وليد أبو بكر في دراسته "ظاهرة التثاقف":
التثاقف استعراض قصدي للمعرفة.. أحلام مستغانمي سيدة
التثاقف.. وربعي المدهون يقلدها
نشر في صحيفة القدس بتاريخ:
25/04/2017، ص: 15
عزيز العصا
وليد أبو بكر؛ روائي وناقد
وكاتب فلسطيني في أجناس أدبية وعلمية مختلفة، وله إسهامات في الترجمة، ونشر العديد
من المعالجات الصحفية. وهو مدير مركز أوغاريت الذي نشر للعديد من الكتاب
الفلسطينيين، أقربهم إليّ الروائي والكاتب "أسامة العيسة". وأما ما
يشدّني إلى هذا الرجل الموسوعيّ، فهو قراءاته النقدية الجادّة، التي يصفها البعض
بـ "الحنبليّة"، إلا أنني أراه في قراءاته
"النقدية-التحليلية" للسرد وللنص الأدبي الذي يقع بين يديه، يقوم بدور الطبيب
المخلص في عمله الذي يشخص حالات مرضاه، والأسباب المؤدية إلى المرض، ويصف لهم
العلاج بصراحة ووضوح، سعيًا إلى شفائهم من أمراضهم، وليس سعيًا إلى شهرة زائفة
تجلب له المال.
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "وليد
أبو بكر"؛ فهو دراسته،
بعنوان: "ظاهرة التثاقف وآثارها المدمّرة على
السرد" في طبعتها الأولى، الصادرة عن "دار الرعاة
للدراسات والنشر" في رام الله، في العام 2017، ويربض بين غلافي هذه
الدراسة (181) صفحة من القطع المتوسط.
تهدف هذه الدراسة إلى فصل دقيق بين المصطلحات (النقدية وغير النقدية)، فهي
تكرس مصطلح "التثاقف" كمصطلح نقدي، وتحرره من أية تبعية لغيره من
المعاني، أو المصطلحات التي تخص مجالات أخرى. وتسلط الضوء على تجليات هذا المصطلح
في النصوص التي ينشط فيها، وكيف يعمل على تشويه هذه النصوص، وإظهارها كفعل متكلف.
ويتوقع "أبو بكر" أن هذه
الدراسة تشق طريقًا صعبًا جديدًا على ما أسماه "مجتمع النفاق الأدبي" أو
"مجتمع الإشاعات الثقافية" الذي بات تمثيله واسعًا لدينا.
تبدأ الدراسة بتمهيد، ثم مقدمة
لتعريف التثاقف، قبل أن يخصص الباحث مساحة واسعة لسبر غور التثاقف في روايات كل
من: الكاتبة الجزائرية "أحلام مستغانمي"، والكاتب الفلسطيني
"ربعي المدهون"، والكاتبة السعودية "أثير عبد الله
النشمي".
تأصيل نظري للمفاهيم النقدية والتثاقفية
يتطرق "أبو بكر" إلى
النقد الأدبي من مختلف النواحي، ويضع الملامح الرئيسية للناقد، مؤكدًا أن الجرأة
هي السمة الأساسية للنقد الأدبي، وأن هناك ضرورة لأن يهضم الناقد الأدوات التي
يفترض أن يستخدمها، لكي يتوصل إلى الزاوية التي يحسن أن ينظر منها في اتجاه النص
الذي يتعامل معه، علمًا بأن الفكرة النقدية تحتاج إلى التجارب الحياتية للناقد، الذي
يجب أن يتمتع بمعرفة شاملة وأكثر اتساعًا من حاجة كاتب النوع الأدبي ذاته. ولكي
يصل الناقد إلى مستوى "استلهام النصوص"، ولكي تتمتع أفكاره بحركة حرة
داخل الذهن، مما هو خارج النصوص، لا بد للناقد من أن ينبذ كل ما يعيق هذه الحرّية،
بما في ذلك: إسم المؤلف، وشهرته، ومكانته الأدبية والاجتماعية... الخ، وأن لا
يتخلى عن القاعدة الذهبية: "لا شئ من الإبداع يقع فوق مستوى النقد".
