نصر بلحاجِ بالطيب في روايته "انكسار الظّلّ":
يحتفي بالتفاصيل.. ويتجاوز الهزيمة وظلال الانكسار
نشر في صحيفة القدس
المقدسية بتاريخ: 20/05/2017م/ ص: 18
عزيز العصا
تقديم
نصْر بالحَاج بالطَّيّب؛ طبيب جرّاح تونسيّ ولد في قرية "دوز" من قرى ولاية قابس، على نحو يزيد عن أربعمائة كيلو متر جنوب تونس العاصمة. وهو طبيب جمع بين الأدب والعلم؛ فهو روائيّ وكاتب قصّة وجرّاح في آنٍ معا. وقد عشت، أنا شخصيًّا، هذا الجمع في أوضح صوره؛ فقد خضعت لمبضعه بعمليّة جراحيّة أثمرت بشفاء تامّ والحمد لله من ألمٍ شديد ألمّ بي وأنا في ضيافة مركز الرّواية العربيّة في قابس، وتعرّفت عليه في ندوة "شعرية التّفاصيل في الرّواية العربيّة" المنعقدة في مدينة قابس، وذلك كلّه خلال الفترة (14-16/04/2017).
وأما العمل الأدبيّ الّذي نحن بصدده لـ "نصْر بالحَاج بالطَّيّب" فهو روايته "انكسار الظّلّ" الّتي تأتي بعد إصداره لرواية الأيّام الحافية في العام (2004) ومجموعته القصصيّة "زعفران" في العام (2004) أيضًا. صدرت رواية "انكسار الظّلّ"، بطبعتها الأولى، في العام 2012، عن "الشركة التّونسيّة للنّشر وتنمية الرّسم" في تونس العاصمة. وقد قدّم لها الرّوائيّ والنّاقد المعروف "د. محمد الباردي"، بعنوان: "انكسار الظّلّ أو جماليّة التّفاصيل". تقع الرّواية في (221) صفحة من القطع المتوسّط، يتوزّع عليها من أربعة عشر فصلًا أو محطّة سرديّة، تحمل أرقامًا بلا عناوين، لكلّ منها ثيمة جزئيّة تشكّل لوحة، تتابع مع سابقاتها وتمهّد لمن يلحقها.
تبدأ الرّوايّة بعتبتها الأولى بعنوانها "انكسار الظّلّ" وبغلاف يحمل لوحة للفنّان منير مبخوت، ومن تصميم "المنصف المزغني". يحمل الغلاف ملامح النّصّ الرّوائيّ؛ ملامح الباب الخشبيّ القديم، يعلوه حلقة صدئة، للتّحكم في دوران الباب، ويتوسّطه مكان المفتاح الصّدئ الّذي يحمل هموم الزّمن وعذاباته، تلك الفتحة الّتي إذا دار المفتاح فيها عدّة دورات فإنّه يمنح القاطنين الأمن والأمان والطّمأنينة والسّكينة والهدوء، وما فيه من تشقّقات وانكسارات. وحمل الغلاف سيميائيّة مهمّة في تشويق القارئ للدّخول في (مغامرة) القراءة، عندما اختزل الكثير من المضامين الثّانويّة في الحكاية، والّتي تلهب خيال القارئ وتغريه باقتناء العمل وقراءته[1].
يتكون هيكل الرّواية من بنيتين، هما:
البنية المكانيّة: والّتي تتمثّل، بشكل رئيسٍ ببلدة "دوز" الواقعة في أقصى جنوب تونس، والّتي كان لها طغيانها وبرز أثرها العميق في السّارد الّذي سعى إلى "أنسنتها" كقوله: أصاب الرّمال الرّاكدة، كالنّاس، الاكتئاب والعجز (ص: 11)، وقوله: "ذاكرة الحجر يصيبها الضّمور كمخّ البشر" (ص: 23). وقد احتفى السّارد بالمكان الّذي يجرفه إليه حنين وشوق، بانت ملامحه من خلال ذلك الوصف الدّقيق الّذي يبدو وكأنّه يبتدع قاموسًا لغويًّا خاصًّا، قلّما نظيره، في وصفه للصّحراء برمالها وحجارتها وشجيراتها وطرقها... الخ. ومن تلك القرية الصّغيرة تمتدّ البنية المكانيّة وتتّسع لتشمل قابس وصفاقس وتونس-العاصمة وليبيا وباريس وغيرها.
