حائط البراق:
بين العقيدةِ.. والسياسة!
نشر
في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 132، شباط وآذار/ 2017، ص
ص: 23-30
عزيز العصا
مقدمة
قال
تعالى في محكم كتابه العزيز: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ" (الإسراء:
1). هذه هي الآية الأولى من سورة الإسراء، التي تشير إلى حدث أذهل كل من عاصره،
لدرجة أن هناك من حاول "تكذيبه!" لهول الخبر حوله على عقول لم تكن مؤمنة
برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء التصديق والتأكيد على حدوثه من لدن رب
السموات والأرض القادر القاهر فوق عباده، الذي إذا قال، سبحانه، لشئ "كن
فيكون".
لقد جاء ذلك التأكيد
بلسان عربي مبين، في سورة الإسراء المتخصصة في شئون العقيدة، والتي كان العنصر
البارز فيها هو شخصية الرسول صلى الله عليه وسلّم، وما أيَّدَهُ الله به من
المعجزات الباهرة والحجج القاطعة الدَّالَّة على صدقه عليه الصلاة والسلام. وهذا
ما جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، وهم مؤمنون أصلًا بصدق محمد ونزاهته
وسموّه منذ كان طفلًا حتى حينه.
بمراجعة حول معجزة الإسراء والمعراج، نجد أنه ورد في الأثر "أنه عليه
السلام أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق، فلما انتهى
إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم
أتى المعراج؛ وهو كالسلّم ذو درج يرقى فيها فصعد إلى السماء الدنيا... الخ".
وقد أظهرت هذه المعجزة فضل رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وتكريم الله -عز وجل- له،
وأن الإسلام دين الفطرة، وعظم وأهمية الصلاة في الإسلام، وأهمية المسجد الأقصى
بالنسبة للمسلمين.
نستنتج مما سبق أن معجزة الإسراء والمعراج هي جزء من
عقيدة المسلمين، التي لا يجوز التخلي عنها أو التقليل من أهميتها ودورها في تحقيق
التحولات الكبرى في حياة الأمة ومسيرة دينها الحنيف، مما يعني أن كل ما يتعلق بتلك
المعجزة من الأماكن والأزمان والأدوات المختلفة التي تكونت منها هو جزء من العقيدة
أيضًا.
تهدف هذه المقالة التركيز على المكان
الذي ربط فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا هو ما يطلق عليه اليوم "حائط
البراق"، الذي سارع الصهاينة فور انتصارهم في العام 1967م إلى السيطرة عليه
وتهويده قسرًا وقهرًا وبالقوة المفرط، وأطلقوا عليه "حائط المبكى"،
وأحالوه إلى مكان للعبادة.
حائط البراق جزء من العقيدة
كانت معجزة الإسراء
والمعراج قبل الهجرة بعام (أو ستة عشر شهرًا)،
وبعد ذلك بنحو ستة عشر عامًا، أي في العام 15هـ
(636مـ)،
جاء الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستلم مفاتيح بيت
المقدس، سلميًا ودون إراقة دماء، فتولى المسلمون المسؤولية عن القدس، والمسجد
الأقصى، منذ تلك اللحظة عندما قام الخليفة –الفاتح- بما يلي:
1) دخل المدينة، ومعه المسلمون مهللين مكبرين، ثم دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود.
2) أزال ما كان على الصخرة من قاذورات.
3) أقام في القدس عدة أيام رتب فيها ما تحتاجه المدينة، حيث عين لها إمامًا للصلاة وعين قاضيًا لها.
منذ ذلك التاريخ، وعلى مدى نحو خمسة
قرون متواصلة، بقي المسجد الأقصى وجداره الغربي المسمى حائط البراق تحت سيطرة
المسلمين وضمن الملكية الوقفية العامة، إلى أن جاء الصليبيون واحتلوا المنطقة
بأسرها، حتى العام 1187، حيث حرر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله بيت المقدس من دنس
الصليبيين، فأعاد للمكان قدسيته ومهابته، وفتحه على مصراعيه للعبادة وللعلم
والعلماء، ولإيواء الفقراء والمعوزين، ولغير ذلك من المرامي والأهداف. بقيت الدولة
الأيوبية حتى العام 1250م، حيث تلتها الدولة المملوكية التي استمرت حتى العام
1517م؛ وهو السنة التي استلم فيها العثمانيون حكم بيت المقدس وبلاد الشام ومعظم
أرجاء الوطن العربي حتى العام 1917م.
