه؛ بيانًا وإيقاعًا وإمتاعًا. كما يعيد تلك القدرات (القرائية) إلى والده الذي أورثه حب المطالعة والكتاب (ص145). كما يشير إلى أنه بدأ رحلته النقدية من خلال قراءته للقرآن؛ عندما كان يسأل والده عن معنى هذه الآية أو تلك (ص107).
أخذ يفتش عن الكتب والمراجع والمعاجم التي عززت تلك القدرات وطورتها، حتى وصل إلى المستوى الذي هو عليه؛ عالِما-شاعرًا متخصصًا في اللغة العربية (ص126). ويُذكّرنا "ب. مواسي" أنه منذ دخول الاحتلال لم يعد بين فلسطينيي-48 وبين العربية إلا إذاعات لا نكاد نسمعها، وكتب نادرة تمزقت؛ لكثرة ما استعيرت (ص107).
ولعل من أجمل اعترافاته- ذكرياته أن قالت زوجته: أنت تنفق راتبيْنا على الكتب، حتى لا نبني بيتًا جديدًا لنا، فقال لها: هذه الكتب هي التي ستبني لنا البيت (ص147). ويختم "ب. مواسي" في شأن الكتب، بالقول: الكتب هي غذائي ومتعتي ونزهتي (ص151).
أما في مجال السياسة، فيشير "ب. مواسي" إلى أنه ليس ناجحًا؛ لأنه لم يقنع أحدًا لأن يرشِّح لمنصبٍ سياسي (ص156). علمًا بأنه تحفظ من سلوك الحزب الشيوعي لسلوكه التسلطي، ودعوى انفراده بقيادة الجماهير العربية (ص193).
ومن اعترافات "ب. مواسي" كذلك، أن "إميل حبيبي" انزعج من إحدى ملاحظاته، فقال له بقسوة: ماذا يعنيك أنت؟ أنت شاعر فقط، أنت لست ناقدًا، فاترك النقد للنقاد! (ص195)
وتحت عنوان "محنة"، يسرد لنا "ب. مواسي" قصة تمرد طلبته عليه احتجاجًا على آرائه المذهبية، في العام 1995، وكيف أن ذلك تحول إلى محنة حقيقية، وصلت لحد أن لقّبه أحد أقربائه بـ "سلمان رشدي"، وثقها بقصيدة "أغسل خوفي" (ص208-225).
ولم يغادرنا "ب. مواسي" قبل أن يمتعنا بقصة "النصّاب" الذي تمكن منه بمبلغ 1578 دولارًًا، وقد نجح في استعادتها، والقصة تدل على إيمانه بحقه، والثبات في المطالبة به، وفي الوقت نفسه حبه للمساعدة وخدمة مجتمعه.
ثالثًًا: الحكم، النصائح، والوطنيات حاضرة:
لم يدع "ب. مواسي" مناسبة إلا وأشبعها حِكمًا ونصائح ومُثلًا عليا؛ هي خلاصة تجربته الشاقة، بما لها وما عليها. وقد قمت بقراءة متمعّنة، لكي ألتقط تلك المحارات الجميلة من أعماق هذا المحيط الهادر الذي "غصت" في أعماقه على مدى أسبوع من الزمن، منها:
لا يحق لأحد الحكم على الأطفال من تصرفاتهم وأنه على التربوي أن يمتص أزمات طلبته؛ فكان مواسي–المعلم يتوجه إلى الطالب المشاكس، فيبني معه علاقة شخصيته (ص17). كما أنه توجه، بصحبة المدير، إلى طفل (متمرد) فأعاداه إلى المدرسة، لينتقل من طالب مشاكس إلى أكاديمي ناجح (ص18).
لمدير المدرسة أكثر من دور في البلدة، فهو: يحمل مشكلات طلبته، ويعالج المشكلات الاجتماعية، ويرتّل في المولد النبوي (ص18).
أفضل طريقة لتعلم اللغة الاجنبية أن يكلف الطلبة بالترجمة (ص19).
