كتاب "الوقف الإسلامي بين
النظرية والتطبيق"..
يحتضن مائة مبحث.. يؤصّل للمفاهيم الوقفية.. ويؤسس لموسوعة وقفية
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ:
21/07/2016م، ص: 22
عزيز
العصا
قبل ثلاث سنوات من الآن تلقيت إهداءً ثمينًا من الشيخ "د. عكرمة سعيد صبري"؛ وهو كتابه "الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق"، والذي هو بالأصل رسالة الدكتوراه
للشيخ د. عكرمة، التي أنجزها في العام (2001). وقد صدر هذا الكتاب، بطبعته الثانية،
عن "دار النفائس للنشر والتوزيع" للعام 2011, ويقع
في (623) صفحة من القطع الكبير. كنت أقلب صفحاته كلما احتجت أمرًا في مجال الوقف.
عندما وجهت لي الدعوة من نادي الموظفين بالقدس لتقديم محاضرة حول الكتاب،
وجدتُني أمام مسؤولية عن محتوى هذا الكتاب، تتطلب مني القراءة وإعادة القراءة؛ بل
الغوص في أعماقه لالتقاط ما يكمن فيه من لآلئ الفقه الوقفي الذي يؤصّل للوقف وما
فيه من مصطلحات ومفاهيم ورؤى يتحاور حولها أصحاب الرأي والمشورة من فقهاء الأمة
وعلمائها. فوجدته ناقش الوقف الإسلامي في قسمين رئيسيين: القسم الأول: الوقف
الإسلامي من الناحية النظرية، والقسم الثاني: الوقف الإسلامي من ناحية التطبيق. شكل
القسم الأول (النظري) نحو ثلاثة أرباعه، والربع المتبقي للقسم الثاني (التطبيقي).
وبالاطلاع على الكتاب، وإجراء قراءة تحليلية له وجدتُني أمام
"تأصيل" عقدي وفقهي وشرعي ومفاهيمي لكل ما ورد من مصطلحات تتعلق بالوقف:
لغة واصطلاحًا ومعنى إجرائيًا وتطبيقيًا على الأرض، وما يصاحب ذلك من خلاف واختلاف
بين الفقهاء واللغويين وأصحاب الفكر من علماء الأمة. كما استعرض "الشيخ
عكرمة"، بلا كلل أو ملل، آراء المذاهب الفقهية الأربعة، في كل شأن اتفقوا فيه أو اختلفوا
حوله. وينهي الحوار بأن يرجح رأيه الشخصي كباحث؛ وفقًا للحجة الأقوى بين الحجج
المطروحة.
وعند الغوص في ثنايا النصوص، وجدت أن القسم النظري بتلك المنهجية البحثية
الرصينة قد توزّع على ستة أبواب، انقسم كل باب منها إلى فصول، وكل فصل يتألف من
عدة مباحث، وكل مبحث من عدة مطالب. وفي كل منها تحرّى "الشيخ
عكرمة" الدقة في البحث والمتابعة حتى الوصول إلى الترجيح الذي كان عبارة عن
اتّكاء الباحث على الحقائق العلمية الرصينة المستندة إلى كتاب الله عز وجل، وما
ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ القولية والفعلية، والقياس الذي انتهجه
العلماء كمنهج بحثي يشكل إضاءة للمظلم من الطريق، نحو بناء "وقف" قادر
على أن يأخذ دوره في نهضة الأمة وتعزيز قدرتها على إدارة شأنها الاقتصادي والعلمي
والعسكري... الخ.
وعلى هذا المنوال تألف القسم الأول من ستة أبواب شملت ستة عشر فصلًا،
وثلاثة وخمسون مبحثًا، وما تبع ذلك من تفاصيل توزعت على (82) مطلبًا. وأـما القسم
الثاني، فتألف من بابين فقط، توزعا على خمسة عشر فصلًا، وما فيهما من أربعة
وأربعين مبحثًا، تخلو من المطالب الفرعية.