البنية الزّمانيّة: الّتي لم تكن أقل وهجًا ووميضًا من المكانيّة، فغاص السّارد في أعماق حقبة طفولته المبكّرة في أواسط القرن العشرين، والّتي تأتي ملامحها من خلال الفقر المدقع والجهل والتّخلف الّذي كان يسود تلك الحقبة، الملاصقة لحقبة الحرب العالميّة الثّانية والنّكبة الفلسطينيّة، والّتي تخلّلها انطلاق الثّورة التّونسيّة بقيادة الحبيب بورقيبة، والثّورة المصريّة بقيادة جمال عبد النّاصر، وحالة الانكسار والهزيمة الّتي مُنيت بها الأمّة في العام 1967، واحتلال العراق، مع الإشارة إلى ظاهرة التّعاضد والتّلاحم بين أبناء الأمّة والاستعداد للتّضحية كلّما ادلهمَّ خطب خارجيّ.
رواية متعدّدة الأبعاد
في فهم وإدراك العلاقة بين البنيتين الزّمانيّة والمكانيّة، والشّخصيّات الّتي التقطها الكاتب لبناء روايته، أورد السّارد على لسان إحدى شخصيّاته: الزّمان والمكان جزء من القدر، لا يصيب ابن آدم إلّا ما كُتب له (ص: 24). ونظرًا لهالة وقدسيّة هاتين البنيتين للرّواية، فإنَّ النّصّ اتّكأ على عدّة أبعاد ظهرت من خلال الحبكة الرّوائيّة وحوارات الشّخصيّات، تتمثّل في:
البعد العاطفيّ: فقد كانت العواطف جليّة واضحة، من خلال الاندماج العاطفيّ والوجدانيّ بين الإنسان وبيئته الّتي بقي على عهده معها رغم قسوتها عليه، حتّى استمرّت على شكل رعشة في نفس السّارد وشخصيّات الرّواية، تعيدهم إلى وطنهم مهما ابتعدوا عنه في تونس وفرنسا وغيرهما. كما أنَّ هناك ملامحَ عاطفيّة جميلة بين أفراد مجتمع الرّواية، لعلّ ذروتها في عاطفة الأمومة الّتي وصلت ذروتها عندما كابدت وتلوّعت وعانت من أجل معالجة ابنها حتّى الشّفاء، وتلك الأمّ-الأرملة الّتي حملت الحجارة من أماكن بعيدة جدّا لبناء بيت يحمل اسم ابنها الوحيد.
البعد التّاريخيّ: فقد وظّف السّارد شخصيّات تاريخيّة مهمّة، مثل: جمال عبد الناصر وبورقيبة، والنّكسة وانعكاساتها الّتي شكّلت أحد المحدّدات التّاريخيّة للرّواية، حتّى أنَّ السّارد بلغ السّادسة عشرة من عمره في تلك الفترة؛ ما يشير إلى أنَّه من مواليد منتصف القرن العشرين.