وينقل لنا ما قاله عبد اللطيف عقل: "إذا تعلم الأطفال جدول الضرب بأسلوب تربوي إنساني فإن الغش في سوق الخضار سيباشر الاختفاء." (ص105)
يكشف "ب. مواسي" عن منهجيته البحثية، التي رائده فيها الصدق، بقوله: أقرأ أولًا ماذا كُتِب، وأعطي كل ذي حق حقه، فلا أسرق من هذا ولا أنتحل، ولا أنكر على ذاك فضله (ص154).
وطنيًا؛ يرفض المعلم-مواسي تزيين صفه في عيد الاستقلال ويهجو زميله الذي زيّن صفه بالقول: يا أقل الناس معنى معتنى لا تقل في الشعر قولًا مُذعنًا (ص20). كما أنه حاول الامتناع عن القدس وزيارة أقصاها، فلن يدخلها إلا محررة، ولكن ظلت النكسة تذروه هزائم وتمائم (ص158). ويؤمن "ب. مواسي" بأن فلسطينيي-48 جزء من الشعب الفلسطيني خاصة، والأمة العربية –عامة-، وهذا لا يتنافى وكونهم مواطنين إسرائيليين (ص188). وقد ألّف كتابه "هَدْي النجمة"؛ الذي ضم دراسات بارزة أهمها دراسة عن مجزرة كفر قاسم، بعنوان "شاهد على حصاد الجماجم" (ص74).
يعلم طلبته شعرًًا فيه عزة وإباء وكرامة، ترك فيهم أثرًا رغم الزمن.
استنتج "ب. مواسي" أن الإخلاص والمعرفة لا يكفيان؛ بل يجب أن يكون لك سند أو ظهر (ص21). وهو يأسف لأن الكتابة العلمية تجري وراء الأسماء المعروفة (ص59). كما يشير إلى أن الصحف تفتح أحضانها لكل "حكي"، حتى اختلط القمح بالزؤان والشاعر بالشعرور (ص59).
يصف فقداننا للكتب من مكتباتنا بأنه –سنة الله في أدبائه- (ص84). ويذكرنا بمقولة: "اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال (ص146).
يدعو إلى أن يطالب المرء الإخلاص للآخر ثم يخص نفسه (ص21). كما أورد عبارة من التلمود: "إذا لم يكن هناك رجل فحاول أن تكون" (ص22). وأن نصرة الضعيف في المجتمع ليست محاباة.
وفي إشارة إلى اهتزاز مفهوم الوفاء بين أبناء المهنة الواحدة، يسوق "ب. فاروق": الطلبة يقولون "بابا فاروق"، وأما الزملاء فلم يروا ضرورة لتكريم أو ثناء (ص25). كما يرى أن هناك أدباء وهناك متأدبين.
ومن روائع "ب. مواسي" قوله: ليست معلوماتي بالضرورة هي الصحيحة (ص29). وهو لا يحفل بآراء الآخرين إلى درجة قصوى، بل يأخذها بالحسبان (ص45). كما يؤكد على ذلك بقوله: كم شعرت بالنقص والتعطش للمعرفة، وكم تعلمت من طلابي ومن زملائي، فالحقيقة نسبية لا مطلقة (ص110).
كما أبدع في وصفه لدور الأديب، الذي هو ليس ثورًا حتى يدير قفاه لآلام الناس وخاصة شعبه، وإنما عليه أن يكون "مسكونًا" بالهم الجماعي، وأن يدرس ويعلل ويحلل، بطريقته، ما يدور على الساحة المحلية (ص187-188).
لا يلجأ "ب. مواسي" إلى تكذيب تاريخ الآخر بتاريخ موازٍ أو أسبق؛ وإنما يردعه بالواقع (ص70).
يرى "ب. مواسي" أن "ترتيب اللغة هو ترتيب أفكار" (ص157)، وأن الكتابة يجب أن تتلمس قضايانا اليومية (ص75). ويدعونا إلى الابتعاد عن التكلف والثقل في الألفاظ، وذلك حتى تكون لغتنا مأنوسة لطيفة محببة (ص128).
هناك مقولة جميلة لـ "ب. مواسي": لقد كتبوا فدرسنا، ونكتب فيدرسون (ص151).
