صالح أبو لبن في "أربعون يومًا على
الرصيف":
يفتح أرشيف الأسرى.. ويوثق للمرحلة
نشر في صحيفة
القدس، بتاريخ: 13/03/2017، ص: 16
عزيز العصا
صالح أبو لبن؛ مناضل
فلسطيني خبر الأسر وشئونه وشجونه، وروائي وكاتب، قادم من قرية زكريا عندما مارست
العصابات الصهيونية المنفلتة العقال أبشع صور القتل والملاحقة والطرد لأصحاب الأرض
الأصليين الذين بنوْا على أرضهم، بالعرق والدم، حضارة تشهد على التحام الإنسان
بالأرض بأجمل الصور وأبهاها.
صالح أبو لبن؛ كاتب
يوظف إمكاناته ومواهبه الكتابية، بل يكرسها، للتوثيق لتفاصيل الصراع القائم على
هذه الأرض بين هويتين لا يرى أن هناك إمكانية للمصالحة بينهما، ضمن المدى المنظور
ووفق المعطيات التي تصب في صالح تلك العصابات التي شردت الآباء والأجداد، والتي
تستمر في ملاحقة الأحفاد وأحفاد الأحفاد.
والعمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "صالح
أبو لبن" هو كتابه الأخير
"أربعون يوما على الرصيف" في
طبعته الأولى، الصادر عن "هيئة شؤون الأسرى والمحررين"، في العام 2016،
وهو يبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان عايد عرفة مركبة من الألوان الزاهية الجميلة،
التي تتوزع على أشكال هندسية متداخلة تصف المخيم الذي يخوض فيه قاطنوه ملحمة صراع
مع الحياة وهم يقبضون على أرض الآباء والأجداد، ليس على مستوى مدنهم وقراهم التي
هُجِّروا منها وحسب، وإنما فلسطين بأكملها التي تنتصب خريطتها الحجرية وهي تنتظر
عودة أبنائها إلى حضنها الدافئ إن آجلًا أو عاجلًا.
ولا يمكنك الولوج في هذا الكتاب قبل أن تتمعن في هذا الغلاف الذي يحمل
سيميائية تنبئ عن نص يرتقي إلى مستوى تضحيات أبناء هذا المخيم الذين صفعوا هذا العالم
الظالم المتآمر، عندما جعلوا من الخيمة المهترئة جامعة خرجت العلماء والعباقرة
الذين يشهد لهم، وفي كل الساحات والميادين، وجعلوا من باستيلات الاحتلال جامعات من
نوع آخر خرّجت المثقفين القادرين على فهم المؤامرة التي تستهدف وطنهم وهويتهم،
وتحليلها إلى مركباتها التي اجتمعت من كل أسقاع المعمورة لإقامة هذا الكيان
وتمكينه على أرضهم وتقويته ودعمه اللامحدود؛ لكي يلبي مصالحهم ويحقق أطماعهم في
جغرافية المنطقة وخيراتها.
يتألف كتاب "أربعون يوما على الرصيف"
من (226) صفحة من القطع المتوسط يتوزع عليها (46) عنوانًا مسبوقة بتقديم للوزير
عيسى قراقع رئيس هيئة شؤون الأسرى والمعتقلين، يرى فيها أن كلمات صالح أبو لبن مؤهلة لترميم ما انكسر من زمان ومكان. وفي تقديمه للكتاب يرى
الكاتب صالح أبو لبن أنه حاول الالتفاف على جمود التوثيق والتسجيل بالاقتراب من
النص الروائي كي يهرب من التقريرية في السرد، وملل التكرار في وصف بعض الأحداث
المتشابهة.
تدور الحكاية، في جوهرها، حول إضراب عدد من الأسرى الفلسطينيين
في السجون الاحتلالية-الإسرائيلية عن الطعام احتجاجًا على اعتقالهم الإداري، وممن
علّق الجرس لذلك الإضراب مجموعة من خمسة أسرى من أبناء مخيم الدهيشة، ثم يمتد
العدد ليشمل سبعة عشر أسيرًا (ص:
195)، فانبرى أبناء المخيم لنصب خيمة احتجاج على رصيف شارع القدس-الخليل
المحاذي للمخيم. وأما "صالح أبو لبن" فانبرى لتوثيق ما جرى
في تلك الخيمة على مدى أربعين يومًا، لكل يوم أجواؤه وأحداثه التي يتميز بها عن غيره
من الأيام.