البعد السّياسيّ والفكريّ: رغم البيئة الجافّة والخشنة، ورغم الفقر المدقع والجهل المطبق، كان مجتمع الرّواية مجتمعًا حيًّا استفاد أبناؤه من العلم بمجرّد أنْ نهلوه، فبرز في هذا النّصّ الرّوائيّ تطوّرُ ونموُّ الفكر السّياسيّ المتتابع، بدءًا بـ "عمر الذّيب" الرّجل اليقظ الثّائر على التّقليد والخنوع للحاكم، وانتهاءً بظهور شخصيّات سياسيّة تحمل أفكارًا أمميّة وتقدّميّة مثل: "الحبيب بن مرزوق" الّذي تمَّ تسميته تيمّنًا بالحبيب بورقيبة، ونهل من جَدّته "الأميّة" التّسامح والحبَّ، وانتهى الأمر به قائدًا شيوعيًّا، إلى جانب رفيقيه: المنصف بن عامر وجمال شعبان (ص: 125-126)، وفي الشّيوعيّة تقول إحدى شخصيّات الرّواية: الشّيوعيّ أقوى من الموت وأعلى من المشانق (ص: 147).
رواية توظّف التّفاصيل وتحتفي بها
وأما بشأن بنائيّة الرّواية، فيمكن القول: إنّها رواية الوصف والتّفاصيل؛ لما قام به السّارد من استخدام لمفردات ومصطلحات اختارها بعناية فائقة، كما يختار الرّسّام الحذق ألوانه وريشته والأرضيّة الملائمة الّتي يخطّ عليها لوحته الفنّيّة. وفي ذلك كلّه كان للوصف والتّفاصيل الدّور الواضح في كشف العوالم النفسيّة للشّخصيّات المختلفة في الرّواية، وما يشوبها من فرح وسرور أو غيظ وقهر. وبقراءة متمعّنة لهذه الرّواية وجدتُ أنَّ السّارد أبدع في كلّ وصف وفي كلّ تفصيل، دون مبالغة، وبما يجعل القارئ يبحث عن المزيد منها، ولعلّ أكثر ما رأيته من وصف يكشف عن عوالم النّفسيّة وحسن الانتماء للذّات وللأسرة وللمجتمع، وصفه لبطلة الرّواية "للّتي فاطنة بنت عمر" وهي تملأ الشّكوة حليبًا:
"تجلس رافعة ملحفتها حتّى يتعرّى النّصف الأسفل لفخذها. تعكس ركبتها وقدمُها ثابتة في التراب. تمسك الشّكوة بكلتا يديها، وتضعها على ركبتها العارية، ثمّ تمضي في حركة منتظمة هادئة تمخض الحليب مخضًا لينًا" (ص: 18)
وفي وصف تفصيليٍّ لرحلة تلك الأمّ الّتي كانت تجلب الحجارة لبناء بيت لها ولأبنائها، تقول إحدى شخصيّات الرّواية:
"أصعد الكثبان وأهبط منها كناقة. أضع عصابة رأسي بين عنقي وحبل العديلة الّذي أدماني كما تدمي قدم الرّاكب عنق المهري. تحمّل أيّها القلب المرتجف. تحمّل أيّها العنق المنتصب كوتد. شدّي أيّتها العضلات الأنثى المعروقة وعظّي على الأرض الحامية بأقدامك الحافية" (ص: 25)
أمّا في وصف المكان، فنجده يشير إلى البيئة، وما تتركه من أثر في قاطنيها من الصّغار والكبار، كقوله:
"تجمّع نفر من الصّبية في ظلّ شجرة كلاتوس[2]. ما زالت أشعة الشّمس مؤذية فاستجاروا في الظّلّ. بدت شرقي الطّريق قاحلة صلبة جبسيّة تكسوها الأحجار الصّغيرة وبعر الماعز (...) لاح في الشّرق البعيد الخلاء المؤدّي لمزيد من الخلاء" (ص: 170)
وفي جميع التّفاصيل الّتي تمّ توظيفها لخدمة السّرد، نجد أنّ السّارد استخدم الأدوات اللّغويّة المتعدّدة من التّصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة والسّخرية (المرّة)، فاجتمعت في الرّواية متعة السّرد ومتعة الإيهام بالحقيقة، عندما وظّف الوصف الّذي أصبح مضطلعًا بوظائف مهمّة في بنية واقتصاد النّصّ الرّوائيّ، فتحدّدت في هذه الرّواية، بالوظائف التّالية([3]): الوظيفة الواقعيّة؛ بتقديم الشّخصيّات والأشياء والمدارين المكانيّ والزّمانيّ كمعطيات حقيقيّة للإيهام بالواقعيّة. والوظيفة المعرفيّة؛ بتقديم معلومات جغرافيّة أو تاريخيّة أو علميّة أو غيرها[4]. والوظيفة السّرديّة؛ بتزويد ذاكرة القارئ بالمعرفة اللّازمة حول الأماكن والشّخصيّات، وتقديم الإشارات الّتي ترسم الجوّ أو تساعد في تكوين الحبكة. والجماليّة؛ الّتي تعبّر عن موقع الكاتب (السّارد) داخل نظام الجماليّة الأدبيّة. والوظيفة الإيقاعيّة؛ لخلق الإيقاع في القصّة: إذ إنَّ قطع تسلسل الحدث لوصف المحيط الجغرافيّ الّذي يكتنفه يولّد تراخيًا بعد توتّر، وقطع تسلسل الحدث في موضع حسّاس يولّد القلق والتّشويق، وبالتّالي التّوتّر.