هناك بعض المصطلحات نحتها "ب. مواسي"، ولا ضير من تعميمها للتسهيل والتيسير على الكتّاب، ومنها: "اجتأدبية"؛ وهي منحوتة من كلمتين: اجتماعية + أدبية (ص75). وكلمة "قبتأريخية" وتعني قبل التاريخ، وهي الترجمة التي ارتآها لكلمة (Prehistoric) (ص139). كما يبلغنا أنه يمكننا أن نطلق مصطلح "نئيس" على "نائب الرئيس" (ص259). أضف على ذلك مصطلح "الزمكاني" الذي نحته المرحوم عبد اللطيف عقل من كلمتين: الزمان + المكان.
رابعًًا: آراء وأقوال في الشعر والشعراء:
يرى "ب. مواسي" أن "الشعر الصادق هو سيرة ذاتية" (ص7). حتى أنه لم يواجه مشكلة إلا ووثق لها شعرًا، أو عالجها شعرًا، أو عبّر عن وجهة نظره شعرًا. وهو يرى الشعر العربي مرتبط بوتائر الدم صعودًا وهبوطًا (ص28)، حتى أنه يتساءل: هل يرتبط الشعر بنوع من الجنون؟ (ص45).
أما القصيدة؛ فيرى "ب. مواسي" أنها التزام إبداعي صادق، تعبر عن الشاعر وعن همومه التي تتلاقى وهموم مجتمعه (ص53). كما يرى أن هناك علاقة جدلية بين الشعر والحياة، إذ أن الشعر انعكاس الذات بصورة خاصة (ص53)؛ فهو يخاطب العقل والعاطفة معًا، وأن الخطاب الشعري يقاس بــِ "كيف تقول" لا بـ"ماذا تقول" (ص70). وأن الشاعر فيه ممثل لما نعانيه جميعًا، ويؤكد على ذلك بقوله: أفرح في قصيدتي كما تفرح الوردة في نشر أريجها (ص53)..
لذلك؛ فإن لشعر "ب. مواسي" سمات وخصائص تميز بها، منذ بداياته الأولى حتى تاريخه، منها (ص53-56):
1) يتميز شعره بالصدق حتى في الغزل، إذ انه يحاسب قصيدته –ناقدًا- ولا يحابيها حتى أنه قد يقول لشاعر معين: "قصيدتك هذه أفضل من قصيدتي في بابها".
2) الرمز وارد كثيرًا في قصائده، بصور مختلفة، ومن الرموز ما هو تاريخي، أو فلكلوري، أو فلسفي، أو إبداعي مستجد.
3) ليس في شعره وقفات وصفية طويلة مستقادة من الطبيعة، فالطبيعة عنده هي الوطن، المرأة والانسان في الطبيعة.
4) شعره هو (أناه)؛ تلخيص له، ويطمح في أن تكون كل قصيدة في دوائر ثلاث على مستوى التوصيل: ذاتية، فلسطينية وإنسانية.
5) اشكال شعره: تقليدية (الرثاء والوطنية)، تفعيلية (غالبة على شعره) وقصيدة النثر (لا تتتجاوز اصابع اليد).
6) الغموض الشفاف هم المستحب لديه؛ إذ ينفر من كل التعقيد والالتواء حتى في المخاطبات اليومية.
خامسًًا: يوثق للأحداث شعرًا:
صحيحٌ أن "ب. مواسي" كاتبٌ متميز بأسلوبه السهل الممتنع إلا أنه وظّف قدراته الشعرية في توثيق العديد من الأحداث والحوادث التي عايشها و/أو التي سمع بها. إذ يقول "ب. مواسي" أن لكل قصيدة، من قصائده، قصة (ص46). وقد رصدتُ في أقواسه، قيد الدراسة، العديد منها، مثل:
كانت الهوية الوطنية ظاهرة، بوضوح في أشعاره، فالوطن –في كتابات ب. مواسي- يعني المكان والزمان والطبيعة، والناس بعلاقاتهم وانفعالاتهم وتشربهم لهذا الوطن (ص53)، وأينما وجدت (فلسطين) تعني عمق غضب مواسي –الشاعر ومدى اتصاله بها (ص62). ففي قصيدته "حبي فلسطيني"، يقول في مطلعها (ص51، ص61):
الأرض أرضي وليس الشوق يبريني الشوق يحدو إلى حبي فلسطيني
وقد نَظَم قصائد وأشعارًا تغنى من خلالها بالمدن والقرى الفلسطينية، كالقدس، وحيفا، ويافا، وباقة، وعين غزال... الخ. ومما يقوله في القدس: "وسر القدس يشرق في سرائرنا" (ص63-65).
