مولد النبي محمد "صلى الله عليه وسلم":
-مولد الاستقرار المجتمعي والعدالة الاقتصادية-
نشر
في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 131، كانون الأول وكانون
الثاني/ 2016-2017، ص ص: 24-30
عزيز العصا
مقدمة
ورد ذكر محمد
صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم أربع مرّات، في أربع آيات، وفي أربع سور. وإن
قراءة متمعنة لتلك الآيات الكريمة تشير إلى أن مولده صلى الله عليه وسلّم، وإعلان
النبوّة والرسالة التي جاء بها، هو مولد أمة بالفعل؛ إذ يقول تعالى: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ" (الفتح: 29).
الأمر الذي يعني أن لمحمد صلى الله عليه وسلّم، ومن معه، سمات وخصائص يسمون
بها على بني البشر، فيحققون تغييرات جذرية في مجتمعات الظلم والكفر والجحود. كما
أن الحقبة المحمدية هي مرحلة حاسمة في حياة بني البشر قاطبة، أفراد وجماعات، فيقول
تعالى فيمن عاصروه صلى الله عليه وسلّم وعايشوه: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا
نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ"
(محمد: 2)؛ أي أن هناك ملفات جديدة ناصعة تم فتحها لكل من انتقل من عالم الكفر
والعصيان إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم المشبع بالإيمان بالله وعمل الصالحات
وغير ذلك من ملامح الدين الإسلامي الحنيف.
أما التغيير،
فقد جاء بشكل مفصلي وحاسم في مناحي الحياة كافة؛ فلم يترك الإسلام صغيرة ولا
كبيرة، في العصر الجاهلي والعصور التي سبقته، إلا وسلّط الضوء عليها وأعاد صياغتها
أو صياغة التعامل معا؛ بالتحسين أو الإبقاء عليها أو بإزالتها من حياة الناس مرّة
واحدة وإلى الأبد.
ولا أرى، في
هذا المقام، أن المجال يتسع لذكر تلك التغييرات والآليات التي تمت بها. أما الذي
يمكن قوله فهو أن الإسلام، وهو الدين الذي حمله محمد صلى الله عليه وسلّم إلى
البشرية جمعاء، قد نقّى النفس البشرية من الدنس بأشكاله كافّة، ورفع من شأنها
وكرّم الإنسان-الفرد وصان له حقوق العيش الكريم، وسخّر له كل ما في الخلق، لقوله
تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70).
سنسلط الضوء،
فيما يأتي، على عنصر مهم للغاية في حياة المجتمع ألا وهو "نظام التمليك في
الإسلام"، الذي وقف عنده محمد صلى الله عليه وسلّم، وسلّط الضوء عليه وأعاد
صياغته بما يتوافق والدين الحنيف الذي جاء من لدن الخالق سبحانه، من خلال الرسالة
المحمدية التي عم ضياء نورها على البشرية جمعاء بمولده صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلّم يعيد صياغة الملكية
وقع بين يديّ دراسة
للباحثة الفلسطينية "آمنة أبو حطب"، بعنوان: "الملكية في عصر
الرسول صلى الله عليه وسلّم"، كانت قد ناقشتها الباحثة في العام 2005،
ونالت عليها درجة الماجستير، بإشراف ومتابعة البروفيسور جمال جودة. وبقراءة
تحليلية لهذه الدراسة المهمة، ذات الموضوع الفريد من نوعه، وجدت أنه بمولد محمد
صلى الله عليه وسلّم وبانطلاق رسالته أحدث مجموعة من التغييرات في الملكية،
ببعديها: الفردي والجماعي، مبدئًا بمجتمعه القريب. وسنختار الحديث عن المحاور
التالية:
أولاً: الملكية عشية ظهور الإسلام:
بينت
الدراسة أن الحمى[1]
شكل الملكية الجماعية لأفراد القبيلة، وهكذا كان الماء والكلأ والنار في أي حمىً
للجميع، وقد أكده وعززه قوله صلى الله عليه وسلّم: "الناس شركاء في ثلاث في
الماء والكلأ والنار". إلا أن الملوك، أو شيوخ القبائل، كانوا يسيطرون على
أفضل المراعي ويحولونها إلى إحماء خاصة بهم لرعي إبلهم ومواشيهم. كما كان هناك
ملكيات خاصة، وملّاكين كبار للأراضي. ولا يخفى للمطلع على تراث المدينة المنورة
عشية ظهور الإسلام من سيادة الملكيات الزراعية لسكانها العرب واليهود.
