فلسطينيو الداخل:
الحيّز يضيق
يومًا بعد يوم.. ومواطنتهم مشروطة بقبول يهودية الدولة
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 13/04/2016م، ص: 17
قراءة:
عزيز العصا
صدر، في
أواخر شهر آذار من هذا العام (2016) التقرير الاستراتيجي الذي دأبت "مدار" على
إصداره سنويًا، وهو بعنوان: المشهد الإسرائيلي (2015)، تحرير: د. هنيدة غانم،
ومشاركة سبعة باحثين متخصصين في الشأن الإسرائيلي، يقف كل منهم على رأس مشهد من المشاهد
السبعة التالية: العلاقات
الفلسطينية الإسرائيلية، السياسي- الحزبي الداخلي،
العلاقات الخارجية الإسرائيلية، الأمني– العسكري، الاقتصادي، الاجتماعي ومشهد
الفلسطينيون في إسرائيل.
لقد تميز التقرير، لهذا العام، بعدد من العناوين المثيرة للاهتمام؛
بالقراءة والفهم بل وإدراك ما يتوارى خلفها من حقائق موجعة مؤلمة، منها: فلتان
اليمين لا يقف أمام سدود، والمجتمع الإسرائيلي يعاني من عنصرية متصاعدة وفساد
متزايد، ومواطنة مشروطة بقبول يهودية الدولة. وما من شك في أن تلك الأمراض،
المتعددة الأبعاد، سوف "تنهش" من حياة الفلسطينيين القاطنين في ذلك
المجتمع، وأمنهم فرادى ومجتمعين، والذين يكتوون بنيرانه المباشرة، فهم أبناء
وأحفاد أولئك الـ (150,000) الذين بقوا خلف الحدود إبّان النكبة في العام 1948،
التي أودت بالشعب الفلسطيني بين التشريد والتهجير والقتل، فذاقوا مرارة المذابح
والخوف والرعب والتهجير الداخلي.
وكما يقول "أوري ديفيس"، فقد دفع أبناء هذه الشريحة من الشعب
الفلسطيني، ولا يزالون، ثمن الأيديولوجيا
الصهيونية-السياسية-الأبرتهايدية، عندما أصدرت الكنيسيت جدولًا من أربع فئات من
الجنسية، هي: الفئة (أ) وهم المواطنون المصنفون كـ "يهود"، والفئة (ب)
وهم المواطنون المصنفون "غير يهود"، أي العرب تحديدًا، والفئة (ج) وهم
المواطنون العرب الذين تم تهجيرهم داخليًا، وحرموا من ممتلكاتهم، والفئة (د) وهم
اللاجئون الفلسطينيون إبّان النكبة، والذين يبلغ تعدادهم ذريتهم الآن نحو خمسة
ملايين شخص. وعند إصدار شهادة الولادة للطفل، تكون جنسيته عند الولادة
"إسرائيلية" إن كان يهوديًا، وتكون جنسيته عند الولادة "---"؛
أي بلا جنسية إن كان عربيًا.
إن قراءة متمعنة لتلك العناوين،
وما بينها من صلات، نجد أن الفئتين "ب" و"ج" اللتين تشكلان
أكثر من خُمس المجتمع الإسرائيلي، قيد الدراسة، تقعان تحت تأثير مثلث متماسك
الأضلاع من الظلم والجوْر والملاحقة والاستخفاف بالحقوق وتهديد المواطنة (كحاجة
بشرية)، وأن هذا المثلث يتمثل في الأضلاع التالية: الضلع الأول: حكومة يمينية،
بالتمام والكمال، تعمل من أجل اليمين وتحمي اليمين وتكفل له فلتانه من العقال: أينما
شاء، ومتى شاء وكيفما شاء. والضلع الثاني: مجتمع، بمعناه الشمولي، يعاني من أمراض
العنصرية والفساد. وأما الضلع الثالث، فهو ذلك الشعار القديم-الجديد الذي يرفعه
اليمين منذ نحو عقد من الزمن، وهو اشتراط اعتراف الفلسطينيين، حتى القاطنين في
حدود السلطة الوطنية الفلسطينية، بيهودية الدولة.
أما الملامح العامة لهذا المثلث،
فيمكن استخلاصها من مجموعة الحقائق التي يشير إليها التقرير الاستراتيجي للمشهد
الإسرائيلي 2015، منها:
أولًا: الذي يحكم
"إسرائيل" هذه الأيام، ويبدو أنه إلى أمد بعيد قادم، هو حكومة يمينية
وحريديّة ضيقة، قد تتوسع إلى حكومة أكثر يمينية وتطرفًا. أما الحكومة فتقوم على
أنه "للشعب اليهودي الحق غير القابل للنقض في دولة سيادية في أرض إسرائيل-
وطنه القومي والتاريخي (ص:
70-71). وقد شكلت هذه الحكومة نقطة انطلاق أخرى لفرض الأجندة الداخلية لـ
"اليمين الإسرائيلي الجديد" (ص: 79).
