aziz.alassa@yahoo.com
أسامة العيسة؛ فلسطيني الأصل والفصل والهوية والألم والعذاب والتشرد. فهو ابن مخيم الدهيشة؛ فيه ولِد وترعرع، وبين طرقاته الضيقة حبا خطواته الأولى، وفي مدرسته أمسك بالقلم والممحاة والمبراة لأول مرة. فتمسّك بالقلم، وأتقن استخدام المبراة, أما "الممحاة" فقذف بها بعيدًا، رافضًا استخدامها؛ فقد أراد أن يكتب كل ما يرى ويسمع, كما هو على طبيعته. أراد لمأساة شعبه أن تكتب، كما هي، دون أي تدخل للممحاة، التي كثيرًا ما نسئ استخدامها، بما "يخدش" روايتنا الوطنية. ووجودنا.
هكذا؛ نحن مع كاتب أعرفه جيداً, خفيف الظل, لا يعرف اليأس له سبيلاً, يبحث دائماً عن الحقيقة ويسعى لها, يتعب ويجد الطريق للوصول إليها. يصغي جيدًا، ويتحدث بعمق، ويكتب ما يغذي حاجتنا للمعرفة.
لم أقدم لهذا كله لكي أوجه الأنظار نحو "أسامة العيسة" لدعاية ما؛ ولكنها منهجيتي في النقد بأن أتوقف, معمقاً, عند الكاتب قبل الدخول في الكتاب؛ فهناك جزء لا مرئي في شخصية الكاتب تظهره كتاباته, كما أن هناك إشعاعات تنبض بها شخصيته تظهر في النص، بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للكاتب "أسامة العيسة" فهو رواية المسكوبية, الصادرة عن "مركز أوغاريت الثقافي/ فلسطين" للعام 2010. تتألف من خطبة وخمسة فصول من سيرة العذاب، تضم (39) محطة, تتوزع على (159) صفحة من القطع المتوسط.
لقد قمت بقراءة متأنية لتلك الرواية؛ لكي أسبر غورها. فوجدت أن "أسامة العيسة" ينتهج السرد المباشر, عندما يتحدث عن أحداث وقصص وحكايات تشكل، في مجموعها، فصول من سيرة عذاب الشعب الفلسطيني وتعذيبه، عبر رحلة مشبعة بالألم واغتصاب الحقوق ونفي الوجود. فكتب عن تجربته عندما كان فتى يستعد الدخول في العشرينيات.
لأنني أؤمن بمنهجية تحليل النص وتفكيكه؛ فإن ذلك يلزمني بقراءة السطور وما بينها وما وراءها. وهكذا فعلت لأكتشف أن هذه الرواية-الوثيقة ترتكز على مجموعة محاور شكّلت هيكلها الذي اتّكأت عليه النصوص, منها:
أولاً: توثيق تاريخي, ومعرفة يحتاجها القارئ الفلسطيني:
فلم يدع "أسامة العيسة" فرصة للتعريف بالأحداث ومجرياتها إلا وفعل. ففي خطبة الكتاب أورد معلومات هامة تتعلق بأفعال الانتداب البريطاني بحق الشعب الفلسطيني, فلم يبنِ جامعات ولا منشآت علمية أو صحية، بقدر ما بنى (حصون تارجت) لتكون مبانٍ أمنية وعسكرية بريطانية لاعتقال الثوار وتعذيبهم ثم ينتهي الأمر بها شاهداً على إعدام أبناء شعبنا في تلك الحقبة، والاستمرار في تعذيبهم، بشتى الطرق، في الحقب اللاحقة. وقد قامت اسرائيل بتدمير تلك الحصون، ولم تبقِ لها أي أثر. كما يعيد لذاكرتنا مقولة اللنبي، عند دخوله القدس: الآن انتهت الحروب الصليبية.