كما
تشير هذه الدراسة إلى أن أشكال الملكية وأنواعها وطرائق التملك كانت تختلف من مكان
إلى آخر؛ فما يجري في شمال الجزيرة العربية يختلف عن جنوبها، وما يجري في اليمن
يختلف عما يجري في الجزيرة... وهكذا. ولعل من الطريف ذكره أن التراث الديني في
اليمن كان يفيد بأن الأرض ملك الآلهة، وبما أن الملوك هم خلفاء الآلهة على الأرض،
فهم بذلك يملكون الأرض ويتصرفون بها كيفما شاؤوا من حيث منحها أو إقطاعها أو
السماح للفلاحين من القبائل (الشعوب) بزراعتها.
من
جانبٍ آخر، لا بد من التذكير بأنه كان قبل الإسلام أوقاف كالمعابد وأماكن
العبادة كانت قائمة مع قدم الإنسان، وكان يُرصد لها أماكن وعقارات وأراضٍ ينفق من
غلاتها على احتياجات هذه الأماكن. وأنه كانت لسيدنا إبراهيم
الخليل عليه السلام أوقاف معروفة باسمه، ولا تزال موجودة ومعروفة حتى هذا
اليوم، وذلك في مكة المكرمة وفي مدينة
خليل الرحمن بفلسطين. وأن اول ما عرف لدى العرب من ذلك قبل الإسلام (الكعبة
المشرفة)، التي أصبحت مصلى عاما لهم على اختلاف قبائلهم يحجون إليه كل عام, ثم جعلوه مقرا لأصنامهم بعد
أن اعتقد العرب بأن الأصنام تقربهم الى الله
زلفى. كما كان هناك أحباس
في الجاهلية، ولكنها موضوعة لغرض الفخر
والمباهاة، وعندما جاء الإسلام أصبحت أحباس المسلمين تقربا لله وتبررًا[2].
ثالثاً: موقف الإسلام من
ملكيات المسلمين:
أفادت
الدراسة بأنه عندما جاء الإسلام، أقرّ الملكية، بأشكالها المختلفة، وحماها ضمن
شروط جديدة، تم تحديدها في القرآن الكريم ومن خلال السنّة النبوية الشريفة: القوليّة
والفعلية، منها:
1) ورد في القرآن الكريم ما يفيد بأن حسن
التصرف في المال وتوظيفه لصالح عدد من الشرائح المجتمع، يتقدم على التوجه في
الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب، للصلاة، لقوله تعالى: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ"
(البقرة: 177). وفيما يتعلق بالمال، في هذه الآية، ورد في التفسير الميسر لهذه
الآية: وأعطى المال تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي
القربى، واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ، والمساكين الذين
أرهقهم الفقر، والمسافرين المحتاجين الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم، والسائلين
الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم، وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى.
2) كما ورد في القرآن الكريم أوامر إلهية
واضحة في كيفية إدارة العلاقات المالية بين أفراد المجتمع المسلم أو المجتمع في ظل
الإسلام، كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ" (النساء: 188). كما يذكر القرآن الكريم أن ممن سبق من
الأديان الأخرى من يأكل أموال الناس بالباطل، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ
الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ" (التوبة: 34).
3) أما على مستوى السنة النبوية الشريفة،
فيقول صلى الله عليه وسلّم: "كل المسلم على
المسلم حرام دمه وماله وعرضه"([3])،
وفي قوله: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"([4]).
وأكد صلى الله عليه وسلّم على الملكية الجماعية، وعدم الاحتكار، فقد ورد عنْ رجُلٍ مِن الصحابةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: غَزَوْتُ معَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسَمِعْتُهُ يقولُ: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ،
وَالنَّارِ". رواهُ أحمدُ وأبو داودَ، ورجالُهُ ثِقَاتٌ([5]).
أضف
إلى ذلك أن الإسلام جعل الزكاة من حيث إخراجها وصرفها مرتكزًا عقائديًا، عبادة
مالية تتبع عبادة الصلاة مباشرة، وليست منّة من الأغنياء على الفقراء[6].
وقد ورد العديد من الآيات القرآنية بشأنها، نختار من بينها الآية التي تتحدث عن
سمات التاجر ورجل المال والأعمال المسلم، في قوله تعالى: "رِجَالٌ
لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ" (النور: 37).
