قراءة نقدية في كتاب
تحرير الشرق: نحو
إمبراطورية شرقية ثقافية
للدكتور إياد
البرغوثي
المؤسسة العربية للدراسات والنشر
بيروت-لبنان
الطبعة الأولى
2020
158 صفحة من القطع
المتوسط
يقسم الباحث الكتاب
إلى إثني عشر فصلاً ، وبالتالي فإنني سأقوم بالتعليق على كل فصل على حدا ، ثم
سأقوم بدمج الأفكار الرئيسية كلها في الخاتمة.
الفصل الأول: المشروع
الإمبريالي الغربي في العالم العربي
في بداية هذا
الفصل، برع الباحث في وصف العلاقة الجدلية التي لا تنفصم عراها بين المشروع
الصهيوني والمشروع الإمبريالي الغربي. ولو سبرنا غور تلك العلاقة لوجدنا أن إنشاء
إسرائيل كان نتيجة تحالف الدين والأسطورة ورأس المال الغربي والفكر الإستعماري .
بدأت بذور الفكر الصهيوني مع الفكر المسيحي المتصهين الذي بدأ يتشكل في إعقاب حركة
الإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر في أوائل القرن السادس عشر. كان أول هؤلاء
المتصهينين توماس برايتون الذي طالب في العام 1585 بعودة اليهود إلى فلسطين.
وهذا بالطبع كان قد
سبق نابليون وبالمرستون وآشلي كوبر (اللود شافتسبري) الذين يذكرهم الباحث والذين
سعوا إلى تحقيق نفس الهدف. والجدير بالذكر أن هذا الأخير كان أول من أطلق العبارة
المشهورة" أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ليتم تبنيها من قبل الحركة
الصهيونية فيما بعد. كما أن حركة الهسكلاة-أي التنوير- التي قادها في أواخر القرن
الثامن عشر الرابي الألماني موزيس مندلسون
أدت باليهود في أوروبا إلى الانفتاح على بدايات الفكر الصهيوني بعد أن كانوا منزوين
في جيتواتهم ومنكبين فقط على قراءة التوراة.
أغفل الباحث أن
يذكر انعطافة تاريخية في بالغ الأهمية حدثت في عام 1907 وأرست حجر الأساس
للصهيونية الحديثة ولإعلان وعد بلفور لتأسيس دولة إسرائيل. تمثل ذلك الحدث بانعقاد
مؤتمر كامبل بانرمان في لندن الذي كان يرأسه بانرمان نفسه يصفته رئيس وزراء
بريطانيا آنذاك.، حيث اجتمع ممثلون من عدة دول أوروبية وأكدوا على خلق جسم غريب في
الشرق الأوسط ليفصل بين المشرق العربي عن المغرب العربي، وليكون قاعدة متقدمة
للاستعمار، وقريب من قناة السويس في نفس الوقت. كان هاجس هؤلاء القادة هو الخطر
الذي قد تمثله الدول العربية إذا ما توحدت على مصالح الدول الغربية ، خاصة بعد ما
استخلصوا العبرة من حملة إبراهيم باشا عام 1831 الذي زحف من مصر إلى بلاد الشام
سعياً للوصول إلى الأستانة لولا تدخل بريطانيا وفرنسا بشكل أساسي ليولي أدباره
عائداً إلى مصر.
يذكر الباحث في
صفحة 21 من الكتاب أن الغرب مارس ذروة لاأخلاقية عندما ساوى بين اليهودية والصهيونية ، إلاّ أنني
أختلف معه في هذا ، رغم اعترافه في صفحات لاحقة بالفكر اليهودي الإستعلائي، إذ
أنني من أنصار المدرسة التي تقول أن الصهيونية ولدت من رحم اليهودية ، حيث يقول
حاييم هازار :" إن لم تكن يهودياً تصبح صهيونياً". ولمن يتعمق
بالبحث، يكتشف أن التعاليم اليهودية ترى في الأغيار –أي غير اليهود- أشخاصاً أعلى
مرتبة من الحيوانات وأقل بكثير من اليهود، وأن الله خلقهم فقط لخدمة اليهود.
وبالتّالي فإن الفكر الصهيوني استثمر ببراعة تلك المقاربة في كثير من يهود إسرائيل
ويهود الشتات. ولذلك إنني لا أرى أي أفق لحل الصراع جذرياً في المنطقة بتسوية
سياسية بل بمصالحة تاريخية يصعب تحقيقها.
في الفصل الثاني
بعنوان : المشروع الصهيوني
يذكر الباحث بعض
نتائج حرب عام 1967 والتي كانت كارثة حقيقية بكل معنى الكلمة والتي أسماها زعماؤنا
نكسةً استخفافاً بعقولنا. لقد غيرت حرب 1967 معالم منطقة الشرق الأوسط أكثر مما
غيرته نكبة عام 1948 في الوقت الذي قال فيه إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السوري
آنذك أن سوريا انتصرت في تلك الحرب وذلك حسب رأيه، أن حزب البعث الحاكم لم يسقط
لأن سقوطه لا يعوض كونه يمثل أمل الأمة العربية. كما تفاخر بانسحاب الجيش السوري
من الجولان دون قتال ، لأن ذلك يعني أنه من الضروري الحرص على الجيش وعدم إهلاكه
لأنه "جيش عقائدي".