أي أن حائط البراق، كما هو حال المسجد
الأقصى المبارك، لم يستولِ عليه المسلمون بالقوة من المسيحيين أو اليهود. كما
نستنتج مما سبق سيطرة المسلمين على هذا المكان استمرت على مدى 1282 عامًا، بشكل
متواصل، ولم تنقطع سوى مدة (88) عامًا هي فترة حكم الصليبيين، كوقف إسلامي، وهو حق خالص للمسلمين.
الاحتلالان البريطاني والصهيوني يزوّران تاريخ حائط البراق
عندما احتل الإنجليز البلاد في العام 1917م، كانت جميع توجهاتهم
مصوّبة نحو التمهيد لإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، تنفيذًا للوعد المشؤوم
المسمى وعد بلفور، الذي استغله اليهود لاتخاذ حائط البراق مكانًا للعبادة، بالوقوف
أمامه والبكاء على هيكلهم المزعوم! وعندما شعر المسلمون بتاريخ
23/08/1929م؛ فاستشهد فيها العشرات من المسلمين وقتل عدد كبير من اليهود. وبعد
أن تمكنت بريطانيا من السيطرة على الموقف بقسوة قدمت للمحاكمة ما يزيد على ألف شخص
من العرب الفلسطينيين، وحكمت على 26 بالإعدام، من بينهم يهودي واحد كان شرطيا دخل
على أسرة عربية في يافا مكونة من سبعة أشخاص فقتلهم كلهم، لكنها
لم تنفذ الإعدام إلا في ثلاثة فلسطينيين، هم: فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطا الزير.
وتبع ذلك أن لجنة دولية مشهورة بالآثار قدمت إلى البلاد
واستمعت إلى طرفي الصراع، فأصدرت في العام (1930) تقريرًا ينص على أن "حائط (المبكى) بالذات أثر إسلامي مقدس،
وهو ملك عربي ووقف إسلامي"()، واختتمته بالقول: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي
ولهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من
أملاك الوقف الإسلامي، وللمسلمين أيضا تعود ملكية
الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة، لكونه موقوفا
حسب أحكام الشرع الإسلامي".
وعندما حلت النكسة في العام 1967،
واستولت "إسرائيل" على ما تبقى من فلسطين، بما فيها القدس شرعت القوة
المحتلة بهدم باب المغاربة الملاصق لحائط البراق، وما فيه من آثار ومؤسسات وشردوا
أهله، ثم جهزوا الساحة الواقعة غربي الحائط لتجمع اليهود فيها والبكاء على هيكلهم،
وأطلقوا على حائط البراق "حائط المبكى"، وهناك خطط احتلالية لسقف ساحة
البراق، وبناء "مبكى للنساء" هناك، وبناء مركز ديني كبير يديره
المتزمتون اليهود سيقام بالجهة الشمالية من ساحة البراق، وبناء متحف للديانة
اليهودية بجانب ساحة البراق، إضافة إلى ما يجري على الأرض من إقامة مراكز تهويدية
وكنس وحدائق توراتية لتضييق الخناق على المسجد ضمن مخطط شامل لتمكين اليهود من
ساحة البراق، مقابل إقصاء وتغييب الحضارة والتاريخ الإسلاميين عن المكان.
اليونسكو تقول كلمة حق يرد بها حق
هناك سعي فلسطيني
جاد، على مستوى الوزارات ذات الصلة كوزارتي السياح والخارجية، من أجل النفاذ إلى
المنظمات الدولية، بخاصة اليونسكو
لتسجيل أكبر عدد من المواقع الفلسطينية، في القدس وفي الأماكن الأخرى، على قائمة
التراث العالمي، فنجحت في تسجيل كنيسة المهد وبتير وغيرهما. وأما بالنسبة لحائط
البراق فإن المساعي الفلسطينية، وبدعم وإسناد عربي قد بدأت منذ العام 2015، على
شكل مشروع قرار عربي على طاولة اليونسكو يؤكد الهوية الإسلامية لحائط البراق ويعده
أحد المواقع الإسلامية المقدسة من قبل المنظمة. وكان هذا المشروع وغيره من
المشاريع ذات الصلة تواجه بزعم من الاحتلال بأنه "يشوه التاريخ ويطمس علاقة
الشعب اليهودي بأقدس مكان لديه"!
أخيرًا، وبتاريخ
13/10/2016م، أقرت الهيئة الإدارية لليونسكو، مشروع القرار الفلسطيني، الذي يؤكد
أن المسجد الأقصى المبارك "الحرم القدسي"، هو من المقدسات الإسلامية
الخالصة ولا علاقة لليهود فيه.
وأبرز ما تميز به هذا القرار "التاريخي":
1)
أُدرج القرار تحت
إسم "فلسطين المحتلة".