ثانيًا: من العام 2009، أخذت مؤسسات
"دولة القانون!" و"الديمقراطية!"، حتى وهي في صورها الشكلية،
تنهار تدريجيًا، حتى سادت الثقافة السياسية التي تحمل سمات العنف والكراهية
والعنصرية، فيما الأغلبية لا تدافع عن الأقلية وإنما تُستغل الديمقراطية من أجل
فرض حكم الأغلبية، بدلًا من حماية الأقليات وحقوقها (ص: 82-83).
ثالثًا: عندما تعرضت الثقافة
السياسية السائدة إلى امتحان حقيقي تبين أن المجتمع الإسرائيلي في حالة هلع أدى
إلى تعميق العداء للفلسطينيين ولكل أنواع الأقليات في هذا المجتمع، وتتغذى حالة
الهلع هذه على تصريحات وزراء وممثلي جمهور تدعو إلى (قتل) الفلسطينيين (حتى في
ظروف لم يكن فيها أي مبرر لإطلاق الرصاص) (ص: 210).
كما
يشير الواقع إلى أنه يسود في هذا المجتمع
التصدعات الاجتماعية الحادة التي تكشف حدة العنصرية السائدة فيه (ص: 211)، التي من
مظاهرها: المظاهر العنصرية ضد كل معظم مكونات هذا المجتمع، مثل: العرب، واليهود
الأثيوبيين، واليهود الشرقيين. أضف إلى ذلك الفساد السلطوي والإداري المتعمقة في
الأحزاب، والسلطات المحلية، وفي الشرطة (ص: 227-239).
رابعًا: صحيح أن
الفلسطينيين، منذ النكبة، يعانون من العنصرية والأبرتهايدية التي تسيّر الدولة
والمجتمع، بل وحتى الفرد في إسرائيل، إلا أنه في الآونة الأخيرة، ونتيجة للواقع
الاجتماعي الموصوف أعلاه وما يسوده من ثقافة سياسية، ويتجلى ذلك في عدد كبير من
المشاهد والمظاهر، التي تؤكد على أنهم يقعون تحت مطرقة ثقيلة العيار من العنصرية
والأبرتهايدية التي أصبحت أكثر إيلامًا ووجعًا من ذي قبل، ووفق ما رصدته الباحثة
"همت زعبي" في مشهد "الفلسطينيون في إسرائيل"، منها:
1) تصاعد
العنصرية وتجلياتها السياسية: حيث تولى قادة السياسة والفكر في الدولة، وعلى رأسهم
رئيس الوزراء (نتنياهو)، التحريض ضد العرب الذين تمكنوا من تشكيل قائمة
"موحّدة" ذات أثر في الكنيست. وما يجري على الأرض من ملاحقات سياسية لكل
من: للحركة الإسلامية والتجمع الوطني الديمقراطي، وأعضاء الكنيست العرب، وتصاعد
العنصرية المؤسساتية، وتصاعد عنف الشرطة بحق الفلسطينيين والتضييق عبى حريتهم
وحقهم في التعبير عن الرأي، والجهاز القضائي الذي يقوم على التمييز وانتهاك حقوق
الفلسطينيين (ص: 254-262).
2) سعي
الحكومة إلى تفتيت لُحمة المجتمع الفلسطيني: حيث أقرت حكومة نتنياهو، في
30/12/2015م، خطة خماسية لما أسمته "تطوير المجتمع العربي في إسرائيل"،
يتوقّع أن يستثمر فيها (15) مليار شيكل، والتي تفتت المجتمع الفلسطيني لفئات
وطوائف، عند قولها: "تطبق هذه الخطة على كل مجمعات الوسط العربي، الدرزي
والشركسي، أو على جميع أبناء الأقليات؛ المسلمة، المسيحية، البدوية، الدرزية
والشركسية". كما أن الاستثمار في التعليم سوف يتعلق بفرض تعليم العبرية من
جيل مبكر، ودفع المجتمع العربي للانخراط في "المجتمع الإسرائيلي" وتعزيز
الهوية الإسرائيلية لديه. وبعد إقرار تلك الخطة بنحو أسبوعين أعلن نتنياهو
أن حكومته تشترط الاستثمار في المجتمع العربي بالولاء للدولة اليهودية (ص: 274-276).