بقراءة متمعنة لما بين دفتي هذا الكتاب وجدتُني أمام مجموعة من الثوابت في
قضية صراع الأسرى الفلسطينيين مع هذا الاحتلال الذي لم يتغير على مدى العقود
الخمسة منذ النكسة في العام 1967 وحتى اتفاقية أوسلو حولها إلى خدعة وقع الشعب
الفلسطيني في شراكها، وهو يتّبع استراتيجيات تسعى إلى "إفراغ" الأسْر من
أبعاده الإنسانية والحقوقية، ويحارب أي حالة تشكّل للهوية الوطنية والنضالية
للأسير الفلسطيني تنتهي بإقامة كينونته السياسية على أرض الآباء والأجداد. ويمكن
حصر الملامح الرئيسية لكتاب "أربعون يوما على
الرصيف" لمؤلفه "صالح أبو
لبن" فيما يأتي:
أولًا: للإضراب عن الطعام كيمياء لا يعلمها إلا من
عاش التجربة:
وجدت، وبعد قراءتي لعدد من الكتب والمؤلفات التي تتحدث عن قضايا
الإضراب أن "صالح أبو لبن" تميز في كتابه هذا يوثق
لأحداث مفصلية ذات صلة بإضرابات الأسرى، كما يتناول بالوصف الدقيق الوضع الصحي
والنفسي والبيولوجي للأسير المضرب عن الطعام، بما يبين مدى الخطر
"الشديد" الذي يتعرض له الأسير، لا سيما "الإضراب الإيرلندي"؛
الذي يعني الإضراب التام عن الطعام، والامتناع عن تناول أي شئ عدا الماء الذي لا
يستطيع الجسم الانقطاع عن عدة أيام. وإن كان هذا الوصف الذي يسوقه المؤلف من
تجاربه الشخصية مع الإضراب، التي مر بها في مراحله العمرية المختلفة، بدءًا بأول
إضراب له وهو بعمر السابعة عشرة وما تبعها من الإضرابات التي خاضها في الأعوام:
1970، و1976، و1980، و1984، وإضرابات أخرى صغيرة (ص: 17)، يشكل قاسمًا مشتركًا بين جميع الأسرى،
وبمستويات متفاوتة.
ففي اليوم الأول -وهو أصعب يوم في الإضراب- يستذكر "صالح أبو لبن" الحال الذي مرّ به من وجع في
الرأس وصداع يكاد أن يفتك به، وهروب العينين من الضوء إلى الإغماض، فقدان القدرة
على التركيز، والمعدة تزيد من إفرازاتها انتظارًا للوجبة الروتينية في مواعيدها (ص: 17). ثم تتوالى الأيام
على المضرب فيصبح الجسم متعبًا، ويتراكم الإعياء ويتعاظم (ص: 52)، وفي كل مرّة تثور الأمعاء ثورتها ثم
تعود إلى القرار الصعب، وما من عضو في الجسم يعود يعمل كما كان (ص: 59)، وبمرور الزمن ترتبك
العمليات البيولوجية للمضرب ويصبح كل شئ عسيرًا حتى أمر قضاء الحاجة الذي يتحول
إلى شأن كريه ومؤلم وخانق؛ فلا الجسم بقادر على التخلص من البقايا المتعفنة فيه،
ولا سبيل إلى الفكاك منها جرّاء اختلال منسوب الماء وتصلّب أجزاء من الأمعاء، وكل
ذلك يشكل ضغطًا على الدماغ (ص:
65)، وهنا يصل ذروة الخطر الحقيقي.
ثانيًا: الإضراب عن الطعام وسيلة قتالية لها نتائجها:
إن قراءة دقيقة لما بين سطور هذا الكتاب، ووفقًا للتجربة الحيّة
التي عاشها المؤلِّف مع الإضرابات، تجعلك تخرج بمعلومات قيّمة عن نتائج الإضرابات
على المستويات المطلبية، عبر الحقب الزمنية المختلفة، منها:
1)
في
العام (1970)، وفي سجن رام الله، شهد اليوم الأول للإضراب هجومًا شرسًا لإدارة
السجن على الأسرى المضربين، حتى أنهم منعوا الهواء عن الأسرى المضربين؛ بإغلاق
الطاقة الصغيرة والوحيدة التي يتسرب منها الهواء (ص: 17).