خامسا: موقف محمد صلى الله عليه وسلّم من ملكيات أهل
الكتاب: اليهود أنموذجًا:
يتضح
من دراسة أبو حطب، قيد النقاش، أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع أهل الكتاب
وفقًا لموقفهم من الإسلام والمسلمين؛ من حيث مقاتلتهم أو التحالف معهم. فاليهود
كانوا قد سيطروا على الاقتصاد في الحجاز وبذا
أصبحوا أغنى سكان المدينة والحجاز. وهنا لا بد من الاشارة الى ملاحظتين:
الأولى:
ان الرسول (ص) تعامل مع ملكيات اليهود وعقاراتهم ضمن طبيعة الفتح لحصونهم وقراهم،
فمن استسلم منهم ونزل على حكم الرسول دون قتال فقد اعتبرت اراضيهم ملك خاص لرسول
الله، أما من قاتل منهم فقد نزعت ملكياتهم لأراضيهم وأصبحت للمسلمين الذين شاركوا
في القتال أو ملكاً أو فيئاً عاماً لهم.
الثانية:
أن الرسول (ص) لم يأخذ منهم الجزية أو يفرضها عليهم حتى العام التاسع من الهجرة؛ وذلك
لأن دولة الاسلام لم تكن قد أَرست أركانها. وبعد ذلك، وحيث تم فتح مكة، فرضت الزكاة
(الصدقة) المفروضة على المسلمين والجزية على غير المسلمين من اليهود والنصاري
والمجوس. وهنا فقد صالح أهل تيما وجلّهم من اليهود على أداء الجزية، وبذا احتفظوا
بملكيتهم لأراضيهم.
أما
النصارى، فإن الرسول
(ص) أعطى أهل الذمّة منهم في الجزيرة العربية الامان يمارسون شعائرهم الدينية،
ويحتفظون بملكياتهم مقابل دفعهم الجزية. وأما المجوس، فكانت إجراءات الرسول صلى
الله عليه وسلّم بحقهم مطابقة لمعاملة أهل الكتاب؛ فقد أعطاهم الأمان على أرضهم وأموالهم
مقابل جزية ضُربت عليهم. وجاء في كتاب رسول الله إلى أهل هجر والبحرين وهـم في
غالبيتهم مجوساً : " فمن شهد منكم أن لا اله إلا الله وأن محمد عبد ورسوله،
واستقبل قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا فله مثل ما لنا وعليه مثل ما علينا، ومن أبى
فعليه الجزية".
الاستنتاجات والخاتمة
نستنتج مما سبق
أن محمد صلى الله عليه وسلم باشر، منذ اللحظة الأولى، برفع الظلم عن المظلومين وكف
يد الظالمين، وجعل السيادة للمؤمنين الصادقين ذوي النفوس الزكيّة الطيبة الذين
حملوا على عاتقهم وفي أعناقهم أمانة نشر رسالة العدل بين بني البشر، وجعل السيادة
للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كما حمل على عاتقه، ومن خلفه الصحابة رضوان الله
عليهم، تنقية المجتمع من الآفات الأخلاقية والعادات السيئة التي تتناقض وطبيعة
النفس البشرية.
في أجواء تلك
العدالة، عامل صلى الله عليه وسلم ملكيات المسلمين وغيرهم من أهل الذمة، بما لا
يتعارض مع حقوقهم في الملكية، بشكليها
العام والخاص، بما يحفظ للمجتمع المسلم أو المجتمع في ظل الإسلام العدالة والأمن
والأمان، وفق الرسالة المحمدية التي أطلقت إشعاعاتها الأولى بمولده صلى الله عليه
وسلم، في عالم كان يسوده الظلم والجوْر الذي يمارسه القوي ضد الضعيف، والغني ضد
الفقير، فولدت الرسالة المحمدية بضياء خطف أبصار الكفار والجاحدين، وجعل الإسلام؛
دين محمد صلى الله عليه وسلم يسود البشرية جمعاء، وقد امتدت خيوطه خارج الجزيرة
العربية حتى آخر الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 19/08/2016م
[2] صبري، عكرمة (2011). الوقف
الإسلامي: بين النظرية والتطبيق. دار نفائس. عمان-الأردن. ص: 14-15.
([5] ) انظر الموقع الالكتروني لـ "معهد آفاق التيسير": http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=3191#.V7dXrVsrLIU
[6] العصا، عزيز (2016). الزكاة: منّة من الأغنياء.. أم عبادة مالية؟!. مجلة الإسراء. تصدر عن دار
الإفتاء الفلسطينية. العدد (130).
إرسال تعليق Blogger Facebook