ولم ينسَ "أسامة العيسة" تذكيرنا بالروس الذين كانوا أوائل المستعمرين لفلسطين، حتى أنهم امتلكوا 2% من أراضي فلسطين التاريخية، عندما يجرّه السجّان "الروسي" لمجرد محاولته المناداة على جاره، ثم "يكوّمه" في زاوية الزنزانة وينهال عليه بـ "خبطات" قدمه الكبيرة التي يلحق كل خبطة منها بالسباب بلغته الروسية. كما يذكّرنا بأن الاتحاد السوفيتي هو وريث الإمبراطورية القيصرية، وكان الأسرع في الاعتراف بدولة إسرائيل الوليدة.
أما بشأن القدس؛ فقد أورد "أسامة العيسة" معلومات هامة كثيرة، منها: 1) كانت تغلق أبوابها مع غروب الشمس، خوفا من غارات البدو وغزواتهم، ثم فتحت ثغرات في الأسوار تسمّى الواحدة منها (خوخة) يدلف منها من يتأخر بعد إغلاق الأبواب مع غياب الشمس. 2) أول مرّة، في التاريخ، قسّمت القدس فيه هو في العام 1948. 3) مصطلح القدس الغربية مرفوض وطنيًّا، وعندما نضطر لاستخدامه فهو "غربي القدس".
ثانياً: مفاهيم فلسطينية، فلسفة الأسير، واستراتيجيات الأسرى في مواجهة السجن و/أو السجّان:
تمكن "أسامة العيسة" من إعادة صياغة العديد من المفاهيم، من وجهة النظر الفلسطينية، المشبعة بآلام العذاب والضياع الذي فرضته الاحتلالات المختلفة على الأجيال الفلسطينية كافة، التي تحيا "نسبية" الزمان والمكان والإنسان.
فالزمن والشعور به ووطأته تختلف باختلاف الموقف والمكان الذي يكون فيه الأسير، وهو نسبي؛ وهو غير الأزمان في خارج السجن. والسجين لا يعرف حدود الواقع ولا يعرف الليل من النهار. وتتجلى فلسفة "أسامة العيسة"، عندما يتساءل: كيف عرف آينشتاين الزمن دون أن يسجن؟! ويرى أن الساعات الأولى، والأيام الأولى، هي الأهم بالنسبة للمعتقل، إذا صمد فيها، فإنه يكسر المحققين، ومهما طالت فترة التحقيق والتعذيب بعد ذلك، لن تكون مثل الأيام الأولى، حتى لو كانت أشدّ، فالأسير يتكيف مع وضعه الجديد الصعب، والملل والضيق والتخبّط يبدأ بالتسلل إلى المحققين.
أما المكان والإنسان؛ فهناك زنزانة أفضل من زنزانة، وبرش أفضل من برش، وساحة أفضل من أخرى، ومحقق أقل "حقارة" من محقق... الخ.
كما يشير"أسامة العيسة" إلى فلسفة الأسرى القائمة على أن الصراع مع المحققين صراع إرادات، وأن الإرادة الأقوى هي التي تنتصر، في النهاية، وليس البطش والقوة. وأنه على الأسير أن يتمتع باليقظة والانتباه الدائمين؛ حتى لا يقع في أي خطأ أمام المحققين؛ لأن الإفصاح عن أي شيء في التحقيق محرماً، وأن يعد نفسه "جيدًا للمفاجآت كافة، مهما كان مستواها. وإذا قال (الأسير) قصة للمحقق يجب أن يصدّقها بتفاصيلها، لأنه سيظلّ يُسأل الأسئلة نفسها، ولأن أيّ خطأ سيؤثر على أصحابٍ ومناضلين، وعندما يُنهك الجسد فإن الدماغ يبقيك على قيد الحياة في السجن؛ ولا توجد حياة بدون هذا العضو العجيب. أما المعدة، وعندما يكون الضغط والتعذيب والتحقيق مكثفا في بدايته، فلا تعود تلحّ في طلب أي شيء، تنسى نفسها، تنسى أنها معدة، والرأس يصاب بصداع دائم، والجسم يعاني من هزال، والشهية تموت.