3) سياسات
الحيّز: هناك
العديد من الدلائل والمؤشرات التي تؤكد على أن الدولة تصعد في هدم بيوت
الفلسطينيين؛ حيث شهد العام 2014 هدم (1075) مبنى بحجة "غير مرخّص"،
بزيادة (13%) عن العام 2013، مما يعزز في سياسة "تهويد" الحيّز. وتتجلى تلك
السياسات التهويدية في العديد من الأمثلة، منها: سياسة التهويد والإخلاء في المدن
التاريخية الفلسطينية كمدينتي عكا وحيفا (ص: 280)، سياسات الهدم والمصادرة في النقب، كهدم
قريتي العراقيب والرمية، وهدم قرية "أم الحيران" من أجل إقامة قرية
يهودية مكانها، ، ورفض المحكمة الاعتراف بالملكية التاريخية للفلسطينيين على
أراضيهم قبل النكبة (كما جرى مع عائلة العقبي البدوية) (ص: 276-278).
4)
الفقر والعنف في المجتمع
الفلسطيني: إذ
تشير التقارير الحكومية إلى أن أكثر من نصف العائلات الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر،
في حين أن تقرير عدالة يشير إلى أن تلك العائلات تعاني من "عمق الفقر"؛
أي أنها تحت خط الفقر بدرجات أعمق من العائلات اليهودية (ص: 280-281). ومن أبرز الصور للعنف في
المجتمع الفلسطيني "قضايا قتل النساء"، والتي يتبين منها أن الشرطة
وسلطات القانون مقصّرة؛ لأن غالبية الضحايا كنّ قد توجهن إلى الشرطة لتقديم شكوى
مفادها أن حياتهن معرضة للخطر، ولم تقم الشرطة بحمايتهن بالشكل الكافي.
خلاصة
القول،
وإذا ما علمنا بأن تلك المواضيع التي تم مناقشتها في هذه العجالة، تقع في
جوهر المشهدين السياسي والاجتماعي، ومدى انعكاسهما على مشهد "الفلسطينيون في
المجتمع الإسرائيلي"، فإنه يتجلى لنا المشهد العام لهذه الدولة، كدولة مسكونة
بعدد من الآفات والأمراض المزمنة، والمستعصية على العلاج. وإذا ما استشرت هذه
الأمراض أكثر وأكثر، وتزواجت مع فلتان اليمين الذي يمتلك عوامل القوة المفرطة، فإن
المولود "المشوّه" سيشكل خطرًا حقيقيًا ليس على المجتمع الفلسطيني وحسب،
وإنما على البشرية قاطبة.
من جانب آخر، وبالنظر إلى الجزء
المملوء من كأس المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل"، نجد أنه قابض على أرضه
ووطنه وهويته كالقابض على الجمر. إذ أن هناك ما يؤكد على أنه مجتمع حي، بكل
المعايير والمقاييس، وأنه قادر على الصمود والمواجهة، بما يمتلك من أدوات الوعي
لما يجري حوله، والتي عبّر عنها أخيرا من خلال تشكيل "القائمة المشتركة"
في الانتخابات الأخيرة، التي تشير إلى قدرة عالية على إعادة ترتيب البيت
الفلسطيني، بما يؤهلهم لمواجهة عملية "التهويد" التي تكاد مخالبها تخدش
كل شئ. كما أنهم قادرون على بث الوعي الكافي بين أبنائهم، بما يحفظ مجتمعهم من
الآفات الاجتماعية والسلوكية التي تسعى "الدولة" إلى بثّها بين صفوفهم،
كموضوع قتل النساء الموصوف أعلاه.
كما أثبتت الأيام، وفق ما هو
ملموس عبر العقود السبعة الماضية، أن الفلسطينيين أثبتوا قدرة على الصمود وإثبات
الحضور وممارسة مواطنتهم على أرضهم، في تحد واضح لعمليات التهويد، حتى أنهم شكلوا
نماذج حية للانتماء الوطني والقومي، عبر المواجهة المباشرة مع الممارسات العنجهية
التي تقوم بها الدولة، حتى أضحوا مجتمعًا متماسكًا، يشار إليه بالبنان عبر الحضور
الجاد والفاعل في المجتمع (الاسرائيلي)، على المستويات كافة، وتجاوزوا الحدود،
ليصبح نتاجهم الفكري مرجعًا موثوقًا لدى الباحثين وصانعي القرار، على المستويات
الوطنية والعربية والدولية.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 01/04/2016م
إرسال تعليق Blogger Facebook