عبد المنعم القاضي.. باحث مصري:
يهندس الرواية .. فيطلعنا على خبايا السرد الروائي
نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 01/07/2016، ص: 18
عزيز العصا
عبد المنعم زكريا القاضي؛ باحث مصري مهتم بالرواية وأبعادها ومكوناتها وأساليب السرد
الروائي، وله العديد من الدراسات المتخصصة في هذا المجال. وعند البحث في سيرة هذا
الباحث ومسيرته، وجدته يسبر غور الرواية (العربية)، ويخضعها لمعايير وضوابط تجعل
الناقد يتخذ من تلك الدراسات نماذج أو "مساطر" دقيقة في قراءته لأي
رواية تقع بين يديه. وذلك عندما يوفر آراء ورؤى النقاد التي تتفق و/أو تختلف حول
كل جزئية، مهما صغرت أو كبرت، مما يوفر للقارئ المهتم بشأن الرواية متعة حقيقية في
مجال تفاصيل الرواية في الجوانب السردية والخطابية والجمالية وبناء الشخصيات ... إلخ،
كما يوفر للقارئ ما يشبه "المسبار" الذي يمكنه من كشف مواطن الخلل
والارتباك والقلق وعدم التوازن الذي قد يقع فيه الروائي في ثنايا النص.
وأما العمل الذي نحن بصدده لـ "عبد
المنعم القاضي"؛ فهو كتابه "هندسة الرواية: قراءة في بنية السرد الموازي عند
محمد قطب"، الصادر في العام (2016) عن "عين للدراسات والبحوث الإنسانية
والاجتماعية"، والذي يقع في (340) صفحة من القطع الكبير. ويأتي هذا الكتاب بعد
كتابه الأول "البنية السردية في الرواية" الصادر في العام (2009).
يتوزع هذا الكتاب/ الدراسة، والذي هو في الأصل رسالة دكتوراة،
على ثلاثة أبواب، حيث تناول الباب الأول: "بنية الحكاية السردية"، وزعها
على أربعة فصول، شملت بنية الحدث الروائي، والشخصيات الروائية، وبنية المكان
السردي والعلاقات الزمنية. وتناول البابان الثاني والثالث "الخطاب
السردي"، من حيث: مكوناته وأسلوبه، بواقع ثلاثة فصول لكل منهما. وينتهي كل
باب من هذه الأبواب بخلاصة، تعيد للقارئ توازنه من أجل فهم المرامي والأهداف التي
أرادها الكاتب.
قام "عبد المنعم القاضي"
بتوظيف المفاهيم والنظريات والأسس والمعايير المذكورة في تلك الأبواب، في
قراءة وتحليل سبع رواياتٍ من أعمال الروائي المصري "محمد قطب"؛ المولود
في "المنوفية" بمصر عام 1941، والذي عمل معلمًا للغة العربية في مصر والمملكة العربية السعودية،
وبدأ بنشر أعماله الأدبية، في مجال القصة، منذ العام 1968، ثم أصدر روايته الأولى
"الخروج إلى النبع" عام 1985، وروايته الأخيرة من بين الروايات السبع هي
"امرأة عابرة" التي صدرت في العام 2009.
يبرر "عبد المنعم القاضي"
دراسته هذه بأنها تعود إلى الطبيعة الفنية لروايات الروائي "قطب" ولأعماله
ووعياً بثراء تجربته، وتنوع أساليبه، وعمق طرحه،
ورؤيته للعالم، وإلى ما يميّز أعماله على مستويي التشكيل الفني، والمضمون. مما
دفعه إلى دراسة متعمقة؛ تعالج بنية السرد لدى "محمد قطب"، وتقف على
مكونات الخطاب الروائي التي ارتضاها في هندسته لعالمه الروائي.
نظرًا لأن روايات
"محمد قطب" السبع غير متوفرة بين أيدينا، ولأنها ليست جزءًا من زادنا
الثقافي اليومي، فإنه لا يمكننا في هذه العجالة التجول بين ثناياها بسهولة ويسر.
ونظرًا لأن الأبواب الثلاثة، بفصولها العشرة، تتوزع على مدى واسع ومتعدد الأبعاد
والآفاق في مجال الرواية؛ وهو الجنس الأدبي الأكثر
رواجًا في عالمنا المعاصر، فإنني وجدت ضرورة التركيز على الباب الثالث من هذه
الدراسة، الذي يشكل (31%) من حجم الدراسة، والذي وجدت فيه ما هو مشترك مع البابين
الأخريين، كما وجدت فيه ما هو ضروري معرفته والتوقف عنده من قبل الروائيين
الفلسطينيين: القدامى والجدد والمقبلين على الولوج في عالم الرواية.