من جانبٍ آخر؛ تعلم الأسرى عدم التحدث أمام المحققين، وإذا اضطر أحدهم، فعليه أن يختصر بكلمة نعم أو لا، لأن المحقق يريد أن يعوّده على الحديث، الاسترسال، لذا يجب أن يرفض، وأن لا يقبل شرب فنجان قهوة يطلبه المحقق، وألا يشعر بوقع الكلام الناعم للمحقق، أن تطرد أي إحساس آمن يريد أن يزرعه فيه. لا يوجد خلاص من زنزانتك إلا أن تكون نفسك، صاحب قضية، تريد أن تنتصر على محقّق يجب أن تراه مجرّد خادم، يدافع عن قضية خاسرة.
وعند العزلة في الزنازين، يجب أن يمنع الأسير نفسه عن التفكير بأسرته، وأن يبتدع الأساليب المختلفة لتفريغ طاقته الفكرية والإنسانية، وأن يشغل نفسه طوال الوقت، كما فعل "أسامة العيسة-الأسير" عندما درّب نفسه على التذكر، وأجرى امتحانات لذلك. وروى قصصا لا تنتهي, ووضع برامج لما سيفعله بعد خروجك من ذلك المستطيل الذي وضعوه فيه. فقد صادق الفئران التي تعيش في الفتحة، والتي أصبحت نقطة الوصل بينك وبين العالم؛ فجلبت له شيئا أعانه على الحفر على الحائط، ونقش على الباب شعارات كان يؤمن بها، تؤكد على الصمود وعدم الاعتراف.
ولعل من أجمل تلك الاستراتيجيات، ما تذكّر "أسامة العيسة-الأسير" "بفرح" أنه سأشعر بدفء بعد الحمام البارد، كما كان يحدث بعد عودته من طقس التعذيب إلى الزنزانة؛ حيث كان يشعر بدفء منعش لذيذ، فترسّخت في ذهني العلاقة بين الماء البارد والدفء الذي يتبعه.
كما ابتدع الأسرى منهجيات وأساليب توفر لهم سبل التواصل بين بعضهم بعضًا، والتواصل مع الخارج، الذي سعى الاحتلال إلى عزلهم "التام" عنه.ويصف "أسامة العيسة" كيف تم التخاطب بينهم وبين الأسيرات اللواتي يمكثن في الغرف المجاورة، فيقول: "كنا نقف عند باب غرفة رقم -12- الحديدي، المطلّ على رواق ممتد في السجن، وقوفا غير آمن، فشرطة السجن تتحرّك في الرواق، وبين فترة وأخرى يفتح باب غرفتنا؛ أما هي، فتضع وجهها الذي لا يكاد يبين منه شيء، على فتحة صغيرة في باب غرفة النساء، مثبتة فيها قضبان حديدية، تجعلها أصغر.
أما بشأن العلاقات بين الأسرى، داخل السجون، فإن "أسامة العيسة" يرى أن "الأسير للأسير نسيب"؛ في إشارة إلى روح التعاون والتعاضد المطلوبة للصمود في وجه المحققين، وفي ظل الظروف التي يعيشونها.
ثالثاً: صور العذاب والتعذيب:
من الطبيعي أن تكون هذه الصور هي الطاغية في هذه الرواية. فنجد أن العيسة يصف عمليات التحقيق وآلامها المتمثلة بالشبح، بأنواعه المختلفة، في ليالي الثلج والليالي الممطرة، ورؤوس الأسرى المطوقة، بإحكام، بـ "كيس الخيش الغارق بالبول"، وقد يضعون كيسا آخر فوقه، ويربطون الأيدي من الخلف، ثم يتم إيقافه تحت مزراب ماء، رغم الأمطار المنهمرة فوق رأسه، وفي ظل ذلك يُحرم من الأكل والسجائر والماء وقضاء الحاجة. أضف إلى ذلك، مصادرة ملابس الأسرى، وعدم السماح لهم بالاستحمام، وتركهم بلا ملابس تنهشهم ليالي الصقيع والزنازين الرطبة الآسنة الكريهة الرائحة. وأما نتائج هذا فقد تصل إلى "استشهاد" الأسير، مرورًا بعدم القدرة على النوم لعدة ليالٍ من شدة (التعذيب)، وشعور الأسير بأن عينيه تنزّان دماً.
