0

 

إشكاليات النهضة العربية الحديثة

بقلم: الدكتور وليد الشوملي

كاتب وباحث فلسطيني



حتى بدايات القرن السابع الميلادي، كانت امبراطوريتي الفرس والروم تتقاسمان النفوذ في البلاد العربية ودول الجوار دون منازع أو طرف ثالث، إلَّا أن الحروب المتواصلة بينهما كانت قد استنزفتهما وأنهكتهما مما خلق نوعًا من الفراغ السياسي والعسكري وأتاح المجال للدولة العربية الإسلامية أن تسد ذلك الفراغ، ناهيك عن قوة العقيدة الجديدة كعامل ذاتيّ قوي في إنشاء تلك الدولة. وبالتالي فقد تخلص العرب أوَّلًا من بقايا نفوذ الفرس المحاذين لهم، ودفعوا بنفوذ دولة الروم بعيدًا عن تخومهم ومجالهم الحيوي.

ولولا الضعف الذي أصاب كل من تلك الامبراطوريتين لما قُدِّر للدولة العربية الإسلامية الفتية أن ترى النور وأن تشكل نهضةً وصلت إلى العديد من بقاع الأرض.  ولهذا كان لا بُدَّ من العرب أن يتخلصوا من قوتين متنافستين ومعاديتين لهم لينطلقوا بنهضتهم الأولى.

وكذلك فإن النهضة الأوروبية الحديثة لم تنطلق إلّا لتسد الفراغ الذي خَلَّفّه الانحدار الذي شهدته الحضارة العربية الإسلامية في تلك الفترة وكذلك بعد سقوط الأندلس. ثم اكتسبت تلك النهضة زخمًا جديدًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد أن نقلوا علوم العرب وسقوط القسطنطينية عام 1453 عاصمة الامبراطورية البيزنطية آنذاك، وهروب الكثير من العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين إلى إيطاليا وأنحاء أخرى في أوروبا.

بالإضافة إلى أن الانتقال بمنهجية البحث من المنهج الإستنباطي إلى المنهج الاستقرائي التجريبي أي المنهجية العلمية الحديثة – في أواسط القرن السابع عشر على يد العالمين والفيلسوفين فرنسيس بيكون ورينيه ديكارت – كان له الأثر الأكبر في تعزيز تلك النهضة ودفعها قدمًا إلى الأمام.

أما بخصوص النهضة العربية الحديثة التي بدأت بذورها في أواخر القرن التاسع عشر، وتم إجهاضها، فقد مرّت وما زالت تمرُّ بإشكالياتٍ كبيرة، إذ تختلف هذه النهضة عن سابقتها بأن الأخيرة تطورت كما أسلفنا في مساحةٍ لا بأس بها من الفراغ وبفعل عوامل ذاتية بعيدًا عن أي تهديد. أما النهضة العربية الحديثة التي نحن بصددها والتي نشأت ظروفها في القرن التاسع عشر، فقد اصطدمت من البداية مع قوى الغربِ الخارجية ورأسماليتها التوسعية المتوحشة، وأن العامل الذاتي فيها أدَّى دورًا ثانويًّا إذا ما قورن بدوره الذي لعبه في النهضة العربية الأولى عند نشوء الدولة الإسلامية.  وبخصوص العامل الخارجي، ألا وهو الغرب الاستعماري، يقول محمد عابد الجابري إنه "كان ولا زال يحمل إلى مشروع النهضة العربية مظهرين متناقضين: مظهرٌ يمثل العدوان والغزو الاستعماري والاحتكار والهيمنة، ومظهرٌ آخر يمثل الحداثة والتقدم بكل ما تمثله من القيم العصرية المادية كالتقنية والعلوم وكذلك المعنوية كالديمقراطية والحريات الفردية والعامة. وبالتالي فقد كان الغرب ولا يزال بالنسبة للعرب العدو الذي يجب صد مطامعه وطموحاته التوسعية من جهة، والنموذج الذي يجب الاقتداء به من جهة أخرى. فقد أدّت الطبيعة المزدوجة للغرب (أي العدو والنموذج في آن واحد) إلى التباسٍ بالنسبة للعرب مما انعكس على مواقف نهضتهم المزدوج والملتبس إزاء الماضي والمستقبل معًا. وبالتالي فقد اتخذ فكر النهضة موقفًا إشكاليًّا يتأرجح بين الأصالة والحداثة، بين التراث والفكر المعاصر، وكذلك بين الأنا والآخر"[1].

