0
نفحات رمضانية:
كيف نقرأ القرآن في شهر القرآن؟!
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 01/06/2017، ص: 16
                                                         عزيز العصا
قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ  فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ  وَمَن كَانَ  مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (البقرة: 185). لو أمعنّا النظر في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنها تضم في ثناياها مدرسة كاملة في تعريف الصوم وأهميته وضرورته لكل من الفرد والجماعة، وذلك في أجواء التيسير والتسهيل والتخفيف عن المضطر لمرض أو لسفر، تلك الأجواء المشبعة بالرحمة والعطف والمحبة الإلهية لعباده الذين يتوجهون إليه صائمين مصلّين مؤمنين، حقّ الإيمان، به وبربوبيته سبحانه وتعالى.
لذلك، فإن هذا الشهر الفضيل، لا يختص بعبادة الصيام وحسب، وإنما هو شاهد على جميع العبادات. والعبادات هي تطبيق عملي لما ورد في القرآن الكريم، ولما أنزل من أجله هذا الكتاب المبين؛ هدى ومنارة للناس نحو الفضائل والقيم والمثل العليا الإنسانية من الحب والتسامح والعدل ونصرة المظلوم وردع الظالم، وما إلى ذلك من اللوائح والقوانين والنظم الاجتماعية والاقتصادية والإدارية التي تجعل من العبادات -الصوم واحد منها- عوامل للنهوض ورفع الهمم والرفعة والسمو في أخلاق المؤمنين التي جعلت منهم "خير أمة أخرجت للناس".
انطلاقًا من هذا الفهم لعبادة الصوم ودورها في تهذيب النفوس، وحرصًا على عدم تضييع أي فرصة، مهما صغرت، من أجل كسب الحسنات، والمزيد منها، فإنه لا بد أن نقف وقفة جادة مع الذات؛ من أجل المكاشفة ووضع النقاط على الحروف، بل وجعل الحروف أكثر جلاءً ووضوحًا.
من بين الأمور التي تلفت النظر، في هذا الشهر الفضيل، الاندفاع نحو قراءة القرآن وتلاوته وترتيله. ويرى من يقوم بذلك أن في ذلك استكمال لعبادة الصيام، كما أن فيها جلاء للصدور ورفعة للنفوس. ونحن نتفق مع هذا القول وهذه الرؤيا، إلا أنه من الأهمية بمكان التحذير من القراءة السريعة والخاطفة، الهادفة إلى قطع أكبر عدد ممكن من الآيات و/أو الصفحات!
فالقرآن الكريم، وهو يعادل كتاباً من (300) صفحة، ليس كباقي الكتب التي مرّت على البشرية؛ فقد أحدث تغييراً هائلاً وجذرياً في مسيرة البشرية الفكرية والسلوكية([1]). إذ كان القرآن للناس كافة، ووسائل إقناعه كثيرة، لا تعتمد على اللغة فقط؛ بل هناك مظاهر الإعجاز الأخرى، وهناك ما يمكن أن نقيم به الحجة على العالمين([2]). وقام الشيخ "إبراهيم عوض الله" برصد أوصاف القرآن الكريم من القرآن نفسه، فوجدها([3]):





أولًا: ورد في عدد من الآيات أن القرآن عربي اللغة، وأنه غير ذي عوج، مصداقًا لقوله تعالى: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الزمر: 28). أي أنه القرآن أنزل بلغة عربية واضحة وجليّة، ولا اعوجاج فيه البتة –لا من جهة الألفاظ ولا من جهة المعاني-، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من العيوب جميعها في ألفاظه ومعانيه وأخباره.
ثانيًا: للقرآن عدة خصائص وسمات لا يمكن أن تجتمع في أي كتاب آخر؛ فهو قرآن كريم وعظيم ومجيد ومبين. ولن يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
ثالثًا: وأما بشأن أثره وتأثيره على كل من يقرأه أو يستمع إليه، فهو يهدي للتي هي أقوم، وشفاء ورحمة وهدى ونور، وقرآن الفجر مشهود، وفيه من كل مثل. ولما سمعه الجن شهدوا له بالعجب، ولو أنزل (القرآن) على الجبال فإنها تخشع وتتصدع من خشية الله.
أضف إلى ذلك أن القرآن قدّر العقل البشري، أجلَّ تقدير، عندما انفرد بمنهجية تجعل الإنسان قادراً على استخدام عقله؛ لاستنباط الإجابات المنطقية لأسئلة منطقية، تحمل في طياتها تقديراً لهذا العقل الذي حباه الله به من دون خلقه. فتجد أن القرآن الكريم يضع المتدبّر لآياته في مواجهة أسئلة منطقية تجعله يكتشف الحقيقة بنفسه، عندما يضع الخلق أمام سؤال يجعلهم يتوصلون إلى أهمية وجودهم وفق منظومة متكاملة من الأوامر والنواهي والثواب والعقاب لينتهي بهم الأمر في الآخرة؛ حيث الحساب والجزاء، بقوله: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115)([4]).
لهذا، ولغيره مما لم يُذكر، نحث على التمهّل في قراءة القرآن؛ ليتمكن القارئ من تطوير منهجيّة التفكير التي يعلمنا إياها من خلال تدبر آياته والتّفقّه فيها. لأن الخالق، جل شأنه، لم يشأ لعباده أن يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، وإنما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلّم كتاب فكر، وعلم يهدي إلى الإيمان، مصداقاً لقوله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: 11).
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 29/05/2017م




[1] جرار، بسام. القرآن ومنهجية التفكير. انظر الموقع الالكتروني: http://www.islamnoon.com/Nashrat/quran.htm
[2] المجالي، محمد خازر (2005). مصطلح "التفكر" كما جاء في القرآن الكريم.  مجلة الشریعة والقانون، 23. ص ص: 21-94.
[3] عوض الله، إبراهيم (2017). شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. مجلة الإسراء (تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد:3407. ص: 16-28.
[4] العصا، عزيز (2013). القرآن الكريم يعلمنا كيف نفكّر. مجلة الإسراء (تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد: 107. ص: 37-45.

إرسال تعليق Blogger

 
Top