سنتطرق، فيما يأتي،
إلى مركبات أو مكونات "أسلوب
الخطاب السردي"، التي توزع على ثلاثة فصول، غطى الكاتب من خلالها العوامل
الرئيسية المؤثرة في تشكيل الخطاب السردي، وهي: اللغة وأدواتها، وسيميائية
العنوان، واستلهام التراث.
أولًا: دور اللغة وأدواتها في تشكيل الخطاب السردي:
يتبنى "عبد المنعم القاضي" القول
الذي يرى أن اللغة هي أداة التشكيل التي يقيم بها الكاتب
معماره الروائي، منطلقًا من معجمه اللغوي والثقافي، مضيفًا إليها من خبراته وطاقاته؛
بحيث تصبح دالة عليه، ومفضية إليه. وفي الإشارة إلى دور السارد في الرواية، يؤكد "عبد المنعم القاضي" على
أن "المفردة"؛ وهي أصغر وحدات الوصف، تحقق للنص لذته وتأثيره، مرورًا
بالجملة، وانتهاءً بالتركيب. وبالتالي؛ يجب رصد الكلمة، بوصفها وحدة فريدة وجوهرًا
سحريًا، كما يجب رصد الكلام بوصفه أداة للفكر أو تعبيرًا عنه.
وبين العامية والفصحى في السرد، هناك ما يشير إلى أن المفردة العامية تؤدي
ما لا تؤديه المفردة الفصيحة، ويشير
"عبد المنعم القاضي" إلى
مقولة "أديب عباسي": في العامية بلاغة يجب ألّا تُهمل.
وهناك ما يطلق عليه "السرد
الموازي"؛ وهو مستوى من اللغة يعتصم إليه السارد في نقل الصورة
الحسية التي يعبر عنها، ويحول بينه وبين اللجوء إلى المباشرة، وبخاصة في المواضع
التي يتحدث فيها عن العلاقة الجنسية أو العلاقة المثلية، بأسلوب أنيق وبعبارات
بهيّة، دون "الانزلاق" إلى فجاجة العامية، أو اللغة التي تخدش الحياء،
أو التي يستهجنها المجتمع وينفر منها. ويبقى التحدي الذي يواجهه الكاتب في تقديمه
للسرد بلغة موازية: هل قُدِّمَ بصورة مباشرة فجّة، أم بصورة مستترة شائقة.
ويرى "عبد المنعم القاضي" أن اتكاء الكاتب على اللغة الموازية
يسمح له، وهو يرتاد الغابة الموحشة من المشاهد، أن ينقل وعورة التجربة دون أن يخدش
حياء قارئه. ولا بد من الإشارة إلى أن السارد الحذق يتخذ من "علامات
الترقيم" أداة معينة على البوح والفعل، مثل: (تنتظر،...)؛ تعني طول الانتظار.
من جانب آخر، هناك "لغة الحوار"؛ وهي ثنائية الأنا
والسارد، والتي يرى فيها "عبد المنعم القاضي"
أن الحوار يُظهر المستوى
اللغوي للشخصية بمعزل عن الكاتب، وكلما كُتب لهذه الاستقلالية الوجود كان السرد
أكثر موضوعية، كما أن الحوار يبدو أكثر واقعية حين ينتزعه الكاتب من البيئة نفسها.
كما تتضمن لغة السرد المونولوج
الداخلي؛ وهو "الخطاب غير المسموع وغير المنطوق الذي تعبر به شخصية ما عن
أفكارها الحميمة القريبة من اللاوعي"، كما أن
تقنية المونولوج الداخلي وإيقاعاته المختلفة يمكن السارد من نقل عوالم شخصياته وقد
أحدث قدرًا من المجابهة بينها وبين ذواتها.
ثانيًا: سيميائية العنوان ودورها في تشكيل الخطاب
السردي:
يستحضر "عبد المنعم القاضي" ما
ورد في "معجم مصطلحات نقد الرواية" لمؤلفه "لطيف زيتون"[1]،
بأن العنوان "هو الاسم الذي يميّز الكتاب بين
الكتب، كما يتميّز الإنسان باسمه بين الناس"،
وللعنوان أهمية سيميائية بارزة؛ فهو يشكل علامة إجرائية ناجحة في مقاربة النص بغية
استقرائه وتأويله.