2)
في
العام 1968 أنهى أسرى سجن بيت
ليد إضرابهم في اليوم الثامن بنصر كبير على السجّان (ص: 60).
3)
في
العام (1976)، وفي اليوم التاسع من الإضراب، أجبر السجّانون الأسرى على
تناول الحليب بالزّوندا (ص:
65).
4)
في
العام (1984) حققت الحركة الأسيرة انتصارًا بعد اليوم الثاني عشر من
الإضراب "الإيرلندي" عن الطعام (ص: 81).
5)
في
اليوم الخامس عشر من إضراب نفحة في العام 1980 استشهد المناضل "أنيس دولة" (ص: 94).
6)
في
العام 1976-1977 وفي سجن عسقلان انهار
إضراب الأسرى في سجن عسقلان في اليوم الثامن والعشرين، بدون التوصل إلى
إنجازات (ص: 157).
7)
في
العام 1980 انتهى إضراب أسرى سجن
نفحة الصحراوي بعد اليوم الثالث والثلاثون (ص: 180).
8)
في
العام (2015) وبعد اليوم الأربعين يعلق الأسرى –قيد النقاش- إضرابهم.
ثالثًا: جرائم اقترفت بحق الشعب الفلسطيني: خُمسه
و40% من ذكوره طالهم الأسر:
الاعتقال الإداري، الذي هو بدعة بريطانية في الأصل في العام
1945، هو: اعتقال بدون تهمة أو محاكمة؛ يعتمد على ملفّ سرّي وأدلة سرّية، لا يمكن
للمعتقل و/أو محاميه الاطلاع عليها. ويشير الكاتب إلى عدد من المعطيات الرقمية ذات
الصلة بالأسرى، والتي لا بد من التذكير بها دومًا، منها:
-
هناك
نحو خمسمائة أسير إداري في سجون الاحتلال (أطول معتقل إداري فلسطيني وصلت مدة
اعتقاله إلى ثمانية أعوام)، منهم سبعة من أعضاء المجلس التشريعي وغيرهم من
الشخصيات السياسية والأكاديمية والفكرية (ص:33)؛ وفي ذلك تأكيد على أن الاحتلال يستخدم أسلوب
الاعتقال الإداري من أجل العبث في سير الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، على مستوى
الشرائح المجتمعية المختلفة.
-
نحو
خُمس الشعب الفلسطيني تم اعتقاله منذ العام 1967 حتى تاريخه، حتى أن نحو 40% من
الذكور طالهم الأسْر (ص:
33). ويستشهد "صالح أبو لبن"
بتجربته الشخصية عندما دخل سجن النقب الصحراوي بعد ستة أشهر من افتتاحه فكان
رقمه (5571)، وعندما خرج منه بعد عام وصل العدد إلى (23,300) أسير في هذا السجن (ص: 32).
-
منذ
بداية انتفاضة الأقصى -في العام 2000- حتى تاريخه طال الأسْر نحو (90,000) حالة؛
من بينهم (12,000) طفل و(1200) من الفتيات والنساء، وهناك (83) شهيدًا من الأسرى (ص: 206).
رابعًا: يحمل الكتاب ملامح من السيرة الذاتية للكاتب:
لقد أمضى المؤلف "صالح أبو لبن" ستة عشر عامًا في الأسر (على
فترات)، جعلت منه خبيرًا في السجون والمعتقلات وسيرتها وما يجري فيها من تفاصيل
أطلّ عليها بحكم موقعه القيادي في الحركة الأسيرة، منذ كان شابًا يافعًا. وقد وظّف
تلك السيرة في كتابه هذا، بأجمل صورة، فألف كتابه التوثيقي ليوميات الشارع في مخيم
الدهيشة وحالة التضامن الشعبي والرسمي من مختلف الجغرافيا الفلسطينية، عندما أخذ
ينهل من الذاكرة تلك اللحظات التي عاشها وعايشها لحظة بلحظة.