ويضيف الجابري: "فقد أصبح الاختيار إزاء الحضارة الغربية صعبًا، أهو مع الغرب أو ضده؟  فهناك من كان مع الغرب أيديولوجيًّا وضده سياسيًّا، وهناك من كان معه سياسيًّا وضده أيديولوجيًّا، وفئة أخرى مع الأصولية الإسلامية أيديولوجيًّا وضد الخلافة العثمانية سياسيًّا، وأخرى مع الخلافة العثمانية سياسيًّا وضد الأصولية التراثية أيديولوجيَّا"[2].

ففي ظل هذا التشابك والارتباك، وفي ظل التخبط بين الأيديولوجي والسياسي تكبل مشروع النهضة العربية الحديثة بعد أن ظهر بمظهر المشروع الواعد في أول نشوئه والمخلص من مسلسل الأزمات والهزائم المتلاحقة الذي لم ينقطع منذ سقوط بغداد الأول عام 1258. كما أنه خلق أزمةً في الوعي لا زال العقل العربي يعاني منها حتى هذه اللحظة.

يقول شاكر مصطفى في أزمة التطور الحضاري العربي: "لقد مضى على ارتطام أمتنا العربية بالحضارة الحديثة سنوات بعيدة، وقد مضت على الأقاليم العربية فترة زمنية كافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري. معظمها انطلق قبل الصين وروسيا واليابان بحقب طويلة من الزمن. ومع ذلك فهذه الأمم جميعها وصلت، بينما لم يصل أي إقليم عربي طليعي إلى شيءٍ بعد".  ويسترسل مصطفى ويتساءل: "هل وصلت الأمّة حقا مرحلة الشيخوخة واتسمت بالعقم الحضاري؟ هل أضاعت الطريق؟  أم أن هناك أمراضا معقدة نخرت تكوينها العام، مما تسبب في شلِّ مفاصلها ومنعها من متابعة السير لتتناغم مع إيقاع العصر؟"[3].

يعتبر محمد علي، الذي حكم مصر في الفترة 1805-1848، مؤسس مصر الحديثة، وقد شمل مشروعه المنطقة برمتها بحيث اعتبره الكثيرون واضع حجر الأساس للنهضة العربية الحديثة.  فقد نقل مصر من العصور الظلامية ليجعلها دولة قوية ومتطورة.  وكذلك اتجه إلى بناء الدولة الحديثة على النسق الأوروبي، وجلب خبراء أوروبيين ليؤسسوا لمشاريعه الاقتصادية والعمرانية والعلمية. كان يؤمن إيمانا قويا بالتعليم العصري ليحل محل التعليم التقليدي الذي عفا عليه الزمن، ليكون أساسا ومقدمة لتأسيس قوة عسكرية نظامية حديثة. وأبدى اهتماما كبيرا بالبعثات العلمية حيث أرسل طلبةً إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا ليدرسوا العلوم العسكرية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والكيمياء وصب المعادن وصناعة الأسلحة والهندسة المعمارية والترجمة. كما قام بتنشيط الاقتصاد المصري وتنميته كأساس لتحقيق الاستقلال السياسي، وبنى قاعدة صناعية قوية واهتم بالزراعة وتشييد الجسور والقناطر وكذلك بالتجارة والعمران. وأسس نظاما إداريا قائما على أسس عصرية بدلاً من الفوضى التي كانت سائدة سابقا، وقام بتقسيم مصر إلى سبع مديريات.

وشهدت أواخر القرن التاسع عشر نهضة فكرية قادها عديد من المفكرين الذين تحرروا من القراءات الأيديولوجية للنصوص الدينية وغيرها، ودعوا إلى إعمال العقل في تفسير النص والانفتاح على الآخر والاستفادة من إنجازاته. فقد شمل النهضويون كوكبة من المفكرين والإصلاحيين التنويريين كرفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون وغيرهم الذين فهموا التراث فهما عقلانيا من أجل الانطلاق به إلى الحداثة.

إلا أن المسيرة النهضوية لم يكتب لها النجاح بعد الولوج في القرن العشرين الذي جلب للبشرية معه حربين عالميتين بالإضافة إلى المؤامرات التي تمثلت في مؤتمر كامبل بانرمان الذي عقد في لندن عام 1907 لتفتيت الوطن العربي وزرع كيان غريب فيه، ووعد بلفور عام 1917 لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وإنشاء ذلك الكيان على أرض فلسطين عام 1948.  وبالرغم من النكسات المتتالية التي مرّ بها العرب، فقد نفخ المشروع القومي العربي الروح في الأزمة العربية على أمل استعادة الأرض واسترداد الحق لأصحابه. وبعد أن وصلنا عام 1967، حدثت الكارثة الكبرى باحتلال ما تبقى من فلسطين بالإضافة إلى مرتفعات الجولان السورية وشبه صحراء سيناء المصرية. كانت هزيمة 1967 كارثة بكل معاني الكلمة، وما أسموها "بنكسة" إلا استهتاراً بعقولنا ولإدخالنا في غيبوبة فكرية واختطاف وعينا.

