عن العلاقة بين اليهودية والصهيونية وأفق
التسوية
د. وليد الشوملي[1]
التهجير والإبادة: الفقه اليهودي المعاصر تجاه
العرب
أحمد أشقر
بيروت: مكتبة بيسان، 2018. 232 صفحة.
بدأت بذور
الفكر الصهيوني بالانتشار في أوروبا بين أتباع الحركة البيوريتانية في القرن
السادس عشر خاصة في إنجلترا قبل أن تنتقل إلى اليهود أنفسهم الذين تبنوها بعد أكثر من قرنين من الزمن خاصة ومن خلال حركة الهسكلاة
(أي التنوير اليهودي) التي قادها في
ألمانيا الفيلسوف اليهود الألماني Moses
Mendelsshon (1729- 1786). وقد تزامنت تلك الحركة مع حالة
الغليان التي سبقت الثورة الفرنسية ببضع سنوات.
وقد استندت
الهسكلاة إلى مبدأ أساسي وجوهري هو التوفيق بين القيم اليهودية والعيش في ظل دولة
معاصرة، حيث كان اليهود قبل ذلك يعيشون في بلدانهم الأوروبية في تجمعات أو جيتوهات ينأون فيها بأنفسم عن
باقي شرائح المجتمع حرصاً على نقاء قيمتهم اليهودية وعلى عدم اندماجهم في
مجتمعاتهم ومنكبين على دراسة التلمود غير عابئين بما يدور حولهم.
وعندما جاءت
تلك الحركة لتحثهم على الانعتاق الذاتي خارج جيتواتهم، بدأ اليهود بتبني الفكر
الصهيوني الذي غرس فيهم فكرة إقامة دولة لهم في أي بقعة في العالم وكانت فلسطين
إحدى المناطق المقترحة لإقامة تلك الدولة.
يقرّ الأدب
السياسي العربي بضرورة فصل اليهودية عن الصهيونية باعتبار الأولى ديناً سماويا
والثانية حركة استعمارية. أي لا علاقة بينهما. هذا الفصل تربت عليه أجيال من العرب-
وأنا منهم- حتى بات ثابتاً لا يقبل القسمة أو النقاش. لكن في الكتاب الذي بين أيدينا
يبدو أن الأمر مختلف جداً. فالباحث (أبو الأشقر) ينطلق من المبدأ القائل أن
الصهيونية هي الفقه المعاصر لليهودية.
يقسم أبو
الأشقر كتابه: التهجير والإبادة: الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب، الصادر
في بيروت في العام 2018، إلى ثلاثة أقسام: المقدمة- والتي عبارة عن أسباب هذا
الفصل وغياب الترجمة وأهميتها؛ وقسم المقالات المترجمة والتي عبارة عن عشرة مقالات
اختارها الباحث بعناية من مجلات دينية يهودية تعبّر بأمانة وعمق عن هذه العلاقة
(اليهودية والصهيونية)؛ والتعقيب الذي هو عبارة عن سبع مقالات، يقدم الباحث من
خلالها قراءات للجذور اليهودية في الممارسات الإسرائيلية اليومية للتأكيد على أن
العنصرية التي تمارسها الدولة الصهيونية على الفلسطينيين ولدت من رحم العقيدة
اليهودية التي تنظر إلى الـgoyem على أنهم
أدنى منزلة من اليهود وأعلى من الحيوانات. وبالتالي يكون الصهاينة قد زاوجوا بين
الفكر والعقيدة. ويسلط الباحث في كتابه هذا على عدة رسائل هامة عبر اتباعه المنهج
الوصفي التأصيلي متبوعا بالمنهج التحليلي:
أولا: يبين لنا في مقدمته الهوة الواسعة بين ما نقوم به من أبحاث
ودراسات وترجمات وبين ما يقوم به الباحثون والمترجمون في الجانب الإسرائيلي الذين
يهتمون بأدق التفاصيل عنّا بينما جلّ ما نهتم به نحن هو رغبات بعضه بالتسوية معنا.
كما يبين لنا أهمية ودقة الأرشفة لديهم مقابل عدم الاكتراث في أرشفة العديد من
المواضيع لدينا. كما يتساءل عن السبب من وراء إهمالنا في ترجمة الأدبيات اللاهوتية
اليهودية التي تشكل لنا الإطار المعرفي الذي من خلاله نستطيع سبر غور العقلية
اليهودية وذلك لفهم طبيعة العلاقة العضوية بين اليهودية والصهيونية، وكذلك فهم
أهمية الدور الذي يلعبه الفكر الديني اليهودي في الحياة السياسية في اسرائيل.