والسيميائية هي ما يعتني بكل ما يمكن اعتباره: "إشارة"، وتتضمن
ليس فقط ما نسميه في الخطاب اليوم "إشارات"، ولكن أيضا كل ما "ينوب
عن" شيء آخر[2]، ونتعلم
من السيمياء أننا نعيش في عالم من الإشارات، وأنه لا يمكننا فهم أي شيء إلّا بواسطة الإشارات
والشيفرات التي تنظّمها، وهي عادة شفافة وتخفي أننا نقوم بقراءتها[3].
هناك مجموعة ضوابط يجب أن يتصف بها العنوان، منها:
-
ضرورة
أن يكون موجزًا ومكثفًا.
-
ضرورة
انسجامه مع النص، أو مع مضمونه. وأن يكون جسرًا مشتركًا بين المرسل والمستقبل؛
تعبر من خلاله الدلالات التي تشي بمضمون السرد[4].
لأن المستقبل يدخل إلى "العمل" من بوابة العنوان متأوّلًا له، وموظفًا
خلفيته المعرفية في استنطاقه.
تنصبّ دراسة العنوان على قيمته (الصوتية والدلالية
والتصويرية)، وعلى علاقاته بالقارئ. وتنحصر وظائفه فيما يأتي[5]:
الوظيفة الأولى: تعيينية؛ تعطي الكتاب اسمًا يميزه بين الكتب.
الوظيفة الثانية: وصفية؛ تتعلق بمضمون الكتاب أو بنوعه،
أو ترتبط بالمضمون ارتباطًا غامضًا.
الوظيفة الثالثة: تضمينية؛ تتعلق بالطريقة أو الأسلوب
الذي يعيّن العنوان به الكتاب.
الوظيفة الرابعة: إغرائية؛ تسعى إلى إغراء القارئ
باقتناء الكتاب أو بقراءته.
كما تأتي أهمية العناوين الداخلية، في أنها ذات وظيفة وصفية؛ فهي أجوبة مؤجلة
لسؤال كينونة العنوان الرئيسي؛ لتحقق بذلك العلاقة التواصلية بين العناوين
(الداخلية والرئيسية) والنص بنية محتملة لفهمه.
وأما الغلاف فله سيميائية مهمة في تشويق القارئ للدخول في (مغامرة)
القراءة، وتعطيه وعدا مشوقًا ينتظره من خلال ما تحتويه الصورة من إشارة سيميائية،
تختزل الكثير من المضامين الثاوية في الحكاية، والتي تلهب خيال القارئ وتغريه
باقتناء العمل[6]. وتأخذ
صورة الغلاف، شأنها شأن العنوان، جانبًا كبيرًا من العناية، وفيها يتآزر اللون مع
الكلمة في تشكيل الرسالة التي يسعى المبدع إلى نقلها.
ثالثًا: استلهام التراث ودوره في تشكيل الخطاب
السردي:
يعد التراث وسيلة
لاستعادة حضارتنا، وهو مادة نابضة بالحياة، تتسم بالديناميكية والنشاط، وتتأثر بغيرها وتؤثر
فيه، وقد كان لحكايات ألف ليلة وليلة، والتعمق في البيئة المحلية كبير الأثر في
اتجاه كتّاب الرواية إلى توظيف تراثهم، كما أن هناك توظيفًا للنص الديني، مما قد
يسبغ على الشخصيات قدرًا من الثقافة الدينية، للزيادة من رصيدها في مجتمع الرواية،
أو كوسيلة للإقناع، أو للتعلق بأهداب الفضيلة.
إلى جانب ذلك، يمكن
للروائي استحضار صورة الحيوان؛ كمادة للتشبيه وتقريب سلوك الشخصية الروائية
للذهن؛ مسقطًا من صفات الحيوان على شخصياته، أو وضعها صورة يُقاس عليها. كما يمكن
توظيفها لتقديم واقع موازٍ ترزح تحت وطأته
الشخصيات الروائية، وتعاني معاناته، وصولاً إلى جعل صورة الحيوان مادة حية تفرض
ظلالها على واقع الشخصية النفسي، وتلهب الذهن وتثيره نحوها.
كما أن هناك أهمية
قصوى لتوظيف البيئة الشعبية التراثية في الأعمال الروائية، كالألعاب
الشعبية؛ التي تمكن الشخصية الروائية من تسرية الوقت، والتغلب على ندرة وسائل
الترفيه، مثل: السيجة، والكوتشينة، وطاق طاق طاقية، ونط الحبل... إلخ.
وأما المعتقدات
التراثية للمكان، فلا تختلف من بيئة إلى أخرى، بل تبقى مسيطرة على الإنسان،
وإن تغيرت الأماكن واختلفت؛ والكاتب لا يقدم تلك العادات بمعزل عن بعضها، بل
يقدمها في جو من الصور التراثية؛ كالبخور ودوره في حماية المكان من الجن.