رابعًا: الفدائيون، الثوار، والشهداء حاضرون بقوة:
من أجمل الصور التي ساقتها لنا رواية "المسكوبية"، أن "أسامة العيسة" أعاد للذاكرة مصطلح الفدائيين، الذي تكاد الأجيال نسيانه، كما يستحضر الثوار الأبطال الذين لقنوا الأعداء دروسًا في البطولة والفداء والصمود، منهم:
1) الشهيدان البطلان (العرميط) و(أبو جلدة)، اللذان ثارا على الظلم البريطاني، ويقول فيهما إريك شارون، الزعيم الإسرائيلي المشهور، أنه عندما كان صغيرًا كان يرتعد خوفا من اسميهما، وأنه كان يخشى الذهاب إلى القدس مع والديه ليتلقى علاجا لمرض أصاب عينيه رعبًا منهما.
2) قاسم أبو عكر؛ شهيد الصمود والزنازين، الذي تعرض لأشكال التعذيب المتنوعة والقاسية، والذي استشهد وهو يردد: "بدّي إبني يطلع بطل".
3) الشهيد اسحق مراغة؛ شهيد الأسر الذي استشهد في 16/11/1983م.
4) الشهيد العجوز "محيي الدين علان العوري" أحد ثوار 1936م، واعتقل لأول مرة عام 1968م، وأمضى في زنازين التحقيق فترة طويلة، دون أن يتمكنوا من أخذ كلمة واحدة منه، ودون أن يعرف أهله في بيت عور شيئا عنه، ثمّ اعتقل مرة ثانية، واعترف عليه، هذه المرة، اثنان من زملائه، وبقي متماسكا، حتى أسلم الروح في بركة الصقيع، وكان ذلك في آذار/ 1970.
5) وأعداد أخرى من الشهداء الذين قضوا في زنازين المسكوبية، بعضهم عانقت روحه سماء القدس فجرا وهو مشبوح، أو وهو يتحدّى ساديّة محقق هاجر إلى القدس من بلاد بعيدة، ليعذّب شبابها، كالشهيد غسان والشهيد "أمون النوري".
6) شهداء آخرين، استشهدوا خارج السجون، أثناء المظاهرات والصدامات مع الاحتلال في مناسبات مختلفة (في الضفة وقطاع غزة)، منهم: حسين عبد الفتاح، محمد صالح اليماني، جهاد إبراهيم بدر، الحاج توفيق عيسى الزغل، الطفل "سهيل غبن"، سلمان عبد الله حلّس، إسماعيل إبراهيم أبو نمر... الخ.
خامسًا: شعبٌ واحدٌ، لم يستطع الاحتلال تفتيته:
لقد حرص "أسامة العيسة" على "تحصيننا" بمعرفة وثقافة تتعلق بشرائح شعبنا وفئاته التي "يلعب" الاحتلال على ورقتها، لكي يُضعف ثورتان ضده، ويكسر شوكتها، ومن الأمثلة على ذلك:
1) جناحا الوطن؛ المسلمون والمسيحيون في خندق واحد، خلال المراحل الكفاحية المختلفة للشعب الفلسطيني، ويتجلى ذلك من خلال الشواهد التالية:
لقد اشتملت "خطبة الكتاب"، التي هي بمثابة تلخيص "مركّز" لجهاد الشعب الفلسطيني خلال مرحلة ما قبل الاحتلال، على أسماء كوكبة ممن واجهوا العثمانيين والبريطانيين، فورد إسم "نجيب نصّار" (وهو المعروف بشيخ الصحافيين) الذي هادن الاحتلال البريطاني، لكنه عاد ووقف مع الحركة الوطنية ضدّ سياسة هذا الاحتلال.