شكلت نكبة عام 1948 هزيمة عسكرية وسياسية، إلّا أنها لم تقض تمامًا على الفكر النهضوي العربي والمشروع القومي، وكان الإسرائيليون آنذاك يعيشون أزمة وجود. أما هزيمة 1967 فقد قضت على الحلم والفكر والمشروع العربي في طريق الانحدار إلى الهاوية. ولم تعد أزمة الإسرائيلي وجودية بقدر ما هي توسعية يفرض من خلالها وقائع على الأرض مدعومًا بقوته العسكرية وانحيازِ الغربِ إلى جانبه. فأصبح الجميع يعاني حالة من الإحباط، وتم ضرب الأيديولوجية العربية النهضوية في الصميم. 

يقول المفكر غالي شكري في هذا الصدد: "لقد كان تدهور الفكر العربي المعاصر من أبرز مظاهر السقوط الناصري بعد هزيمة 1967، حيث لم تستطع حرب 1973 ذاتها أن تغير الصورة، بل لعلّها أفصحت عن بعض زواياها المعتمة. ولم تكن تلك الهزيمة أو الحرب كلاهما مجرد أحداث عسكرية أو سياسية. فقد برزت هذه المعاني على السطح كالجزء العلوي من جبل الثلج الراسخ في أعماق البحر. أما ما خفي فقد كان أعظم، إذ كان مرتبطًا بتطور قوى الإنتاج وأنماطه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. كانت هزيمة 1967 صياغة حضارية لسقوط تجربة اجتماعية"[4]. 

وفي حقيقة الأمر، لم تكن هزيمة 1967 حدثا تاريخيا كباقي الأحداث التاريخية، بل سقوطا مدوّيا في الهاوية للفكر الحديث. كما أن المقارنة بين الفجر الأول للنهضة العربية الحديثة وسقوطها ليست مقارنة بين محمد علي وجمال عبد الناصر، بل بين حقبتين مختلفتين اتسمت كل منهما بمشروعٍ محمولٍ على أيديولوجية.  ولا نريد الخوض في تبعيات تلك الهزيمة التي جرت في أذيالها الكثير من النكسات الارتدادية التي أوصلتنا إلى قانون القومية الإسرائيلي وصفقة القرن الأمريكية.

لقد كانت المسافة بين العرب والعالم الغربي أقصر بكثير مما هي عليه الآن. فقد تطور هذا الأخير كثيرًا في حين بقي العرب على حالهم إذا سلّمنا بحقيقة أنهم لم يتراجعوا إلى الخلف في أسوأ الأحوال، مما ينطبق عليهم المثل الفرنسي القائل: من لا يتقدم يتأخر، وهذا بديهي لأن الآخر يتقدم وبالتالي تتسع الهوة بينهما.

ختامًا، إن الخروج من الأزمة الفكرية والهزيمة الثقافية التي يعيشها العالم العربي لن يحدث إلًّا بالولوج إلى عالم الحداثة المستند على ثلاث ركائز أساسية، وهي: العقلانية والعلمانية والليبرالية.  فالعقلانية تحتم علينا إعمال العقل في قراءة النص الديني، واللجوء إلى التأويل من أجل أن يتلاءم النص مع متطلبات العصر، والعلمانية تتطلب فصل الدين عن الدولة مع احترام واستيعاب الأديان كافة على حد سواء. والمقصود بالعلمانية –هنا- هو احتواء الدين ووضعه في نصابه الصحيح وليس إقصاءه أو ازدراءه، لا بل وضعه في قالبه المقدس الذي يعلو عن الشؤون الدنيوية. أما الليبرالية فترتكز بالأساس على مبدأ احترام الحريات الفردية والعامة. والليبرالية لن تؤتي ثمارها إلّا إذا كانت في ظل نظامٍ ديمقراطيٍّ قائمٍ على التعددية واحترام الآخر والانفتاح عليه.

 



[1]   الجابري، محمد عابد، "إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1990، ص 27.

[2]   نفس المصدر ص 29.

[3]   شاكر مصطفى، "الأبعاد التاريخية لأزمة التطور الحضاري العربي" ورقة قدّمت إلى: وقائع ندوة أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، جامعة الكويت 1975، ص 36.

[4]   غالي شكري، "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث" بيروت: دار الطليعة، 1978، ص 17.

إرسال تعليق Blogger

 
Top