شجع انتصار إسرائيل
في عام 1967 يهود العالم أجمع بالهجرة إلى إسرائيل في أعقاب النشوة التي أصابتهم "لوقوف
الله معهم من جديد" وهم شعب الله المختار، بعد أن سمح بهزائمهم طيلة خمسة
وعشرين قرناً. أما المسيحية الصهيونية فقد شهدت إثر تلك الحرب نمواً وانتشاراً لم
تعهده من قبل، لأن هزيمة العرب تلك شكلت " بداية تحقيق النبؤات التوراتية
ومجيء المسيح الثاني" ناهيك عن الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته إسرائيل
بعد الهزيمة، وكذلك تمتين علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أما على الجانب العربي، فقد ألقى الإحباط ظلّه على الفكر القومي والوعي السياسي
لأبناء الوطن العربي ، ناهيك عن الشعور بالذل والتخاذل. وفي رأيي فإن بذور الإسلام
السياسي قد تم زرعها بعد عام 1967 بعد فشل التيارين القومي والماركسي.
أما في الفصل
بعنوان : الدولة الوطنية في العالم العربي
فإني أؤكد على ما
ذكره الباحث عن تماهي النظام مع الدولة. أضف إلى ذلك التماهي مع رئيس الدولة
أيضاً. وهذه ظاهرة سائدة في جميع الدول العربية ولو بدرجات متفاوتة. وحتى الجيوش
العربية يتم تدريبها على حماية النظام وتقديم الولاء له وليس للوطن أو الدولة.
ومن الجدير بالذكر
أن كل ما كان النظام شمولي وقمعي ودموي أكثر زاد التماهي بين الرئيس والنظام والدولة،
وأن أي انتقاد يصدر من المواطنين إزاء النظام أو الدولة فإنه يفهم على أنه انتقاد
لشخص الرئيس وتكون حينئذ العواقب وخيمة. وبالتالي فإن هزيمة الدول العربية في عام
1967 كانت نتيجة طبيعية بسبب تلك العلاقة المشوهة بين المكونات الثلاث آنفة الذكر
والتماهي فيما بينها. كما أن الدولة الوطنية العربية وهي بالأساس تدعى وطنية
تجاوزاً تدّعي أنها تصهر كافة مكونات الشعب في بوتقة المواطنة، بينما هي بالأساس
تصهرهم في بوتقة العبودية وتمارس عليهم" الظلم العادل" بلا استثناء. وما
أن يلبث أن تُرفع سطوة ذلك النظام أو يتم إسقاطه كما حدث في العراق، تنفجر
الخلافات العرقية والإثنية والدينية والطائفية لتغدو صراعات دموية يذهب ضحيتها
العديد من الأبرياء. وكما هو معروف، فإن العديد من الأنظمة العربية لا تقوم إلاّ
بالدور الوظيفي الذي رُسم لها من قبل المستعمر القديم لخدمته ولقمع شعوبها.
وصف الباحث الدولة
الوطنية على أنها " كيان سياسي بقي أسير ظروف نشأته يفتقر إلى الحامل
الطبقي الموجد للدولة الوطنية، ولم يستطع حسم الصراع الذي عاشه منذ البداية ، بين
تاريخه الإسلامي السابق ونشأته في ظل الاستراتيجيا الاستعمارية الغربية، وتردده
بين أصولية دينية وليبرالية غربية".
ويحضرني بهذا الصدد
محمد عابد الجابري الجابري حول الصراع بين الأصالة والحداثة فيقول: " إنّ
الاختلاف بيننا نحن العرب وبين الغرب يكمن في نظرة كلّ منّا إلى الذات وتحدّيات
العصر. فالفكر الأوروبي الحديث وبالتحديد منذ بيكون وديكارت في القرن السّابع عشر
اتسم بسلسلة من المراجعات للتّراث، حيث نظروا إليه على أنه فكر الماضي وفكر الحاضر
أيضاً. فقد دعا بيكون إلى التحرر من أوهام القبيلة والكهف والسوق والمسرح، في حين تبنّى
ديكارت منهجيّة الشّك ودعا إلى التحرر من جميع السلطات المعرفية والاعتماد على
سلطة العقل وحده. فمنذ بيكون وديكارت أعاد الفكر الأوروبي قراءة تاريخه على أساس
من "الانفصال والاتصال" من النظر وإعادة النظر ، ومن النقد ونقد
النقد. ولا يفهم من ذلك أن الانفصال عن التراث يعني القطيعة معه، لا بل من أجل
تجديد الاتصال به، وأن الاتصال به كان من أجل تجديد الانفصال عنه. حيث شكّلت كل
فكرة جديدة جاء بها مفكر ما نوعاً من الانفصال عن التراث. وما أن تترسخ تلك الفكرة
وتصبح جزءاً لا يتجزأ
من معايير وقيم ذلك
المجتمع حتى أضحت جسراً جديداً للاتصال بالتراث وإعادة قراءته والبحث عن جديد في
طياته والعمل على إعادة ترتيب العلاقة بينه وبين الحاضر، بصورة تجعل الواحد منها
يغني الآخر ويدحضه. وهذا الانفصال والاتصال آنف الذكر يكمن ضمناً في قانون نفي
النفي الديالكتيكي المتعلق بالفكر، أي أنه أقرب إلى الديالكتيك الهيغلي المثالي
منه إلى مفهوم النفي المادي المرتبط بتطور الطبيعة والمجتمع.