يعقوب جريس؛ الذي كان متحمسًا إلى مقاتلة العدو في العام 1967، إلا أنه اضطر للعودة إلى البيت، بعد الهزيمة النكراء التي حلت بالجيوش العربية.
أنطون؛ هو شخص من عائلة يونانية، تمتع بشخصيته قيادية ملفتة، كان ملتزمًا بما التزم به أبناء فلسطين الآخرين في مواجهة الاحتلال، بالسبل كافة. وكان الإسم المحبب إليه، والذي يطلب أن ينادى به هو "أبو محمد"، وقد اعتقل على خلفية دفاعه عن المسجد الأقصى. وقد انتهت قصة أنطون "أبو محمد" بأن عاد إلى القدس مسجى في نعشه إذر حادث سير مروّع خارج الوطن.
كذلك؛ كان هناك مناضل مسيحي آخر هو "جورج أبو شماس" المتهم بإحضار أسلحة للفدائيين في الأرض المحتلة. أضف إلى ذلك "ريتشارد زنانيري" الذي اعتقل بتهمة التظاهر ورشق الحجارة دفاعًا عن المسجد الأقصى، عندما قام الإرهابي "غولدمان" بمهاجمة المصلين في المسجد الأقصى.
الأحباش؛ الذين خسروا كثيرا من أملاكهم، أثناء الحكم العثماني، لأنهم لم يكونوا يملكون الأموال لرشوة الولاة العثمانيين حتى يحتفظوا بتلك الأملاك، منهم من شارك في الثورة الفلسطينية المعاصرة، كأبرهة الذي يقول : ما يهمني هو القضية الكبرى (يعني بذلك القضية الفلسطينية).
2) فلسطينيو الداخل بـ "أخوة الدم" الذين سبقونا في الاحتلال، الذين كانوا مصدر إلهام ثوري، ويشكلون مصدرًا للمعرفة والكتب التي كان الاحتلال يحظر توزيعها في الأراضي التي احتلها عام 1967م.
3) "النور" (يعتقد أنهم من أصول عربية) تحصنوا فتية وشبانًا ونساءً وأولادًا وبناتًا، عند تشييع شهيد المسكوبية "أمون النوري"، فخاضوا مواجهات عنيفة مع جنود الاحتلال وشرطته؛ فحقّقوا نصرا لا مثيل له، بحَرق مركز لشرطة الاحتلال في باب الأسباط، ورفع آخرون الأعلام الفلسطينية على أسوار الحرم وعلى قبة الصخرة، وكأنهم يتحدون رافع أول علم إسرائيلي عليها، الجنرال غور.
4) البريون (قاطني المضارب في البراري والصحاري)، اعتبرتهم الحركة الصهيونية أحفاد بني إسرائيل القدامى، وادعت أنهم حافظوا على الوجود اليهودي في الأرض المقدسة، حَمَلوا السلاح، مثل باقي مواطنيهم ، وخاضوا الثورات المتعاقبة.
5) الجنائيون؛ من حشاشين وبلطجية وليليين والذي يسعى الاحتلال إلى استغلال ضعفهم على المستوى الاجتماعي، يميلون إلى السياسيين ويحترمونهم، ومنهم من يتحول إلى العمل الثوري وينضم إلى صفوف الثوار في مواجهة الاحتلال، مثل: "أبو العراج" الذي غادر السجن وهو جنائي، فلم يتجه إلى بيته، وإنما اتجه نحو المسجد الأقصى مدافعًا عنه، فيعود إلى السجن كسجين سياسي، وإبن الليل (الجابري) الذي أقدم على عمل ما زال يُحيّر كل من عرفوه؛ عندما قتل جنديا من حرس الحدود الإسرائيليين عرف بتنكيله بناس القدس، لكن زميلا للقتيل عاجل الجابري برصاصة، فخرّ صريعا بجانب الجندي القتيل.