بقراءة متمعنة لهذا الكتاب، ولكي تعم الفائدة التثقيفية-التوعوية، وبعيدًا
عن النصوص الفقهية والعلمية ذات المستوى المتقدم من التخصصية، أردت أن أوزع الكتاب
قيد النقاش لمؤلفه "الشيخ عكرمة صبري" على المجالات الرئيسية التالية، راجيًا المولى عز وجل أن
أكون قد وفقت في إيصال الرسالة التي أردتها للقارئ العزيز:
أولًا: الوقف سبق الإسلام.. الرسول صلى الله
عليه وسلم أول من أوْقف.. وأهل الإسلام حبسوا تقربًا إلى الله سبحانه
يشير "الشيخ عكرمة"
إلى أن "مضمون الوقف موجود
لدى الأمم والشعوب قديما وحديثا مع
اختلاف في المسميات؛ وذلك لأن المعابد
وأماكن العبادة كانت قائمة مع قدم الانسان، وكان يُرصد لها أماكن وعقارات واراض
ينفق من غلاتها على احتياجات هذه الأماكن (ص: 14). وأنه كانت لسيدنا ابراهيم
الخليل عليه السلام أوقاف معروفة باسمه، ولا تزال موجودة ومعروفة حتى هذا
اليوم، وذلك في مكة المكرمة وفي مدينة
خليل الرحمن بفلسطين. وأن اول ما عرف لدى العرب من ذلك قبل الإسلام (الكعبة
المشرفة)، التي أصبحت مصلى عاما لهم على اختلاف قبائلهم يحجون إليه كل عام, ثم جعلوه مقرا لأصنامهم بعد
أن اعتقد العرب بأن الأصنام تقربهم الى الله
زلفى (ص: 15).
كما يشير "الشيخ عكرمة"
إلى أنه كان هناك أحباس
في الجاهلية، ولكنها موضوعة لغرض الفخر
والمباهاة، وعندما جاء الإسلام أصبحت أحباس المسلمين تقربا لله وتبررًا (ص: 15). واتفق الفقهاء على أن الوقف نوع من أنواع
الصدقات التي حث الشارع على فعلها، ويُتقرب بها إلى الله عز وجل وذلك لإنفاق ريع
الوقف في وجوه البر والخير (ص:
17). ويسوق عددا
من الأدلة
على مشروعية الوقف في الإسلام، وقد قسمها إلى:
1)
الأدلة العامة وغير
الصريحة, كما وردت في كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم (ص: 44).
2)
الأدلة الخاصة الصريحة التي تنص على أن الوقف من السنة النبوية
(ص: 48)، والإجماع؛
حيث أجمعت الأمة الإسلامية من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا
هذا على مشروعية الوقف, ونفذته عمليا؛ بوقف العقارات والأراضي والآبار, وبوقف
الأموال غير المنقولة, كالأسلحة والكتب والمخطوطات... الخ، ولا يزال المسلمون يتقربون إلى الله عز وجل بإقامة المساجد
والمدارس ودور القران الكريم ودور الحديث الشريف ودور الأيتام
والمستشفيات والعيادات الطبية وغيرها، وأن
وزارات الأوقاف والأحباس في العالم الإسلامي تؤدي رسالتها السامية في حماية الوقف
وتنميته, وذلك للدلالة على ديمومة الوقف واستمراريته, وأنه قائم منذ نشأته على
التبرع والتطوع حسبة لله عز وجل (ص: 55-56).
ثانيًا: لمشروعية الوقف حكمة.. علينا أن
ندركها!