ووثّق للشخصيات الوطنية الفلسطينية التي سقطت في سوح الوغى أو قارعت الاحتلال وأعوانه، منهم: فهد القواسمي، أبو جهاد، سامي مرعي، إبراهيم بيادسة... الخ (ص65). كما نَظَمَ قصائد ليوم الأرض، وفي رثاء الفدائيين والشبيبة والطلاب. ومن جميل قصائد "ب. مواسي" قصيدته "الخلاص من نهر الظمأ"، بتاريخ "18/12/1987"؛ قبل أيام من الانتفاضة، تنبأ فيها بما حدث في الانتفاضة، إذ يقول" (ص50، ص61):
ويصير الطفل معبأ
ويتكاثر أطفال ورجال ونساء وصبايا
ظهرت الهوية القومية في شعره، حين يقول:
أعلام أمتنا خفاقة أبدًا نرنو لها أملًا، والرمز لم يغب
ومن خلال رثائه لجمال عبد الناصر، الذي اسماه "الرجل العربي الاول في عصرنا" (ص46) حين يقول: هو حب وشربناه (ص69). كما نَظَمَ قصيدة، في أجواء الهجوم الأممي على العراق، بكى فيها الأمجاد العربية التي تُداس، بقوله (ص69):
من أعماق الأحزان استفتيت فؤادي
هل تقدر أن تثبت في وجه الإعصار
كتب قصائد في مجالات أخرى، فكتب عن بعض رموز اللشيوعية كبابلو نيرودا وتوفيق زياد، كما كتب قصائد دينية من وحي السيرة النبوية (ص69). كما كان يعبر عن رؤاه ومواقفه ونظرته للأمور شعرًا، مثل: تذمره وسخريته ممن يعلمون وهم لا يحملون شهادة، أو ذهبوا إلى الجامعات إسمًًا، فيقول (ص20):
ما أنت أول أستاذ أخي جهل ما كان يعرف ترتيب العبارات
في قصة الطبل ضخم الصوت معتبر هل حصل الكب شحمًا في المعاناة
وقد وثق رحلته الشعرية، أحسن توثيق، من خلال مجموعة من الدواوين التي أصدرها، تِباعًا، وهي تحتضن قصائد توثق للمناسبات، وتبث الفكر والمعرفة والثقافة في أوساط الشعب الفلسطيني الذي كان لقصيدته النصيب الأول في قصائده. وجدير بالذكر اعترافه في العام 1971 بأنه فرح لديوانه الأول، حتى أنه خاطب الجبال والتلال وهو يقول لها: اصدرت ديوانًا؛ في إشارة إلى ديوانه الاول "في انتظار القطار" (ص45).
سادسًا: الوجه الاجتماعي-السياسي: زوجة مخلصة.. وشبكة علاقات مع "عِلية القوم":
يشير "ب. مواسي" إلى أن المرأة هي نقطة قوته ونقطة ضعفه، والأنثى هي الرقة والجمال والضرورة والأنس (ص55). أما زوجته؛ فيعترف بفضلها عليه، وأثرها (الإيجابي) في حياته وعلى المستويات كافة، حتى أنه نظَمَ غزلًا، لا عهد لنا به، وهو غزل فيما أسماها "رفيقة عمره"؛ وفاءً لها، مما أثار غيرة زوجات الشعراء الآخرين (ص56). ومما يبوح به "ب. مواسي" أنه عندما ظن أن معين شعره قد نضب، طمأنته زوجته بأنه سيكتب، فكتب قصيدة مميزة في شعره (ص53-54). يذكر لنا بأنها هي من استشعرت أن من يتصل به طالبًا المال، بالهاتف، هو نصّاب محترف، وليس عبد العزيز التويجري/ أمين عام الإيسيسكو، وفي النهاية يكون حدسها هو الصحيح (ص315).