والمثل المعروف يقول "المعرفة قوة" وبهذا الصدد يقوم الباحث بقرع جرس
الانذار ليوقظنا من سباتنا وينبهنا من العواقب المترتبة من الاستمرار في عدم
الاهتمام بترجمات تتعلق بصلب العقيدة اليهودية خاصة الأدبيات اللاهوتية اليهودية.
ويتساءل المرء بهذا الصدد: كم منا نحن الفلسطينيون نعرف عن الفكر اليهودي، أو
الطقوس اليهودية أو الأعياد اليهودية، وكذلك المناسبات التي أدت إلى الاحتفال بتلك
الأعياد. ألا يساعدنا هذا على فهم العقلية
اليهودية بشكل أعمق وفهم نظرتهم إلى باقي الشعوب خاصة نظرتهم إلى الشعب الفلسطيني؟
وهنا تأتي حاجتنا إلى تطبيق منهجية الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650)
المتمثلة بالشكّ، والتفكيك، والتركيب والاشتراك التام. وهذه الأخيرة تعني شمولية
المعرفة أي معرفة الظاهرة معرفة يقينية شاملة ومن كافة الجوانب.
ثانيا: اليهودية والصهيونية وجهان لعملة واحدة وأن سياسات دولة
اسرائيل العنصرية تستند بالأساس على العقيدة اليهودية التي تعتبر اليهود شعب الله
المختار الذين اختارهم الله ليكونوا أسيادا على العبيد ألا وهم الجوييم من غير
اليهود، ولا نرى هناك فرق بين جوي((Goy وآخر. ونرى تلك العنصرية والنظرة الفوقية متجلية في كثير من
المقالات التي أوردها الباحث وخاصة المقالة العاشرة بعنوان "قتل
الأبرياء" للرابي "يوسي أليتسور" الذي يدعو فيها إلى قتل جميع
العرب بمن فيهم الأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء. وهم يبررون ذلك بأنه انتقام
رباني من الجوييم (Goyem) الذين يعادون اليهود لانهم
بالتالي يعادون الله الذي ميزهم عن غيرهم.
ثالثا: يلقي الكاتب باللائمة على الأفراد والفئات المختلفة
للشعب الفلسطيني والعربي التي تحاول عدم المس بالدين اليهودي لا بل إجلاله كأول
دين سماوي ومحاولة فصله تماما عن الفكر الصهيوني، وكأن الدين لا تربطه علاقة بذلك
الفكر. فعلى عكس ذلك، يحاول الكاتب أن يبين حقيقة أن الملهم الأساسي والمحرك
الرئيسي للفكر الصهيوني هو الدين اليهودي الذي يضع اليهود في منزلة أعلى من كل
فئات البشر. فاليهودي في يوم زفافه يقول : " الحمد لله الذي خلقني
يهوديا وكذلك ذكراً". إذن فإن الشوفينية في الفكر الصهيوني منبثقة أصلا من
جوهر الدين نفسه. وبالتالي فإنهم محكومون بالعقلية المانوية التي تؤكد الصراع
الأبدي بين الخير الذي يمثله اليهود والشر الذي يمثله الأغيار.
رابعا: جاءت إقامة إسرائيل نتيجة تحالف كبير وعجيب بين الأسطورة
والدين ورأس المال والفكر الاستعماري. إذ أن توظيف أسطورة أرض اسرائيل وربطها
بالوعد الإلهي لم يكن كافيا لإقامة دولة اسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، بل تقاطع
هذا العامل بمصالح الدول الغربية الاستعمارية التي تمثلت في خلق جزء غريب يفصل
بين الشطر الآسيوي من الوطن العربي عن شطره الإفريقي. فقد دقت حملة ابراهيم باشا
على فلسطين وتهديده للباب العالي في عام 1832 ناقوس الخطر لدى القوى الغربية
الاستعمارية في أنه إذا ما توحيد الوطن العربي كله خاصة مع ظهور البترول في
المنطقة، سيشكل كتلة كبرى تهدد مصالح تلك الدول، ولذا كان لا بد من زرع جسم غريب
لمنع تشكل جسم الوطن العربي الواحد. وقد تمثل هذا الخوف الغربي في عقد مؤتمر كامبل
بانرمان Campbell
Bannerman الاستعماري عام 1907 حيث عقد برئاسة بانرمن نفسه
الذي كان آنذاك رئيس وزراء بريطانيا، والذي كان من نتائجه ضرورة خلق كتلة بشرية
صديقة لأوروبا ومعادية لمحيطها تمثل مصالح الغرب في فلسطين وتعزل شرق الوطن العربي
عن شطره الافريقي وتكون بجانب قناة السويس التي هي بمثابة الشريان المائي الحيوي
الذي يربط البحر الاحمر بالبحر المتوسط.