وقد وجدت تلك الوظائف قد اجتمعت معًا، لأتّفق مع ما يقوله "د. محمد الباردي" في تقديمه لهذه الرّواية: "تنخرط في جماليّة المفصّل واليوميّ، وقد أبدع السارد في رصد هذه التّفاصيل الدّقيقة الّتي يعيشها النّاس في بلدة دوز أو يعيشها السّارد مع أقرانه في مدينة قابس" (ص: 8). كما أجرى البدري (2017)[5] دراسة "معمّقة" حول هذه الرّواية بعنوان: الوصف في الرّواية: تمثيل للمرويّات وموقف من العالم"، يقول فيها: هكذا، نتجاوز بمقولة الوصف أنّه فقط مجرّد تمثيل للموجودات، إلى كونه سبيلًا إلى تغيير العالم، وطريقًا إلى بنائه بحسب ما ترتئيه الذّات الواصفة ومن ورائِها المؤلّف".
رواية تضع المرأة في مكانها الصّحيح
لا يمكن للقارئ لهذه الرّواية أنْ يغادرها قبل أن يخرج بنتيجة مهمّة تشير إلى أنّه كان للمرأة فيها مكانتها؛ كأمّ وزوجة وشقيقة. كما أنّ الرّواية تحتفي بالمرأة ودورها في بناء اقتصاد الأسرة والمجتمع، ومتابعة تربية الأبناء ومراجعتهم لدى الأطباء، حتّى عندما كان الطّبّ بمستوى الشّعوذة.
فالعجوز "للتي فاطنة بنت عمر" تأخذ فيها دور البطولة، وبقيت تشكل خيطًا روائيًّا متينًا حتّى أواخر الرّواية، وينافسها في هذا الدّور عجوز أخرى هي "للتي مريم بنت خالد"، وقد كان للحوارات بين هاتين العجوزين مساحة واسعة في وصف ملامح العمق التّاريخي للرّواية، والصّراع القائم بين الأجيال؛ من خلال تعليقاتهما "اللّاذعة" على الجيل الأصغر الّذي أطلقتا عليه "جيل هات" (ص: 33، 39). وفي ذلك إشارة إلى أنّهما تعيبان على هذا الجيل من المرأة التّقاعس عن دوره في الإنتاج، وإحالة الأمر إلى الرّجل (الزّوج) وحدَه.