أما بخصوص الحياة اليومية لـ "ب. مواسي"، فإنه من الواضح أن وقته الذي أمضاه خارج البيت، قد صرفه مع من أصبحوا كبار الكتّاب والشعراء والموسيقيين والسياسيين، حتى أنه جادل شارون جدالًا حادًا في العام 1974، محتجًا على العنصرية والتمييز الذي يعانيه فلسطينيو-48 (ص164-165). كما قابل رئيس الدولة في أواسط الثمانينيات، وجالس إسحق شامير عندما كان رئيسًا للوزراء (ص173).
كما أنه كان "يُنَقِّبُ"، دومًا عن المشهورين في تلك المجالات، الذين سمع بهم و/أو قرأ عنهم في طفولته، ليقيم معهم علاقات، تبدأ اجتماعية لتنتهي مهنية، أو العكس تمامًا، فهو يؤمن أنه في التعرف على الكبار تحقيق للذات (انظر: ص79). فقد قابل المرحوم ياسر عرفات في العام 1994، وألقى كلمة أمامه (ص182). وفي جميع الأحوال، تجد في معظم "أقواس" سيرة "ب. مواسي" نصيبًا لأولئك الذين (صنعوا) تاريخًا في الشعر وفي الأدب وفي السياسة، منهم:
أولًا: فدوى طوقان (ص78-87): إذ أن لقصة علاقة الشاعرين مواسي- طوقان شئون وشجون تبدأ بطفل يقرأ عن شاعرة ذات شهرة وصيت، وتنتهي بهما صديقين "حميمين"، ، فأصبحا يتجاذبان الأحاديث في الفكر والسياسة والأدب، ويحييان، معًا، حفلات شعرية، يقول كل منهما شعره.
وفي تعبيره عن تلك العلاقة، يقول "ب. مواسي" (ص80):
فدوى فداؤك مهجتي وعزيمتي شأني الوفا تأبى سواه شريعتي
ويختم "ب. مواسي" في القوس الخاص بفدوى طوقان، بالقول: يا عزيزتي فدوى.. لعل هذه الصفحات تشرفني أنا، وأنا أكتب سيرتي لا سيرتك، فأرجو أن تجدي فيها محبتي كذلك (ص87). أما فدوى فقد قالت في شعراء فلسطينيي الداخل:
وها أنا يا احبائي هنا معكم
لأقبس منكم جمرة
لآخذ يا مصابيح الدجى من زيتكم قطرة (ص84).
ثانيًا: نزار قباني (ص94-101): إذ يعترف "ب. مواسي" أن لنزار قباني تأثيرًا على كتاباته، وأنه يرى فيه الشاعر الذي يجعل الشعر خبزًا وماءً وطيبًا. ومما اشتهر به نزار أنه "عبر عن مشاعر المرأة أكثر من المرأة نفسها".
أما بشأن العلاقة المباشرة بين مواسي ونزار؛ فيشير "ب. مواسي" أنه التقاه وأهداه مجموعته الشعرية، التي وعده "نزار" أن يقرأها. وفي حضرة "نزار" قال "مواسي": "(نزار) هو المبتدأ والخبر في رؤى القصيدة، عمّر لنا بيوت الشعر، ووضع عليها بطاقات الحب السامي." ويعتز بأن مكتبته تضم كتاب "جمهورية جنونستان" لنزار قباني، يحمل إهداءً من "نزار" نفسه بخطه المنمنم (ص148).
ثالثًا: عبد اللطيف عقل (ص102-106): يرى "ب. مواسي" أن "عبد اللطيف عقل"، الذي تعرف عليه في العام 1972: شاعرٌ مسؤول أمام الكلمة والقيمة، وكل قصيدة من قصائده تهمس "أنا أجسد تجربة عقل". وينهي "ب. مواسي" بالقول: عبد اللطيف عقل عظيم في شعره وفي فكره وفي إنسانيته، وكم تعلمت منه!
رابعًا: محمود درويش (ص257-271): يبدو أن "ب. مواسي" هو أول من تنبأ بسفر محمود درويش في العام 1970، عندما شاهد فتاة مصرية على التلفزيون المصري تمتدح شعر درويش، فأخبره عن اللقطة، وقال له: مكانك هناك. وشعر مواسي أن درويش لا بد من سفره، وهكذا؛ غادر درويش أرض الوطن، فحلق بعيدًا ثم عاد بعد اتفاق أوسلو إلى رام الله.