يعتمد "الشيخ عكرمة"
الحقيقة القائلة بأن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام، هي: الضرورات
(ويقصد بها حفظ الدين والعقل والنفس والنسل، والعرض)، والحاجات (كالطلاق،
والمساقاة والمزارعة، وصلاة المريض بلا قيام وغير ذلك)، والتحسينات (ويقصد بها
التزيينات والكماليات والتكميلات، والتقرب إلى الله بالصدقات). وقد جاء تصنيف
الوقف في قسم التحسينات باعتباره نوع من أنواع الصدقات. ويشير "الشيخ عكرمة"
إلى أن السنة العملية وتطبيقات الصحابة رضوان الله عليهم لتؤكد شرعية الوقف، وتوضح
أهدافه العامة والخاصة (ص:
78-81). أما الأهداف العامة للوقف والتي تبين الحكمة من مشروعيته، فهي (ص: 81-86):
1)
النواحي الدينية: بخاصة المساجد وما
تحتاجه من وقفيات مكرسة للصرف عليها وضمان استمرارها كأماكن يتقرب فيها المسلمون
إلى الله سبحانه بالصلاة والعبادة.
2)
النواحي التعليمية والثقافية: كالمدارس
ودور القرآن وغيرها.
3)
النواحي الاجتماعية: كمساعدة الفقراء
والمساكين، ورعاية الأيتام.
4)
النواحي الصحية: كالمستشفيات
والمراكز الصحية والصيدليات.
5)
النواحي العسكرية والجهاد: ويقصد بها الوقفيات
المخصصة لتغطية نفقات المجاهدين ولشراء الأسلحة والعتاد ومفاداة الأسرى.
6)
الوقف الخيري لإطعام الطيور
والحيوانات:
كأن يتم توفير الطعام للحمام (كحمام مكة) والخيول والحيوانات المستخدمة في الجهاد.
ويستثنى من ذلك الحيوانات السائبة أو الطليقة أو السمك والحيوانات البحرية؛ لأنه
لا يُعلم هل يصل الطعام لها أم لا.
وأما الأهداف الخاصة للوقف، أو
الدوافع
الخاصة للواقف، فتتلخص بأنها:
1) الهدف
الديني الأصل في الوقف:
وذلك بدافع الرغبة في الحصول على الثواب والتقرب إلى الله سبحانه، أو التكفير عن
ذنب اقترفه.
2) الهدف
الاجتماعي: عندما تتولد في الواقف الرغبة في خدمة
أكبر عدد من الناس.
3) الهدف
العائلي:
حيث يوقف الواقف عقاره أو أرضه على ذريته أو أقاربه وعائلته؛ ضمانًا لمستقبلهم
وحماية لهم من الفقر والعوز.
4) الهدف
الكيدي:
ويكون ذلك بأن يقوم الواقف بوقف ممتلكاته لكي لا يستفيد منها العصبة من أقاربه،
كأن يتحايل على الوقف بالإيقاف على إحدى زوجاته وحرمان الآخرين.
ثالثًا: أنواع الوقف تطورت عبر العصور
يخبرنا "الشيخ عكرمة" أنه في العصر الأموي كان هناك
وقفان، هما: الوقف الخيري والوقف الذري، وفي العصر المملوكي أضيف وقف ثالث بإسم
"الإرصاد"، ثم وقف "الإعشار" في العصر العثماني (ص: 89-90). وانبرى الكاتب
إلى تلك الأنواع الأربعة من الوقف بأن خصص لكل منها فصل بأكمله، اشتمل على التعريف،
والمناقشة للآراء المختلفة، وتبيان الاختلافات حولها وترجيح آراء دون أخرى، حتى
أنه يمكننا التوصل إلى أبرز النتائج التالية:
§
الوقفان الخيري والذري: اعتمد "الشيخ عكرمة" التعريف الأدق والأشمل للوقف
الخيري، وهو: "حبس العين عن أن تُملك لأحد من العباد، والتصديق بمنفعتها
ابتداءً وانتهاءً على جهة برّ لا تنقطع. ويُطلق على الوقف "الخيري"
أو "العام" هذا الإسم لأنه مرصود للخير والبر ابتداءً وانتهاءً الذي
تنتفع به شرائح عامة للمجتمع. وخرج من ذلك الوقف "الذرّي"، الذي
بدايته للأقارب والذرية، وانتهاؤه إلى جهة بر وخير لا تنقطع(ص: 91-93).