يرى "أبو بكر" أن
"أنجح أنواع الكتابة هو ما يستند إلى الابتكار"، وأن "الثقافة
أقدم أعمدة الصمود، وأمتنها، وأكثرها قدرة على تبني الحقوق الوطنية والتاريخية،
والدفاع عنها". وأما بشأن "التثاقف"، فإن الدراسة تستعرض
تعريفاته المختلفة، بدءًا من الأصل الثلاثي "ثَقَفَ، ثَقُفَ ثَقِفَ"،
واختلافه من لغة إلى أخرى، وصولًا إليه كمصطلح نقدي، فقد اختار "أبو بكر" ما جاء في قاموس المعاني الجامع:
"تثاقف الشخص: ادّعى الثقافة، إنه يتعالى ويتثاقف على الجماهير". وأما
حول التثاقف فنيًا، فإنه يقترح التعريف التالي للتثاقف: "استعراض قصديّ
للمعرفة، داخل الكتابة، في غير حاجة إلى ذلك، وإنما من باب التظاهر بوجود هذه
المعرفة، والتباهي بإبرازها". كما يرى أن "التثاقف لا يمكن أن يأتي
عفويًا، لأن "المتثاقف" يهدف إلى تغذية "الأنا"، بإبراز شئ من
سمات تميزه عن قارئه، عن طريق عرض شكلي لما يطرأ لديه من معرفة، هي خارج سياق النص
الذي يكتبه".
وتتطرق الدراسة إلى أبرز تجليات التثاقف في الكتابة السردية
العربية، نذكر منها:
أولًا: التلاعب
باللغة، بما يشير إلى تبرير للجهل الأساسيّ باللغة، مما يجعل
الكاتب "تثاقفيًا" يستخدم لغات غريبة عما يكتب فيه. كما أنه يفتعل
تراكيب لغوية لا تخدم أي غرض، سوى التثاقف، كتلك الروايات التي لا تعترف بتقديم
المبتدأ على الخبر[1]، أو
استخدام ما يسميه باحث تونسي[2]
"صور وتهويمات استعاريّة، لا يتولد منها أو بها أي مدلول ولا أي معنى".
ويحذر "أبو بكر" في
دراسته هذه من خلق حالة شبيهة بما فعله السجع العربي، حين أصبح تقليدًا في عصر
الانحطاط، ما أفقد الكتابة –العربية- أصالتها لعدة قرون. لأن ما يسود في الكتابات
السردية العربية من تثاقف الآن، يعمل على إضعاف الأدب.
كما تتطرق الدراسة إلى واحد من مظاهر التثاقف، وهو: "استعراض
الأسماء والأحداث"؛ بأن يفتعل الكاتب –المتثاقف- مشاهد يُدخل فيها مقولات
لمشاهير، تكون دخيلة على التماسك العضوي للنص، ولا يتوقف الأمر عند تراكم تلك
الأسماء. وإن كل ما ذكر من تجليات سيؤدي إلى أن تبدو الأحداث مركبة، لما
فيها من تفاصيل كثيرة غير لازمة، أو شروح، وتفاسير يكون القارئ في غنى عنها، مما
يضعف العمل.
وأما ذروة تجليات التثاقف، فهي أن يقوم المتثاقف بدور السارد
"النرجسيّ" كلي العلم، و"إعلاء الذات" التي تشكل
جذرًا لجميع التجليات والمظاهر الآنفة للتثاقف؛ وهي إحساس الكاتب بأنه قادر على أن
يخدع القارئ، لأنه أكثر ذكاءً. والكاتب –المتثاقف- يتحدث عن الذات بشكل مباشر،
داخل النص ذاته، ليعبر عن "الأنا"، بغض النظر عن طريقة استقبال الآخرين
لذلك النص[3].
من التأصيل المفاهيمي إلى التطبيق
لقد قام "أبو بكر"
بالتأصيل الموصوف أعلاه، بهدف فتح الطريق للعبور إلى السرديات والنصوص، من أجل
الفحص والتقييم والتقويم، لاستخلاص كل ما هو "تثاقفي" فيها، لكي ينير
الدرب أمام القارئ الذي يحاول "التثاقفيون" التذاكي عليه وإشعاره بقصوره
عن المعرفة، ويبثون فيه ما يريدون من رسائل في مختلف الاتجاهات، وأخطرها محاولات
"التطبيع" مع الاحتلال؛ بمحاولتهم "أنسنته"، وممارسة القيم
والأخلاقيات معه كمحتل، رغم أنه يفتقر إلى تلك القيم ولا يؤمن بها من خلال
ممارساته "اللانسانية" اليومية في قمع وتكبيل الشعب الواقع تحت سطوته.
وسنستعرض، فيما يأتي، جانبًا من الأمثلة –التطبيقية- التي استقاها الباحث
"أبو بكر" من روايات كل من:
أحلام مستغانمي وربعي المدهون.
أحلام مستغانمي: تهتك أستار اللغة؛ بصيغ
مفتعلة، ولغة مقلوبة..