خامسا: يقدم الباحث قراءة هامة وغير مسبوقة لخطاب نتياهو في
جامعة بار- إيلان حيث يقول محللا الخطاب: "نتنياهو للعرب: حربنا ضدكم
أبديّة!" وتعود سبب هذه القراءة لأن الباحث تجاوز السياسي في قراءة الخطاب
المذكور وولج في عمق الثقافي فيه. وفي ذلك فإنه يرى أننا لم ندرك بعد أن الصراع
بيننا وبينهم يتعدى البعد السياسي إلى البعد الديني والاجتماعي والثقافي. هنا يكمن
الفرق بين تسوية سياسية قد تكون مرحلية لإيجاد صيغة توليفية للعيش البائس على نفس
البقعة الجغرافية، وهذا النمط من العيش أفضت إليه محاولات التسوية التي قامت بها
إسرائيل، وبين مصالحة تاريخية مستحيلة قد تشمل أيضا الأبعاد الأخرى آنفة الذكر. والباحث
في كتابه هذا لا يرى أي أفق سواء على المدى القريب أو المدى البعيد لعقد تسوية
تأخذ بالمصالح الدنيا للشعب الفلسطيني. إذ كيف يمكن للإسرائيلي أن يصنع سلاما مع
جوييم يعتبرهم أدنى منه مرتبة؟
سادسا: يقدم لنا الباحث مقالاً غاية في الخطورة ألا وهو المقال
التاسع من المقالات المترجمة بعنوان "على إثر الحرب على غزة" لـ"رابي
دوف ليئور"، أن هذا الأخير يعلل
السبب في الحرب على غزة هو تساهل الكيان الصهيوني مع المقاومة في غزة. وهذا سببه
ابتعاد اليهود عن دينهم، أي أنهم لو اتبعوا تعاليم دينهم لكانوا قد قضوا على جميع
الفلسطينين في قطاع غزة. ويجب علينا النظر إلى هذه المسألة من زاويتين، الأولى أن
موقعهم السياسي إزاء الفلسطينين أرحم بكثير من موقعهم الديني، والثانية أن الفئات
المتشددة دينيا من كافة الأديان ترى في السبب الرئيسي للهزيمة يكمن في الابتعاد عن
الدين، وهذا ما تراه لدى الكثير من الفلسطينيين الذين يخلصون إلى نفس النتيجة. فهم
يقومون بتعليل الهزائم الأرضية بذرائع سماوية غيبية مما يتسبب في حرف مسارهم عن
البحث الحقيقي عن أسباب الهزيمة وإيجاد الوسائل والأدوات الصحيحة لتقويم أوضاعهم.
والمقال المذكور عبارة عن تلخيص أمين لكتاب "عقيدة السلطة" الذي كتبه
(الرابي إليتسور) بالتشارك مع (الرابي يتسحاك شبيرا) فيها يفتيان بضرورة إبادة
العرب كافة. يمكن قراءة تلخيص لهذا الكتاب في الملحق رقم 7 من الكتاب.
سابعا: ينقل لنا الكاتب النظرة اليهودية الصادقة بخصوص الالتحاق
بالجيش، فيبين لنا إلى أي درجة يركز الكاتب اليميني "روبي فاينطروب" على
قداسة الجيش ومكانته في المجتمع، ويعتبر أن أي تخاذل في الالتحاق به وكأنه دعوة لسفك
دماء اليهود، لأن الجيش فقط هو حامي الدولة والنفس اليهودية.
وهذا ما يفسر لنا كيف أنه عندما كان يتم تخريج دفعة من إحدى فرق الجيش الاسرائيلي
وإلى سنوات خلت، كان يهتف الخريجون: "مسعدة [متسادا] لن تسقط ثانية".
وهي عبارة رددها بوش الابن باللغة العبرية في الكنيست الاسرائيلي عام 2008 (للمهتمين
بقضية متسادا يمكنهم قراءة الكتاب الهام: "سردية مسادا ومكانتها في التعبئة
الصهيونية.. دراسة حالة في الوعي الزائف" الذي وضعه الباحث إبراهيم عبد
الكريم (تعود جذوره إلى قرية مغر الخيط الفلسطينية ويعيش حالياَ في دمشق).