لكلا
الوقفين، تتبع الكاتب الأدلة على المشروعية من كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه
وسلّم ، معتمدًا تقسيم الوقف الخيري إلى قسمين: الوقف الديني المحض كالمساجد، والوقف
الديني الدنيوي الذي لا يشمل المساجد، ويقصد به أشكال الوقف الأخرى كالمدارس ودور
الأيتام والتكايا والمشافي... الخ (ص: 94-102). ولم يغادر الكاتب هذا الفصل قبل أن يعرّج على
المحاولات التي بذلت من أجل إلغاء الوقف الذري وانتزاعها من الناس، كما تم من قبل
الظاهر بيبرس في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي وسيف الدين برقوق في أواخر القرن
الرابع عشر، وحاكم مصر إبراهيم باشا في القرن التاسع عشر. وفي كل مرة كان العلماء
والفقهاء يتصدون لتلك المحاولات ويبطلونها. واستمرت تلك المحاولات حتى أواسط القرن
العشرين، حيث نجحت في إلغائها في كل من: سوريا والعراق (ص: 113-123).
§
وقف الإرصاد: يطلق على
"الإرصاد": الإفراز من أفرز الشيء إذا عزله وميّزه، فكأنه أفرزها عن
ملكه. وأما تعريفه، فهو: حبس شيء من بيت مال المسلمين بأمر من الحاكم ليصرف ريعه
على مصلحة من المصالح العامة كمدرسة أو مشفى أو على مستحقيه، وقد نشأ هذا النوع من
الوقف في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، وثار في حينه حوله الجدل في مدى صحته،
بخاصة بين الحنفية الشافعية والحنابلة؛ لأن الحاكم ليس هو المالك الحقيقي لِما
أوْقف (ص: 124-129).
§
وقف الإعشار: وهو ما يوقف من
زكاة الأرض التي أسلم عليها أهلها، أو الأرض التي أحياها المسلمون بالماء والنبات،
ويؤخذ "عشر" ريعها (ص:
130). ويعتقد "الشيخ عكرمة" أن هذا النوع من
الوقف قد نشأ في الدولة العثمانية منذ العام 1840م، وإبّان الانتداب البريطاني
أنشيء المجلس الإسلامي الأعلى الذي وافق على أن تقوم الحكومة (الانتداب) بجباية
أوقاف (الأعشار) بالنيابة عن الأوقاف لقاء أجرة تحصيل. ثم اتفق على أن تدفع حكومة
الانتداب للأوقاف مبلغًا سنويُا مقطوعًا يتفق عليه بدل الأعشار، كان يُدفع على
فترتين: أعشار شتوي وأعشار صيفي. وبعد النكبة توقف دفع الأعشار، وأهمل موضوع
الأوقاف العشرية (ص: 132-135).
رابعًا: للوقف أركان وشروط مستنبطة من
العقيدة
هناك من الفقهاء من يرى أنه للوقف أربعة أركان: الصيغة، الواقف، الموقوف
والموقوف عليه. علمًا بأن الكاتب يرجح رأيًا آخر يرى بأن للوقف ركن واحد هو
"الصيغة"، ويقصد بها ألفاظ الوقف، التي تعتبر الركن الشرعي للوقف، وأن
الأركان الأخرى المذكورة هي من لوازم "الصيغة" (ص: 140).
وقد خصص "الشيخ عكرمة" فصلًا لأركان الوقف ضم ثلاثة
مباحث، ناقش فيه عددًا من القضايا ذات الصلة كانعقاد الوقف؛ بالألفاظ والأفعال
وإنشاء الوقف على الجهات العامة والخاصة، وآثار انعقاد الوقف وينتهي الفصل بآراء
الفقهاء في "ملكية الموقوفات"، حيث يرجح "الشيخ
عكرمة"
الرأي القائل بأن العين الموقوفة تنتقل إلى حكم الله عز وجل (ص: 170).