تحتل روايات أحلام مستغانمي مساحة كبيرة في الدراسة، ومنذ البداية يقول
فيها "وليد أبو بكر"، بأنها:
"سيدة التثاقف في الكتابة العربية خلال السنوات الماضية"، حيث
أنها تقوم برصد وجمع أقوال لمشاهير، أو أحداث عبرت في حياتهم، وتلخيص ذلك وصياغته
بطريقة تسبب اندهاش القارئ! كما يرى "أبو بكر"
أن التثاقف بصيغة أحلام مستغانمي: هتك أستار اللغة توجّها نحو الرداءة. ويدلل على
ذلك بعنوان روايتها "عابر سرير" التي هي اقتنصتها من قول "إميل
زولا": عابرة سبيل هي الحقيقة. أي أن "أحلام مستغانمي" في روايتها
"عابر سرير"، تبدأ بالتثاقف من الغلاف، وما بين الغلافين تمارس خروجًا
على التوافق "لغويًا أو فنيًا". ومما تورده الدراسة حول هذا الخروج:
أولًا: هتك أسرار اللغة: حيث
تتلاعب باللغة، ألفاظًا وتعبيرات، بصيغ مفتعلة، وبلغة مقلوبة تكشف مدى التكلف الذي
يكمن وراءها، وتكرر مفردات بعينها، مما يشير إلى أن القاموس اللغوي الذي تستخدمه
الكاتبة ليس ثريًا.
ثانيًا: التثاقف بالأسماء: إذ
يلاحظ حشد حوالى خمسين إسمًا في رواية "عابر سرير"، معظمها أجنبي وغير
شائع في مجتمعنا العربي، وتملأ الرواية باقتباسات من أقوالهم، كما أنها تعيد
الحديث عما مروا به، وما فعلوه، لتطرح حكاياتهم، وربما تتعامل معهم كزملاء! وتؤكد
الدراسة أن تلك الاستدعاءات التي أشبعت بها روايتها، تأخذ نسبة كبيرة من النص،
وكلها دون ضرورة.
ثالثًا: الخروج عن السرد: يرى
"أبو بكر" في دراسته هذه أن
"أحلام مستغانمي" لا تلجأ إلى السرد الذي يفترض أن تتخذه الرواية سبيلًا
إلى التعبير، وإنما تقفز في الأحداث، وتسرح، وتتخذ تعرّجات مختلفة في خروجها عن
السرد، بما يوحي بالكلية المعرفة، وتوارد الخواطر، والتكرار لبعض الكلمات، والشرح
والتفسير والترجمة والمناجاة، واستباق الأحداث؛ أي عرضها قبل أن تحدث وغير ذلك.
أضف إلى ذلك كله وقوع الكاتبة في دائرة الأنا، كرواية "عابر
سرير" التي هي رواية الكاتبة ذاتها دون ستائر... ووقوعها في مجموعة من
الأخطاء الهامشية، التي قد لا تتكشف للقارئ الذي ينطلي عليه التثاقف. وأما الأحداث
في رواية "عابر...." فقد تم تركيبها من أجل استيعاب لغة التثاقف العالية
التي أرادتها الكاتبة.
ربعي المدهون: التطبيع سيد الموقف
كذلك الحال بشأن "ربعي المدهون"، فإن رواياته، بخاصة
"مصائر-كونشورتو الهولوكوست والنكبة"، تحتل في الدراسة مساحة تضاهي تلك
الخاصة بأحلام مستغانمي. إذ يرى "أبو بكر"
أن "المدهون" يقلد "مستغانمي" في التثاقف بطريقة يصعب
إخفاؤها. كما يرى أن التثاقف في رواية "مصائر..." يبدأ من العنوان، ثم
يمتد إلى بقية النص، موضحًا أن إضافة "كونشرتو" محاولة ساذجة للإيحاء
بأن الكاتب ضليع بالموسيقى.
ومن أبرز الملامح التي تميّز روايات "المدهون" "التوجه
التعايشي"، أو التطبيعي، وأنه يسعى إلى "تسويق" نفسه للغرب بافتعال
سوف يشعر به الغربي دون عوائق، إذا أتيح له أن يقرأ. وأما أشكال التثاقف التي
تنطبع بها روايات المدهون، فيرى "أبو بكر"
أنها كثيرة ومتعددة، نذكر منها:
1) في رواية "مصائر..." هناك افتعال يتمثل في
إقحام شخصيات يهودية، وشرح الطقوس اليهودية، كما أنها تزدحم بأشكال التثاقف، مثل:
تخيل ما يفكر فيه الآخرون، ومراكمة أسماء الأجانب –مطربين وكتابًا-.