2)
يُظهر القرار
الأسماء العربية الإسلامية للمسجد الأقصى، والحرم الشريف وساحة البراق التي سعت
"إسرائيل" بشكل مستمر لتزوير هويته الإسلامية بإطلاق مسمى "حائط
المبكى" عليه.
3)
يؤكد القرار على
بطلان جميع الإجراءات الإحتلالية التي غيرت الوضع الذي كان قائمًا في 5 حزيران
1967.
4)
يؤكد على أن
المسجد الأقصى موقع أسلامي مقدس مخصص للعبادة للمسلمين، وأن
باب الرحمة وطريق باب المغاربة والحائط الغربي للمسجد الأقصى وساحة البراق جميعها
أجزاء لا تتجزأ من المسجد الأقصى/الحرم الشريف ويجب على "إسرائيل" تمكين
الأوقاف الإسلامية الأردنية من صيانتها وإعمارها حسب الوضع التاريخي القائم قبل
الاحتلال عام 1967.
5) بين القرار أن هناك فرقًا بين ساحة البراق
و"ساحة الحائط الغربي" التي تم توسعتها بعد عام 1967، ولا تزال قيد
التوسعة غير القانونية المستمرة على حساب آثار وأوقاف إسلامية.
6) وجه القرار إدانة شديدة لاستمرار اقتحامات
المتطرفين وشرطة الاحتلال وتدنيسهم لحرمة المسجد الأقصى. وطالب بوقف اعتداء وتدخل رجال ما
يسمى بـ"سلطة الآثار الإسرائيلية" في شؤون الأقصى والمقدسات.
7) كما أكد المجلس على صون التراث الثقافي الفلسطيني
والطابع المميز للقدس الشرقية.
8) أعرب عن أسفه الشديد لرفض إسرائيل تنفيذ قرارات
اليونسكو السابقة وعدم انصياعها للقانون الدولي، مطالبًا إياها بوقف جميع أعمال
الحفريات والالتزام بأحكام الاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الخصوص.
9)
كما
طالب المجلس بوقف إعاقة وصول الفلسطينيين لمساجدهم وكنائسهم، مستنكرا الاعتداءات
المتواصلة ضد رجال الدين المسلمين والمسيحيين
10)
وشدد
المجلس مجددا على الحاجة العاجلة للسماح لبعثة اليونسكو للرصد التفاعلي بزيارة
مدينة القدس وتوثيق حالة صون تراث المدينة المقدسة وأسوارها. لسماح لبعثة اليونسكو
للرصد التفاعلي بزيارة مدينة القدس وتوثيق حالة صون تراث المدينة المقدسة وأسوارها.
الخاتمة التعليق
بأقل الكلمات، يمكن التعليق على قرار اليونسكو هذا بأنه جاء في لحظة حرجة نحن بأمس الحاجة فيها لمن
يقول كلمة "حق" جريئة وواضحة على المستوى الدولي، في ظل انكفاء العالمين
العربي والإسلامي وعدم قدرتهما على فعل شئ على الأرض. ولم أُرد من التفصيل أعلاه
بشأن القرار سوى تعريف القارئ بمدى مخزون حقوقنا
التي تستباح يوميًا بل في كل لحظة من قبل الاحتلال وبشكل متواصل، منذ العام
1967 وحتى تاريخه.
لقد ورد في القرار المذكور أعلاه لهذه
المنظمة الدولية تفاصيل ودقائق تتعلق بالمكان الذي أكد هويته الإسلامية، رغم أنه
مستباح ومنتهكة حرمته، وبالإنسان المسلم الكن العبادة التي ورثها عبر ما يزيد عن
1400 عام من الزمن. ليس في ذلك منّة أحد، وإنما هي كلمة حق دوليّة في وجه احتلال
جائر، فاحت رائحة عدوانه الدائم والمستمر على المقدسيين: مكانًا وتاريخًا
وإنسانًا، وأصبحت تزكم الأنوف للحد الذي لا يستطيع حلفاؤه ومريدوه تبريره أو
الدفاع عنه.
أما نحن من جانبنا، فإننا، ونحن نسجل
شكرنا لكل من أسهم في إنجاح هذا القرار، نؤكد على أن الأماكن المذكورة في هذا
القرار ليست مجرد أماكن تاريخية نتشبث بها لإبراز الهوية الوطنية والدينية وحسب،
وإنما هي جزء لا يتجزأ من عقيدتنا التي أمرنا الله سبحانه أن نحميها بالمهج والأرواح،
وأنه لا كرامة لنا بل لا يكتمل إيماننا إن لم تكن مصانة وغير منتهكة حرمتها
ومفتوحة، على الدوام، للصلاة فيها والتقرب إليه سبحانه.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 23/10/2016م