سادسًا: المرأة حاضرة في هذه الرواية:
وإن لم تكن بالمستوى المطلوب، إلا أن للمرأة حضور في أحداث رواية المسكوبية. فقد أشار "أسامة العيسة في خطبة الكتاب إلى الصحافية والأديبة "سَاذَجْ نصّار"؛ أول امرأة مثقفة تعتقل في حصون تارجت، وكان ذلك في شباط عام 1939، وأمضت نحو عام في السجون. وقد وقفت إلى جانب زوجها في مقاومته للإنجليز، الذي كَتبَ لها وهي في السجن، رسالة لطيفة مليئة بالحبّ، ذكر فيها أنه إذا لم يدخل التاريخ بسبب صحيفته (الكرمل)، فسوف يدخله بسبب زوجته التي تعتبر أوّل سيدة تدخل زنازين الاحتلال البريطاني.
وفي السياق العام والخاص للثورة بعد العام 1967، كانت المرأة حاضرة في المعركة، فقد كان "كمال" أسيرًا وكذلك كانت زوجته (مسيحية الديانة) أسيرة في معتقل سجن الرملة للنساء. كما أن سجن "المسكوبية" كان يضم المقاومات للاحتلال ولم يقتصر على المقاومين من الرجال.
سابعًا: الاحتلال يعترف بممارساته اللاإنسانية:
لقد وثق "العيسة" لمجموعة من الممارسات الاحتلالية التي بحق القدس والفلسطينيين بشكل عام، منها ما اعترف به الاسرائيليون أنفسهم، ومنها من اقتبسه من المراجع والمصادر ذات الصلة، منها:
1) اعترف بطل عملية هدم حارة المغاربة، "إيتان بن موشيه بن انيان"، الذي أنقذه المفتي يومًا ما، الذي كان وقت الحرب ضابطًا كبيرًا في سلاح الهندسة في جيش الاحتلال، وترقى فيما بعد ليصبح قائده، بأنه قتل عددًا من سكان حارة المغاربة، وأنهم دفنوا تحت الأنقاض، تحت الساحة، حيث يقيم اليهود الآن صلواتهم. كما اعترف بمشاركته في تنفيذ مذبحة دير ياسين عام 1948، بإصدار الأوامر لأفراد عصابته بقتل المدنيين، وعندما شاهد أطفالاً أصيبوا، قال لأفراد عصابته: اقضوا عليهم، وإلا فالويل لنا إن كبروا ورووا ما شاهدوه.
2) في منتصف ليلة العاشر من حزيران (1967)، تحرّكت الجرّافات الإسرائيلية لهدم حارة المغاربة على رؤوس بعض سكانها الذين رفضوا المغادرة، لتوسيع الساحة. وطرد نحو 700 مقدسيّ من حارة المغاربة، إضافة إلى ثلاثة آلاف من حارة الشرف المجاورة، التي تحوّلت إلى حارة اليهود، وأصبحت بعض أهمّ الآثار الأيوبية والمملوكية والتراث المغربي الأندلسي المميز، ركامًا، ومن بينها المدرسة الأفضلية، ومسجد البراق. وهكذا دمّرت حارة المغاربة التي كانت مساحتها 116 دونما وفيها 136 منزلاً، وزوايا دينية أشهرها (بومدين) وأربعة مساجد ومدرسة حديثة.
3) المحقق أبو نهاد، يعترف بقتل غسان؛ بحرمانه من دوائه.
4) لا يعرف جنود الاحتلال إلا الضرب والدفع والنهر والشتم في التعامل مع المعتقل.
5) لقد تم توظيف القضاء والطب والكتب والعلوم المختلفة في إطلاق الأحكام على الفلسطينيين في المعتقلات الصهيوينة، فالأحكام تصدر مسبقًا، وليس لعلوم القضاء أي دور فيها، وإنما تتم تحت مظلتها عندما يتحول قسم التحقيق إلى مسلخ، وعندما يتعب المحقق ينوب عنه آخر (ص: 59)، والطبيب لم يعد طبيبًا؛ بل أنه يعامل المريض-الأسير بتقزز وولا يتورع في استخدام سماعته كأداة لضرب الأسير. أما الكتب التي تدخل إلى السجن فهي كتب الجان، وعذاب القبر والخزعبلات.