رواية تمتدّ خارج مكانها.. فتعمّ جغرافيا
الوطن العربيّ
منذ اللّحظة الأولى الّتي شرع السّارد في وصف مشاهداته في طفولته المبكرة، وجدتُني شريكًا كاملًا له فيما يسرد وفيما يصف بأدقّ التّفاصيل والأحداث اليوميّة الّتي تجري في قريته تلك. وفي الغالبيّة العظمى للمشاهد كانت تعلو وجهي ابتسامة تتراوح بين الألم والوجع النّاجم عن الفقر المدقع، حيث كان الأطفال يأكلون البلح الأخضر كالشّياه (ص: 24)، والوسائد الّتي تحمل صور النّعام بذيله الطّويل، أو تحمل عبارات "نوم الهناء"، وجفاف المكان وقحطه الّذي عشته وعايشته، كما يصف السّارد، وبين القيم والمثل العليا والصّدق والتّفاني في خدمة الفرد للجماعة وتكافل الجماعة مع الفرد.
ولم أكن، في طفولتي، بعيدًا عمّا يقول به السّارد من صراع بين الأجيال، وانكسارات وهزائم وثورات وخطابات، والّتي توَّجَها في نكسة العام 1967 والّتي يقول فيها السّارد "رفعت بقرة ترعى رأسها حين كادت الطّائرة تمسّ قرنها"، تلك اللحظة الّتي عشت تفاصيلها بأكثر وجعًا وألمًا؛ لأنَّ قريتي كانت تحت القصف المباشر لطيران العدوّ ومدفعيّته، حيث كنت أقود "حمارًا محمّلًا بحصاد القمح"، فكادت الطّائرة تشقّ ظهر الحمار"، وشاهدت الشّهداء وهم يُضرّجون بدمائهم، والمهجرين يلوذون بحثًا عن مأوى.
وما تبع ذلك من توجّهنا للجامعات، كما توجّهت شخصيّات الرّواية، حيث النّظريّات السّياسيّة والأيديولوجيّات والأحزاب الّتي تعجّ بها ساحات تلك الجامعات وأزقّتها وحدائقها ونواديها، ومن هناك عاد كلّ منّا وهو يحمل فكرًا ونظريّة يرى فيهما التّحرر من رِبْق الاستعمار والخلاص من الفقر والجهل والتّخلف، وكانت "الاشتراكيّة" هي القاسم الأعظم المشترك بين تلك الأحزاب.
وإذا كانت قريتي بجوار القدس؛ تبعد عن قرية السّارد مسافة تزيد عن ثلاثة آلاف كيلو متر، فإنّني أرى فيها شهادة لجيل ستينيّات القرن العشرين في أرجاء الوطن العربيّ كافّة.
رواية تترك في القارئ أثرًا لا يُنسى
إلى جانب أنَّ السارد أمسك بناصية اللّغة ووظّف معرفته الواسعة وقدراته اللّغويّة المتميّزة، فإنّه لا تكاد تمرّ فقرة في هذه الرّواية إلّا وفيها عبارة تتّسم بالحكمة أو القول المأثور أو الفلسفة أو المعلومة الّتي أراد السارد بثّها بين جمهور قُرّائه. وفي محصلة ذلك كلّه نجد أنّ هناك أثرًا باقيًا ومستمرًّا لدى القارئ يضيف إلى ثقافته ومعرفته ما هو جديد، مثل:
أولًا: أقوال وحِكم:
ففي مفهوم مواجهة الإنسان لعجزه وضعفه يشير السارد إلى أنَّ "الضّعف يدفع الإنسان لصنع عكّازات القوّة من النّصل الحجريّ حتّى السّلاح النّوويّ. "كما أنَّ الوهن والخوف والحاجة نطفة الخلق ومضغة الإبداع (ص: 13). وتقول إحدى شخصيّاته في لحظة عجزها: "ابن آدم عبارة عن عقل وعينين وركبتين" (ص: 14)، وهي ترى أنَّ "الزّمن لعبة غاشمة على رقعة الجسد؛ يعوّض السّواد بالرماد، والواضح بالغائم، والطّائر بالزّاحف، والمستقيم بالمنحني" (ص: 20). وفي خِضمّ صراع الشّيخوخة هذا "تنشد الأعضاء الآدميّة الخلود؛ كلّما خبا أو انطفأ عضو منها هبّ عضو آخر لنصرته أو لتعويضه" (ص: 23).