وكذلك العادات
التي تكون قد انغرست في نفوس مجتمع الرواية، بالشكل الذي يصعب على أفراد المجتمع
التخلي عنها أو التخلص منها؛ وهي التي تسكن الذهنية الشعبية، فيتوصلون من خلالها
لحل بعض الإشكاليات، والتغلب على كثير من العقبات، ويتمكن الإنسان الشعبي، من
خلالها، من فرض هيمنته على المكان. ولا تبتعد الخرافة عن العادة؛ فهي تصبح
أقرب إلى الواقع منها إلى الفنتازيا أو الخيال، كتلك الخرافة التي تقول بضرورة
تقديم قربانٍ ما للعثور على كنز أو لشفاء مريض أو غير ذلك.
خلاصة القول،
هذا هو كتاب
"هندسة الرواية"، الذي يحمل في ثناياه خصائص وسمات وجماليات السرد
الروائي من كل أطرافه؛ فلم يترك الكاتب الدكتور "عبد المنعم القاضي" "طرزة" في نسيج السرد الروائي، إلا وتوقف عندها
بالبحث والتعريف والتوصيف، لكي يضعها في مكانها الصحيح، ثم يسقطها على روايات
"محمد قطب" التي درس فيها بنية السرد الموازي في تلك الروايات. وقد كان
لهذا فائدة مزدوجة: فهو قد وضع القارئ المتخصص في مجال الأدب، والنقد على وجه
الخصوص، في صورة النظريات والخلفيات التي تؤسس لفهم السرد الروائي من جوانبه كافة،
ومن الجانب الآخر، يجد للقارئ المتعة، في أوجها، عندما يطالع الأمثلة الحيّة من
خلال "النصوص" التي اقتبسها "عبد المنعم القاضي" للدلالة على المفاهيم
التي وظفها كمجساتٍ لسبر غور الروايات قيد الدراسة.
وعليه؛ فإن هناك ضرورة لإحضار دراسات "عبد
المنعم القاضي" وكتبه؛ لكي يتم توفيرها للروائيين والنقاد في
المكتبة الفلسطينية، كما أن هناك ضرورة لإحضار روايات الروائي المصري "محمد
قطب"؛ لتوفير الفرص للقارئ الفلسطيني على الثروة الفكرية والفنية والجمالية التي تزخر بها تلك الروايات.
وأما اختيار الفصل الأخير في هذا الكتاب (أسلوب الخطاب السردي)،
بإخضاعه للقراءة والتحليل والاقتباس، فقد جاء "أيضًا" بفائدة متعددة
الأبعاد، والتي تتمثل في أنه يعتبر مترابطًا مع سابقه؛ وهو بعنوان "مكونات الخطاب السردي"، كما
أنه العنوان الذي ارتأيت فيه، من خلال تجربتي النقدية على الساحة الفلسطينية،
الحاجة الأكثر ضرورة بأن يتم التثقيف والتوعية حولها، بخاصة لجيل الشباب الذين
يتدافعون ويحثون الخطى من أجل كتابة الرواية، كما أن فيه تذكير للروائيين السائرين
على الطريق، من أجل مراجعة أعمالهم السابقة، أو إعادة النظر في أساليب الخطاب
السردي لرواياتهم القادمة.
لقد أمضيت بضعة أيام في مطالعة هذا الكتاب، المشبع بالفكر
الروائي، وما يتطلبه السرد الروائي، بمكوناته المختلفة، من أدوات، وآليات سرد
قادرة على توظيف اللغة والبيئة الشعبية المشبعة بالعادات والتقاليد، وحتى الخرافات
والإشاعات، في الوصول إلى الهدف الذي يسعى الروائي إلى تحقيقه في مجتمعه، من رفعة
وتقدم وتطور، أو ما قد يسعى إليه من تشخيص الواقع، وتبيان علله ومثالبه على
المستويات المختلفة، من أجل هزّ الثوابت والرواسب المتأصلة في حياة الناس، والتي
تشكل خطرًا حقيقيًا، لا بد من التوقف أمامه بعمق.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 06/02/2016م
[2] تشاندلِر، دانيال (2008). أسس السيميائية. ترجمة
طلال وهبة؛ مراجعة ميشال زكريا. المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة
العربية. بيروت. لبنان. ص: 28.
[3] تشاندلِر، دانيال (2008). أسس السيميائية. ترجمة
طلال وهبة؛ مراجعة ميشال زكريا. المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة
العربية. بيروت. لبنان. ص: 43.
إرسال تعليق Blogger Facebook