كما خصص فصلًا آخر لـ
"شروط أركان الوقف"؛ أوضح فيه شروط الصيغة، وهي: الجزم وعدم التردد بلا
تسويف (ص: 171)،
والإنجاز بعدم التعليق على أمر آخر كأن يقول إذا حضر أخي من السفر سوف أوقف قطع
أرض (ص: 174)،
والتأبيد في الصيغة (هناك من الفقهاء من أجاز التوقيت) (ص: 177)، والتصريح بالمصرف؛ بأن تكون جهة
الصرف في الوقف معلومة (وهناك من الفقهاء من لم يشترط ذلك) (ص: 181)، مع عدم اقتران
الصيغة بشرط ينافي مقتضى الوقف، حيث يؤخذ بشرط الواقف ما دام جائزًا، فإن كان غير
جائزٍ فإنه باطل والوقف صحيح (ص:
190).
ويرى "الشيخ عكرمة" أن الوقف هو الأصل، وينبغي أن
يبقى قائمًا جاريًا، وأن الشروط هي أمور عرضية؛ فما ناسب منها اُخذ والتُزِم به،
وما سوى ذلك رُدّ ولم يُعمل به، وأن يتولى القاض تمحيص الشروط من الناحية الشرعية،
وبيده بت الأمور (ص: 195).
أما بالنسبة لشروط
الواقف، فيتضح أنها: 1) العقل كشرط لصحة الوقف وانعقاده (ص: 205). 2) البلوغ الذي يتحقق بأحد أمرين:
الطبيعي (كخروج المني من موضعه) أو التقديري باللجوء إلى تقدير سنّ الواقف إذا لم
تظهر عليه/ا علامات البلوغ. 3) أن لا يكون محجورًا عليه بسبب السفه أو الغفلة. 4)
أن لا يكون مدينًا في حال الصحة. 5) أن لا يكون مسلوب الإرادة. 6) أن يكون غير
مريض مرض الموت. وأما شروط العين الموقوفة، فهي (ص: 223):
1)
أن يكون مالا متقوما.
2)
أن يكون ملكا للواقف.
3)
أن يكون مالا ثابتا
غير منقول.
4)
أن يكون مفرزا غير مشاع في المسجد أو المقبرة.
5)
ان يكون معلوما حين الوقف.
وأخيرًا،
يناقش الكاتب شروط الموقوف عليه، والتي حصرها في أربعة شروط، هي (ص: 2237):
1)
أن يمثل الموقوف عليه جهة بر أو قربة.
2)
أن تكون الجهة الموقوف عليها مستمرة غير منقطعة.
3)
أن لا يعود الوقف على الواقف.
4)
أن يكون على جهة يصح ملكها أو التملك لها.
خامسًا: التصرفات المشروعة التي تجري على
الوقف
ناقش "الشيخ عكرمة" في كتابه هذا أمرين يتعلقان بالتصرفات
المشروعة التي تجري على الوقف، وهما: الإبدال والإجارة، حيث خصص لهما باباً كاملًا
وزعه على فصلين شملا عشرة مباحث، ثم خلالها استعراض الآراء الفقهية والسجالات بين
علماء الأمة حول هذين الأمرين، ما يعني أهميتهما لدى القائمين على شأن فقه الوقف.
سادسًا: الوقف أمانة في عنق الأمة.. فمن
يتولاه ومن يدافع عنه؟
ناقش "الشيخ عكرمة" على مدى نحو سبعين صفحة كيفية
تولي الوقف والإشراف عليه وتسيير أموره. وقد عرّف صفة الولاية على الوقف: حق قدر شرعا على كل
عين موقوفة, متول أو ناظر يدير شؤونه,
ويحفظ أعيانه, وذلك بعمارتها وصيانتها
وتنميتها واستثمارها على الوجه
المشروع, وصرف غلته وناتجه من أجرة أو
زرع أو ثمر على مستحقي الوقف حسب
شروط الواقف المعتبرة شرعا (ص: 308).