وفي مواجهة شظف العيش يقول السارد: "العناء رحيق الإنسان يحمي الظّهر من الانكسار والنّفس من الهزيمة" (ص: 25).
وفي التّحذير من الانقياد والرّتابة والحمق يقول "عمر الذّيب"[6]؛ وهو الشّخصيّة المتمرّدة على الواقع والدّاعية إلى الثّورة والتّغيير: "نصطاد الأرانب والغزلان بوضع الفخّ في مساربها الّتي تعوّدت السّير فيها. المسرب دليل الحمق" (ص: 93).
ثانيًا: صراع الأجيال:
يتّضح من مجريات الأحداث في الرّواية كيف أنَّ الجيل القديم يقاوم الجديد، حتّى أنّ هناك من قال: "كانت أيّامنا أيّام هول وجوع ولكنّها أطول وأحلى"، (ص: 37)، والعجوز الّتي تربّت على ارتداء "البخنوق والغنبوز"، والّتي "لم تذكر اسم زوجها يومًا" (ص: 20)، "ما زالت تمدّ يدها على رأسها كلّما لاح خيال رجل" (ص: 16) وهي ترى "أغاني الراديو مليئة بقلّة الحياء" (ص: 15)، و"الأطفال رضعوا قلّة الحياء مع الحليب" (ص: 17). في لحظة ما، واحتجاجًا على توقّف الأمّهات عن إرضاع أطفالهِنّ قالت عجوز ساخرة: "سيأتي زمن تلد فيه الآلة صغارًا عوضًا عنّا" (ص: 34).
إلّا أنّه بمرور الزّمن يبدأ جيل الأجداد بقبول جيل الأحفاد ويعترف بهم وبإنجازاتهم ودورهم في تحرير البلد من الاستعمار (ص: 39-43)، والعجوز (للتي مريم بنت خالد) تحضر فيلمًا ليوسف شاهين" وكانت تخز جنب ولدها بعكّازها كلّما عجزت عن سماع أو فهم الحوار" (ص: 133). وتبدأ الحياة تأخذ مجراها، ويبلغ السّارد السّادسة عشرة من عمره، ويندفع هو وجيله نحو الحضارة الأوروبيّة، فينهلوا منها العلم والمعرفة ويعتنقوا النّظريّات السّياسيّة في أجواء "الجدليّة المادّيّة والاشتراكيّة العلميّة ودكتاتوريّة البروليتاريا" (ص: 75). وفي ظلّ ذلك يتوصّل السّارد إلى أنّه "للمدينة إغراء وللمعرفة آفاق ولاكتشاف الآخرين نشوة" (ص: 129).
وانتهى أمر المكان بأنْ "تكدّست الحوانيت وحيطان الياجور فضاقت باحة الحوش الواسعة. غمر الحيطان لون الأسمنت الرّصاصيّ ولون الياجور العاري. نتأت عيدان الحديد كالخوازيق. مرقت درّاجة نارية مسرعة يركبها فتى يلبس سترة من الجلد الصّناعيّ. حلق رأسه على طريقة المارينز" (ص: 220). وفي مواجهة الإحباط الحالي يقول السّارد: "لا ينبغي أنْ يكون الماضي أفضل من الحاضر والمستقبل" (ص: 221).
ثالثًا: الجهل يولد الخرافات والأساطير:
في خِضم الجهل والتّخلف يظهر الدّجّالون والمشعوذون، فنجد أنَّ هذه الرّواية "توثِّق" لما كان يجري في ذلك الزّمن فيظهر "اليهوديّ" الغنيّ، والمشعوذ "مبارك برادع"، و"مبارك بو شلّيقة". وفي لحظة خضوع تامّ تقول عجوز: يضو ضوّك يا مبارك. نحن تحت أقدامك أيّها الرّجل المبروك المبارك" (ص: 61). وكانت النّسوة يبذلن الغالي والنّفيس في إرضاء المشعوذين، والسّماح لهم بدخول بيوتهِنَّ أملًا بالشّفاء على أيديهم.