خلاصة القول:
هذه هي نصوص "المسكوبية" التي يقول فيها "أسامة العيسة": ستبقى مشرعة لاستقبال أجيال وأفواج جديدة، يجري الشاباك عليهم تجاربه التعذيبية، لانتزاع الاعترافات. وهذه هي قصة الشعب الفلسطيني الذي تعرض لحرب إبادة؛ عندما قضى 40% ممن تم تشريدهم بين عامي 1948-1965 في أصقاع المعمورة، لدرجة أن موت الفلسطينيين هو السائد وحياتهم هي الاستثناء.
هكذا؛ كنّا مع رواية "المسكوبية"، أشبه ما تكون بمشاهد بالصوت والصورة، في رحلة مشبعة بالألم والأمل/ في آنٍ معًا، فالألم مصدره تلك العذابات والتشتت الذي عاشه شعبنا عبر القرن الأخير، والذي انتهى بإقامة الدولة-المسخ على أنقاض حضارة متراكمة عبر آلاف السنين، وعلى جماجم شعبٍ تم طرده، عنوة، من بيته وأرضه وبستانه ومدرسته ومسجده وكنيسته.
وأما الأمل، فمصدره تلك القدرات، المذهلة، التي تمتع بها أبناء شعبنا في مواجهة السجن والسجان، عبر معركة إرادات تم، خلالها، تحييد قوة العدو وجبروته وإمكانياته الهائلة، فقد قام الأسرى بتطوير استراتيجيات صمود ومقاومة، في مواجهة استراتيجيات الاحتلال التي تسعى إلى "تفتيت" الشعب الواحد وبذر الخلافات بين صفوف أبنائه. فتحولت السجون والمعتقلات والزنازين إلى ما يشبه الجامعات التي تبث العلم والمعرفة وتؤجج حب الوطن والدفاع عنه في نفس الأسير، مما يجعل الأسير مطمئنًا إلى أن وجوده في السجن هو فرصة للتطور أكثر، بكثير، من تلك الفرص الممنوحة له خارج السجن.
بهذا؛ تكون رواية "المسكوبية" وثيقة أرّخت لحقبة تاريخية هامة من حياة الشعب الفلسطيني، وإنني أجزم أنها وثقت لمئات الألوف من الأسرى الفلسطينيين الذين "ربضوا" في هذه الزنازين والأقبية والدهاليز والساحات والممرات، بما تشهده من عذابات وتعذيب وحشي؛ جعل الاحتلال يخرج من ملة بني البشر ولم يعد له في الإنسانية مكان، وبقذاراتها القاتلة للحياة البشرية، ورطوبتها التي تخترق اللحم والعظم وتتجاوزهما حتى النخاع.. وأبرزت الصراع القائم بين الخير الذي يمثله الأسرى الفلسطينيين، والشر الذي تمثله إسرائيل ومحققيها وشرطتها وأجهزتها الأمنية المختلفة. كما أن هذه الرواية وفرت لقارئها كمًّا من المعرفة في المجالات التاريخية، والجغرافية والدينية، وفي مجال الأنساب والأحداث التاريخية ذات الصلة بها، دون أن تغفل التأكيد على أن هناك شعبًا فلسطينيًّا واحدًا بمكونات طائفية وعرقية تتفق، لحد الُّلحمة، ضد اسرائيل وعدم مشروعيتها على أرض فلسطين التاريخية (الانتدابية).
ويبقى السؤال الاستراتيجي: إن لم تتحول هذه الرواية إلى فيلم و/أو مسلسل تلفزيوني يضع الأجيال المتلاحقة بصورة عذابات من سبقوهم، وإبداعاتهم في مواجهة الاحتلال وآثامه، فما قيمة أن نتغنى بها كإبداعٍ أدبي حصد الجوائز هنا وهناك؟
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 23/01/2015م، ص: 18
إرسال تعليق Blogger Facebook