ولعل أدق وصف لمحمود درويش ما يقوله "ب. مواسي": لم يلتزم لحزب أو لتيار سياسي عربي، وهذا ينبع لديه من موقف أدبي وفكري متعالٍ، فهو في الداخل وليس فيه، وهو ضد أوسلو ويعود إلى الوطن باتفاقياتها، وهو مع عرفات وشاعره ويتحفظ من اتفاقياته بحدة، وهو يكتب وثيقة الاستقلال ومع ذلك لا يريد البقاء في المجلس الوطني الفلسطيني. وإزاء ذلك، وبسبب التباين الموقفي؛ نجد أن كل حزب يجد أبياته وأدبياته في شعر محمود درويش، ويفسرها وفق منظوره.
ومما يرويه "ب. مواسي" عن محمود درويش عدم التزامه بالمواعيد. كما يروي أن يوسي سريد أدخل قصائد درويش ضمن منهاج الأدب العبري، عندما كان وزيرًا للمعارف. وبعد وفاته لم يؤبنه مواسي، لا شعرًا ولا نثرًا، لفيض الكتابات التي كتبت عنه، إذ كثيرًا ما يجد الكاتب مادة كتبها سواه، فيقول: هذا ما أردت أن أقوله. إلا أنه أصدر كتابًا بعنوان "محمود درويش-قراءات في شعره.
الخاتمة
هذه هي أقواس من سيرتي الذاتية، كما سطرها البروفيسور فاروق مواسي، هذا العالِم الجليل الذي وضع تجربته الشخصية في متناول أيدينا، بما لها وما عليها، فهو الشاعر، والكاتب، والباحث، وكاتب القصة، وهو الناقد؛ الذي يرقب النصوص في كل ما سبق ويحللها، ليجعل لها مذاقًًا طيبًا سائغًا للقارئ.
فتح "ب. مواسي" ملف حياته وحياة غيره، بتحفظ، بما يجعل منها دروسًا يستفاد منها، وليس خطبًا رنّانة يكيل في السارد الكيل والمديح لذاته، ويهجو خصومه بأقذع الصفات.
لقد قرأت أقواسه، بمتعة، وبتتابع لأكثر من ثلاثة أرباعها، عندما انتقيت أقواسًا لأغوص فيها أكثر من غيرها. فوجدت فيها وثائق في الأدب، والسياسة، والفكر، والشعر. كما وجدت فيها توثيقًا (توصيفًا) لشخصيات عامة تعرفت سابقًا، ولشخصيات تعرفت عليها بين دفتي هذا الكتاب. فأضفت لذاتي معرفة كانت ناقصة، وثقافة كنت بحاجة إليها، وتجربة في الكتابة والقراءة استقيتها من طريقة عرض هذا الكتاب. إنه كتاب سيرة ومسيرة، مصوغ بمنهجية وطريقة وأساليب سردية، لم تتكرر في غيره من كتب السير الذاتية.
بقي القول: لا بد من الاستمرار في كتابة السيرة بعد سنة 2011 السنة التي احتفل بها في عامه السبعين، فلديه الكثير مما يضيفه بصدقه، وبتمثيل تجربته في الميادين المختلفة التي كان جواده يسابق فيها. وكذلك ثمة ضرورة للوقوف على أقواس أخرى تحفظ من إيرادها: المرأة في حياته، حياته العائلية، الأصدقاء وعلاقاته بهم، وصولاً إلى أوليات في السلوك والمعاملة، وهي ضرورية جدًا في التعرف إلى كل أديب.
أما بعد ذلك كله، فإنني أوصي بأن يكون هذا الكتاب ضمن منهاج جامعي؛ يتعلم فيه الطلبة مساقًا حول السيرة الذاتية وكيفية صياغتها، وقراءتها، ونقدها وتقييمها.
aziz.alassa@yahoo.com
http://alassaaziz.blogspot.com/
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 3/10/2014م
إرسال تعليق Blogger Facebook