رابعًا: فلسطين حاضرة في الرّواية:
في الفصل الخامس من الرّواية تخيّم أجواء حرب العام 1967، حيث: "هتف النّاس لفلسطين وللقدس وللعروبة، واعترى النّاس الذّهول والإعجاب وهم يتطلّعون إلى الجنود الذّاهبين إلى جبهة القتال في مصر ليحرّروا المسجد الأقصى"" (ص: 105-106). ويستمرّ السّارد في وصف أجواء تلك الحرب، ووصف معلّم التّاريخ "إسرائيل" بالقول: "سيكون هذا الكيان المعدنيّ المستورد المولود من رحم جهنم سببًا في خراب الكون" (ص: 114). وينتهي الأمر بقول إحدى شخصيّات الرّواية: "لقد كذبت إذاعات العرب" (ص: 123). وحتّى على مستوى العالم اتّفق السّارد مع إحدى شخصيّات الرّواية (في العام 1989) أنَّ "سقوط جدار برلين وانهيار المجتمع الاشتراكيّ (جعل) أمريكا تتحكّم في النّواصي" (ص: 149)، ويقول السّارد: "لم يبق إلّا ظلّي المنكسر ينضح بالرّاحة والنّعيم" (ص: 152).
خلاصة القول:
لقد أمضيت ساعات جميلة وأنا أقرأ رواية "انكسار الظّلّ" لكاتبها "نصر بالحاج بالطّيّب"، الّتي هي سرد مشبع بالتّفاصيل الّتي تشير إلى سارد متمرّس في اللّغة وممتلك لعمق معانيها، وقادر على توظيفها بشكل دقيق بما يخرج القارئ من الملل والرّتابة. كما أنَّ فيها من عمق المعرفة والأحداث ما يغطّي الوطن العربيّ برُمّته، فيتجاوز الهزيمة وظلال الانكسار، ويعيد التمحور حول الوعي الوطني والقومي لما يقوم به الاستعمار من أفعال شريرة على الأرض العربية.
هذا ما يجعلني أوصي بنشرها في جميع أقطار الوطن العربيّ؛ من أجل قراءتها من قبل نقّاد عاشوا تلك الحقبة، لكي نرصد حجم التّطابق في الظّروف بين أبناء الأمّة، على اتّساع الجغرافيا، ما يشير إلى أنَّ أبناء الأمة في أقطارها كافّة كانوا تحت نفس مقصلة الفقر (أو الإفقار) والتّجهيل والقمع والحصار الفكريّ، فعندما لم يُسمح لأبناء تونس الاستماع إلى مِذياع صوت العرب إلّا عندما أصبحت طائرات العدوّ "تمسّ قرون أبقارنا في العام 1967"، تمّ نفس الشّيء لأبناء بلاد الشّام أيضًا!
فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 27/04/2017م
[1] القاضي، عبد المنعم زكريا (2009). البنية السّرديّة في
الرّواية، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة. ط1. القاهرة. ص: 272.
[2] تعرف
بأنّها "أشجار الحاكم" الّتي تمّ زراعتها من قبل عمّال الحضائر. ومنذ
زراعتها أصبحت الأرض ملكًا للحاكم، وكلّ شاة تأكل أوراقها أو حتّى تتنفس عليها
يتمّ احتجازها، ولا يطلق سراحها إلّا بعد أن يدفع صاحبها غرامة ماليّة أو يتمّ
حبسه (ص: 177-178).
[3] زيتونيّ، لطيف (2002). ومعجم مصطلحات نقد الرّواية. ط1. مكتبة لبنان/ ناشرون. بيروت، لبنان. ص: 172.
[5] البدري، أحمد النّاوي (2017). الإحالي والجماليّ. دار الحوار للنّشر
والتّوزيع. اللّاذقية. سوريا. الطّبعة الأولى. ص: 159-185.
إرسال تعليق Blogger Facebook