وأما بشأن الحكمة من
الولاية للوقف، فإنها تقوم على ضرورة وجود جهة ترعى الوقف وتتولاه وتحافظ عليه
وتنميه وتستثمره. ولا يتأتى ذلك إلا بولاية صالحة
تحفظ الأعيان بأمانة وصدق, وتوصل الحقوق والكفاءة والخبرة, وليس من
النظر توليته الخائن والعاجز. وأما من
يقولون بأن الموقوف لا يخرج من يد مالكه فلا بد من أن يقوم الواقف برعاية الوقف
وتوليته أو من يفوض للقيام مقامه, فعلى كلا الحالتين فان الواقف بحاجة إلى تولية.
ولا يستطيع الوقف أن يؤدي رسالته إلا من خلال الولاية.
وفي هذا المجال نجد
أن الكاتب يخصص بابين، توزعا على خمسة فصول وسبعة عشر بحثًا، ناقش فيهما تفاصيل
الولاية على الوقف؛ في حياة الواقف وبعد وفاته، وصلاحيات الناظر؛ ما يجوز له وما
لا يجوز من أعمال وتصرفات، وكيفية محاسبته وعزله.
ثم ينحى الكاتب
المنحى التخصصي في مجال اللجوء إلى القضاء للمحافظة على أعيان الوقف وحقوق
المستحقين؛ لأن الوقف يُعتدى عليه و/أو يُطمع فيه (ص: 371). ويذكرنا "الشيخ عكرمة" بأن الرسول صلى الله عليه وسلّم
هو أول قاضٍ وأوّل مفتٍ في الإسلام، وكان يحرص على تدريب الصحابة عليهم السلام (ص: 376). كما يذكرنا بأنه من
صفات القاضي، كما كان عليه الحال في العهد الأموي بأن يجتهد القاضي، دون التقيد
بمذهب معين، وبعيد كل البعد عن التأثر السياسي (ص: 378). ويشير الكاتب إلى أن المتولي على الوقف هو
الخصم في الدعاوى المتعلقة بالوقف، علمًا بأن المتولي نفسه قد يكون مدّعى عليه من
قبل مدّعٍ آخر (ص: 424-425).
سابعًا: ويبقى الخير في الأمة..!
كأني بـ "الشيخ عكرمة" يريد القول بأن الخير باقٍ في
الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فبعد أن "أصّل" للمصطلحات
والمفاهيم الوقفية، خصص ما يقارب ربع محتوى كتابه هذا لنماذج من الوقفيات، كأمثلة
حية وعملية على ما ورد في القسم النظري، مبينًا أوجه الإنفاق من الوقف وقد اختار
أوجه الإنفاق التالية: المساجد وزوايا التصوف، والمدارس، والمكتبات، والآبار، والسبُل،
والحمامات، والمستشفيات، ورعاية الأيتام، ومساعدة الفقراء والمساكين. ثم تناول عشر
وقفيات، تقع في فلسطين، بالدراسة والتحليل، مبينًا كيفية توثيق الوقفية، مع اختيار
فقرات منها، والوقوفات في كل وقفية، والتعرف على الأهداف العامة والخاصة للوقفية.
ثامنًا: في خاتمة الكتاب خلاصة تجربة بحثية
معمقة
لم يغادر "الشيخ عكرمة" قبل أن يختم كتابه
بعدد من القضايا التي يرى بضرورة التذكير بها والإشارة إليها، فيشير إلى أن ما
انتاب المؤسسة الوقفية من تقصير وإهمال مرده إلى القائمين عليها، من النظار
والمتولين والمسؤولين في وزارات الأوقاف والمحاكم الشرعية في العالم الإسلامي. كما
يشير إلى الحملة التحريضية التي أدت إلى إلغاء الوقف الذري في بعض الدول العربية،
وأن هناك تهمًا تحريضية، ما أنزل الله بها من سلطان، بهدف رسم صورة قاتمة حول
الوقف. ويرد على ذلك كله بطرح خطة تنموية، وإن كانت غير كاملة، إلا أنها تتلخص في
استصلاح الأراضي الوقفية، واستثمار الأموال الوقفية بالطرق المشروعة بهدف تنميتها،
وإقامة مشاريع اجتماعية لمساعدة الأسر المحتاجة والمستورة تشغيلها في الإنماء
والإنتاج.