2) لغة رواية "مصائر"، وإن كانت بالعربية، إلا
أنها مليئة بالأخطاء، ومكسّرة، وبأن "المدهون" يستخدم أربع لغات أخرى
بحروف عربية. وكانت "العبرية" هي الثانية بعد العربية، ليشير
"المدهون" إلى أنهما لغتين شقيقتين تنتميان إلى شعبين شقيقين.
3) في باب المعرفة، نجد أن "المدهون" قد وقع في
العديد من الأخطاء المعلوماتية، مما يشير إلى أنه ليس بالباحث الجاد، كما أنه لا
يستشير المتخصصين ولا يدقق في المعلومات التي يكتبها، والتي تأتي في أمور تكاد
تنسب إلى المعرفة الأولية العامة.
4) يظهر من روايات "المدهون" إحساسه بالفوقية
تجاه القارئ، ينبع من حس نرجسي عالٍ، يتحول إلى تعظيم للذات بشكل يمنع عنه رؤية أي
من أخطائه، ومن مظاهر هذه "النرجسية": ذكر إميل حبيبي حتى دون مناسبة،
ووضع نفسه في موازاته، وإعجابه بنفسه، وادعائه أنه خبير كتابة، لا يتردد الآخرون
في الاعتراف بأنهم يستشيرونه ويقلدونه. وتتجلى تلك النرجسية بأن يورد النص الصريح:
هذاك اليوم قريت خبر يقول إنه كان في أمسية للروائي "ربعي المدهون"...
الخ.
5) يسعى "المدهون" إلى الترويج للاحتلال؛ بإقناع
العرب بأهمية وجود الاحتلال في بلادهم، كما يعرض اليهودي في أبهى صورة ممكنة،
وينتهز أية فرصة من أجل "تحقير" العربي الفلسطيني، وتعدد السوءات في
المجتمع العربي. ولعل أسوأ صورة يضعها للفلسطيني تتمثل في قول
"المدهون": أغلب أزلام عكا رحلوا عن المدينة سنة الثمانية وأربعين،
واتغرّبوا وما نفعهم كل البوس اللي باسوه، ولا حتى حفلات الجنس الهستيرية التي
سبقت الرحيل".
ويرى "أبو بكر" أن
"المدهون، وعبر كل أشكال التثاقف التي يتبناها، يسعى إلى "تسليك"
الطريق نحو التطبيع، لدرجة أن "الدافع الذي يقف وراء صناعة الرواية هو عرض ما
يطلق عليه "أبو بكر"
"المصالحة التاريخية المتخيّلة بين شعبين في البلاد"، مما حمّل الرواية
أحمالًا غريبة عمّا يقتضيه الفن الروائي، وطرحت أفكارها التي لا تجد من يؤمن بها،
خصوصًا إذا كان فلسطينيًا.
خلاصة القول،
ها هي
دراسة " وليد أبو بكر" التي
وجدت فيها أنها تنقلنا من المدرسة النقدية التي ترى في "المتثاقفين"
نماذج للانفتاح والتحضر والانعتاق من "قيود!" اللغة، إلى "مدرسة
نقدية"، تتبنى مقاومة التثاقف بأشكاله وصوره التي تشوه النص وتهتك أستار
لغته، وتهز أركان الفكر، وتمس، بلا هوادة، السمات والخصائص الفنية للرواية، وتجعل
الأحداث في حالة من الفوضى والارتباك وعدم الانتظام، مما يلقي بالقارئ في أتون
ثقافات تبتعد به عن لغته الأم، وتعزله عن همومه الخاصة والعامة، كما تجعل من
القارئ ضحية لكاتب يمارس النرجسية الموجعة، وهمّه الرئيسي التعالي و"إعلاء
الذات"، على حساب الرسالة التي أريد للرواية بثّها في المجتمع كجنس أدبي تسهم
في رفع المستوى الثقافي والمعرفي لقارئيها.
وأما
على المستوى الوطني، فإنني أتفق مع الباحث "أبو
بكر" فيما توصل إليه من كشف سَوْءة كل من يسعى إلى التطبيع مع
الاحتلال على حساب القضية الوطنية الفلسطينية، التي قدم شعبنا الدماء الغزيرة
دفاعًا عنها، ثم يأتي من يسخر من تلك التضحيات ويحصرها في حادثة شذوذ هنا أو هناك،
ويقابل ذلك الإعلاء من شأن من قتل وسفك الدماء وهجّر وطرد وطارد...
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 06/03/2017م
[3] لجأ بعض الكتاب المشهورين إلى استخدام أول حرف من
أسمائهم. وهناك من يُقدِمون على تمجيد أنفسهم بكل صراحة ووضوح، دون أن يهمهم أن
القارئ لن يستطيع تقبُّل فجاجة مثل هذا التمجيد.
إرسال تعليق Blogger Facebook