وهذا أيضا يفسر
لنا مدى تقديرهم لجنودهم وإعطائهم أعلى قيمة روحية ومعنوية وبالرغم من أن كل نفس يهودية لها قيمة كبيرة في
اسرائيل، إلا أن قيمة الجندي تفوق كل قيمة. وهذا ما يفسر استعداد حكومة إسرائيل
مقايضة جثة جندي واحد محجوزة لدى حماس على سبيل المثال بعشرات من المعتقلين الفلسطينين.
وهذا يذكرنا أيضا بكتاب "هيد هحزقاه" الموسى بن ميمون (رمبام) الذي يبين
فيه أن اليهود في زمن الحرب يصبحون جسدا واحدا ويجب عليهم إنكار الذات وعدم أخذ
المخاطر في الحسبان، على عكس الصورة النمطية التي رسمت لنا منذ الصغر عن جنودهم
أنهم جبناء إذا ما تم تجريدهم من الآلة الحربية الكبيرة التي تحميهم. وبهذا يكون
قد تم تقاطع بين الفكر اليهودي المتعالي على باقي الأمم والفكر النازي الذي يعتقد بتفوق
الجنس الآري على باقي البشر.
ثامنا: كان الإعتقاد السائد أن الفرق في التسميات ما بين إيل
وايلوهم ويهوة ينبع من اختلاف سيميائي لا أكثر، إلا أن الكاتب يبين لنا أن الإختلاف
جوهري مما يعني أن اليهود لم يكن لديهم إله واحد بل كان لديهم تعدد الالهة كما هو
الحال لدى الأقوام التي عاشوا معها أو التي كانت تعيش في مناطق الجوار. وهذا شئ في
غاية الأهمية وأنه أقرب إلى المنطق كون
اليهود تأثروا بالكثير من الأديان والحضارات المحيطة والتي سبقتهم خاصة الحضارة
البابلية وآلهتها واساطيرها.
خلاصة: إن الحقد على الجوييم والتعالي عليهم هو من صلب العقيدة
اليهودية الذي انعكس في الفكر الصهيوني والسياسية الإسرائيلية تجاه الفلسطينين.
ووفقا لذلك لا يبدو في الأفق لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد أي أمل لحل
الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لأن ذلك يتطلب مصالحة تاريخية غير معني بها الجانب
الإسرائيلي على الإطلاق من منطلق النظرة الفوقية التي يتبناها. لقد أورثنا اليهود الحقد على أعرق حضارات
التاريخ والتي قدمت الكثير للفكر الانساني كالحضارة البابلية والحضارة الفرعونية.
كان اليهود آنذاك بلا حضارة واعتقدوا أنه بتمسكهم بيهوة سيصنعون حضارة أعرق من
هاتين الحضارتين. لقد نقلوا إلينا قصة سبي بابل وأسطورة العبودية في مصر والخروج
منها بطريقة جعلت الكثير منا أن يحقد على هاتين الحضارتين من حيث لا يدري وكل هذا لأجلهم ولأجل "إلوهيمهم" وأنسونا الكم
الهائل من المنجزات العظيمة لهاتين الحضارتين.
وختاماً أقول
أننا بدأنا نسمع في السنوات الأخيرة مشروعية يهودية الدولة مما يدل على أنهم حسموا
تعريف هوية دولتهم في الإطار الديني، وما قانون
القومية الأخير الذي أقره الكنيست في شهر يوليو 2018 إلاّ تتويجا لتلك المشروعية.
فالقانون الذي أقره الكنيست بالقراءة الثالثة والأخيرة بأغلبية 62 صوت مقابل 55
يقرّ بأن "إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وأنّ حق تقرير المصير
فيها يخص الشعب اليهودي فقط" مما يستثني كل فلسطينيي 1948 ويتجاهل دورهم السياسي
والاجتماعي والثقافي. فالكتاب الذي بين أيدينا وضعه أبو الأشقر قبل سنّ القانون
المذكور. ومن يقرأ الكتاب بتمعن لن يستغرب سنّ القانون. بل ويقول في نفسه: "إن القادم أخطر". ويقودنا هذا إلى طرح السؤال التالي: "هل نتوقع يوما ما من الفرنسيين
أن يعقدوا المؤتمر تلو الآخر لتحديد هوية بلدهم؟
قبل ثلاثة أشهر
صدر للباحث أبو الأشقر تحقيق "الرسالة اليمنية" لابن ميمون عن المعهد
الملكي للدراسات الدينية. وسيصدر له كتاب جديد في ربيع هذا العام (2019) بعنوان:
الصراع على الهوية في اللاهوت اليهودي (ثلاثية المرأة، والجنس؛ والجوي" عن
دار نشر أكاديمية في باريس.
13 يناير 2019
إرسال تعليق Blogger Facebook