ولنا كلمة،
وأنا أتفق مع "الشيخ عكرمة" فيما ذهب إليه من أطروحات
تهدف إلى توظيف الوقف والوقفيات والأموال والعقارات الوقفية في خدمة الاقتصاد
الوطني للبلد صاحبة الوقف، وبالتالي في خدمة الأمة قاطبة، فإنني أزيد على ذلك
بضرورة وضع خطة استراتيجية تقوم على إعادة الروح للوقفيات ونفض غبار الإحباط
والتقولات المغرضة عن كاهلها، وجعلها في الخط الأمامي لجبهة محاربة الفقر والفاقة
والعوز التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية في أقطار العالم الإسلامي المختلفة،
حتى تلك الغنية منها. وعلينا أن ندرك أهمية تلك الوقفيات ودورها في تحقيق نهضة
تنموية شاملة، تترك أثرها الفاعل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية
والتعليمية والتثقيفية والتوعوية... الخ.
وأما في فلسطين، فلا
بد من العلم بأن نحو 16% منها وقف خيري، علمًا بأن هناك مدنًا بأكملها، أو في
الغالبية منها، وقف خيري كالبلدة القديمة من القدس وخليل الرحمن وعكا ويافا
وغيرها، مما يبرز حجم المسؤولية الملقاة على عاتق صانع القرار في الشأن الوقفي في
فلسطين، عندما يهم في توظيف الوقف لصالح التنمية الاقصادية والاجتماعية الشاملتين
للشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت نير الاحتلال. هذا الاحتلال الذي يهدف، في جميع
خططه المؤقتة والدائمة، إلى جعلنا في الحديقة الخلفية لاقتصاده؛ ممنوع علينا
التنمية والتطوير أو التطور. كما أن التحرك الجاد والفاعل من أجل الحصول على
الوقفيات وانتزاعها من بين أنياب الاحتلال سوف يكشف عن حجم الكارثة التي مورست بحق
الأوقاف الفلسطينية، ولا تزال تمارس منذ النكبة حتى تاريخه.
قبل أن نغادر،
وبالاطلاع على هذا الكتاب القيّم وجدتنُني أمام تأسيس لما يمكن تسميته الموسوعة
الوقفية. فقد تمكن "الشيخ عكرمة" من توفير التأصيل النظري
والمفاهيمي الفقهي والعقدي والعلمي لكل ما يتعلق بالأوقاف والوقفيات، للحد الذي
يمكن القول معه بأنه قد قطع شوطًا كبيرًا في الموسوعة النظرية للوقف.
ويحدوني ذلك إلى أن
أتقدم بمقترح يقوم على ضرورة الشروع بالتخطيط لإنشاء موسوعة وقفية، تستكمل القسم
النظري، ثم تنطلق إلى القسم التطبيقي الذي يجب أن يضم مئات الآلاف من الوقفيات
المنتشرة في الأقطار الإسلامية التي أشار إليها "الشيخ عكرمة" (ص: 81).
أو أن يتم صياغة هذه الموسوعة على المستوى الفلسطيني، بما يسهم في الرواية
الوطنية في مواجهة السرقة والنهب والمحو الحضاري والعمراني والثقافي والهوياتي
الذي يتعرض له شعبنا منذ سبعة عقود من الزمن.
أخيرًا، أتقدم من
الباحث "الشيخ عكرمة" بجزيل الشكر والتقدير
على ما قدمه للأجيال من معلومات وبيانات وبيّنات تضيء لها الطريق نحو النهوض
بالوقف وتوظيفه في خدمة النهضة والتطور الذي نطمح له.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 10/07/2016م
إرسال تعليق Blogger Facebook