وأتوقف هنا للمطالبة بالعمل على إعداد موسوعة فلسطينية يتم فيها التوثيق
لأيام الإضراب من قبل من عاشوه عبر الخمسين عامًا (بدءًا من العام 1968)، التي
تشكل تجربة تراكمية يجب التوقف عندها بالقراءة والتحليل، ليس كمجرد ذكريات، وإنما
تسهم في مقاضاة هذا الاحتلال الشرس الذي مارس جرائمه الوحشية بحق الأسرى العزّل
بصمت وبعيدًا عن أي شكل من أشكال الرقابة، وبلا رادع من قبل أي من المنظمات
والمؤسسات الدولية ذات الصلة، التي تكتفي بالإشارة –الخجولة- إلى الانتهاكات التي
تمارس بحق الأسرى الفلسطينيين في كل لحظة يكون فيها بين فكّي السجّان.
خامسًا: الكتاب يوثق لحقبة تاريخية في حياة الشعب
الفلسطيني:
سعى "صالح أبو لبن"،
وبأسلوب يتأرجح بين السرد الروائي والسرد التوثيقي، الذي لا يخلو من الملامح
الصحفية، إلى توثيق المجريات اليومية لما جرى على الرصيف المحاذي لمخيم الدهيشة خلال
الفترة (20/08-29/9/2015م)، فشمل في
ذلك مساحة واسعة من الأحداث والأسماء والفعاليات التي تمت للتضامن مع الأسرى
المضربين عن الطعام، إذ يتطرق إلى الأشخاص والشخصيات والمؤسسات والتجمعات،
الرئيسيين والهامشيين، المؤثرين في الفعل اليومي، والذين تركوا بصمات واضحة في
سجلّ تلك الأيام الصيفية على ذلك الرصيف الذي يشهد على أحداث عديدة مرّت عنه في
السلم وفي الحرب. ويذكر، بشئ من الوفاء، الدور الذي قامت لجنة التنسيق الفصائلي؛
وهي الجسم الذي تلتئم فيه فصائل العمل الوطني تحت مظلة واحدة تقبض على الوحدة
الوطنية وتحيلها إلى فعل على الأرض. كما يبرز، وبشكل واضح، الدور المحوري للوزير
عيسى قراقع رئيس هيئة الأسرى والمعتقلين عندما تلتهب الأحداث ويشتد أوارها، فيطفئ
النيران ويعيد العربة إلى السكة ويعزز صمود الأسرى وأهاليهم.
في كل مرّة، لم يبخل الكاتب في الإشارة
إلى المشاهد والمواقف ذات الوقع الإيجابي الذي يعزز من مواقف الأسرى المضربين
ويدعم أهاليهم وأسرهم ويرفع من معنوياتهم، كما أنه كان يشير إلى مواطن الخلل
والسلبيات الناجمة عن وصول حالات الخلاف والاختلاف السياسية إلى الخيمة والأسرى
الذين يجب أن يكونوا بمنأى عن ذلك كله.
خلاصة القول:
بعد أن أتحفنا "صالح أبو لبن" بنتاجه الفكري الأول المتمثل
بروايته "البيت الثالث"، والتي مرّ فيها، وبطريقة درامية جميلة، على
مشاهد الأسْر بما فيها من وجع الفراق وما فيها من نشوة الانتصار على السجن
والسّجّان، هذا هو كتابه "أربعون يوما على الرصيف" الذي يتناول أربعين يومًا من إضراب جيل جديد استلم الراية بكل
أمانة وصدق، بشئ من التفاوت بين تلك الأيام في متعة السرد وحجم المعلومات وطبيعة
الأحداث، بين الصعود والهبوط، والذي هدف مؤلفه إلى إعادة صياغة الخيمة والمخيم وفق وثيقة سيريّة لمجتمع مخيم الدهيشة
تتناقلها الأجيال المتعاقبة كأنموذج للتضامن قابل للتعزيز أو للتعديل والتصويب.
لقد وجدت في هذا المؤلَّف أنموذجًا
سرديًا مختلفًا وغير تقليدي، يضاف إلى المكتبة الفلسطينية، كما يضع القارئ العربي
في صورة ما يجري على أرض فلسطين من ظلم بأبشع حالاته، يقاومه شعب أعزل لا يملك سوى
الإرادة الصلبة التي تحركها حالة التضامن والتعاضد والتعاون والتكامل التي هي من
سمات وخصال أبناء فلسطين في مواجهة البطش والقوة والجبروت.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية، 28/01/2017م
إرسال تعليق Blogger Facebook