إذاً، الفكر
الأوروبي يتجدد من داخل تراثه وفي نفس الوقت يعمل على تجديد هذا التراث يإعادة
بناء موادّه القديمة وإغنائه بمواد جديدة . هكذا استطاع الأوروبيون أن يتخلصوا من
ثقل ماضيهم عليهم فأصبح هذا الأخير يحمل نفسه بنفسه، لا يثقل عليهم ولا يشدهم إليه
بل يسندهم ويدفع بهم إلى الأمام . وبالتالي عندما يقرأ الأوروبي تاريخه فإنه يقرأ
فيه المنطق والعقل ويكتسب منه نظرة إيجابية موضوعية إلى المستقبل". وحسب
الجابري فإن العالم العربي لم يجد البوصلة بعد من حيث أصبح الخيار لدينا إزاء
الحضارة الغربية صعباً، أي هل نحن مع الغرب أم ضده. فهناك من هو مع الغرب
أيديولجياً وضده سياسياً ، وهناك من هو معه سياسياً وضده أيديولوجياً، وفئة أخرى
مع الأصولية الإسلامية أيديولوجياً وضد الخلافة العثمانية سياسياً، وأخرى مع
الخلافة العثمانية سياسيا وضد الأصولية التراثية أيديولوجياً. ففي ظل هذا التشابك
والتخبط بين الأيديولوجي والسياسي تكبل مشروع النهضة العربية الحديثة منذ نشوئه ،
والذي مرت به عواصف وأزمات منذ سقوط بغداد الأول عام 1258. كما أنه خلق أزمةً في
الوعي لا زال العقل العربي يعاني منه حتى اللحظة.
في الفصل بعنوان
"الربيع العربي"
أصاب الباحث كبد
الحقيقة عندما ذكرنا بتصريح بن غوريون في
حفل افتتاح مفاعل "ديمونا" النووي
عام 1963 حيث قال: " القنبلة النووية لن تفيدنا بشيء، فسلاحنا
الأقوى هو تفكيك الدول العربية الكبرى.... مصر وسوريا والعراق....وإغراقها في
الحروب الأهلية".
بالإضافة إلى ذلك،
فقد كان بن غوريون يؤكد دوماً على ضرورة وجود جيش قوي ومخابرات قوية والسيطرة على
موارد المياة. وهذا ما يفسرإدخال إصبع الجليل الغني بالمياة في حدود فلسطين عندما
تم ترسيمها من قبل الانتداب البريطاني عام 1920 وذلك لتمكين الدولة العبرية
المستقبلية.
ولتأكيد التماهي
بين المشروعين الصهيوني والغربي الاستعماري الذي أكد عليه الباحث مراراً، فإن
إغراق الدول العربية في حروب أهلية ، سواء كانت دينية أو إثنية أو عرقية هو مطلب
غربي بامتياز، حيث عمل برنارد لويس في العام 1982 على صياغة مشروع متكامل لإغراق
الدول العربية في حروب أهلية لإضعافها. وتقول بعض المصادر أنه قام بإرساله كتوصية
للكونغرس الأمريكي.
في الصفحة رقم 74
من نفس الفصل، يذكر الباحث أن الطمأنينة عادت للإسرائيليين في أعقاب سقوط نظام
الإخوان في مصر بعد أن خشيت بروزهم من جديد إثر ما يدعى بثورات الربيع العربي.
وهنا أسجل نقطة خلاف معه من حيث أن سقوط الحكم الإخواني في مصر شكل صفعة قوية
لمشروع الحزب الديمقراطي الأمريكي. وهذا ما عبرت عنه هيلاري كلينتون بوضوح. ونحن
هنا لسنا بصدد الخوض في نشأة وتاريخ الإخوان المسلمين والدور الوظيفي الذي يمكن أن
يلعبوه لصالح الغرب وبالتالي لصالح إسرائيل.
لعبت النظرة
الثاقبة للباحث دور البوصلة لفهم الدور الذي تلعبه كل من تركيا وإيران وإسرائيل في
ظل غياب المشروع العربي في المنطقة. فبالنسبة للدور التركي فإنه يذكر أن توجه
تركيا للشرق نابع من رفض أوروبا لهم على قاعدة أن أوروبا عبارة عن "نادي
مسيحي" لا يسمح بانضمام 80 مليون مسلم فيه. فاختار أردوغان أن يكون سيداً على
أبواب مكة من أن يبقى ذليلاً على أبواب بروكسل. ويجب على كل عربي فكر في وضع سهامه
في جعبة تركيا أن يفهم أنه خاسر، لأن المصالح التجارية والاقتصادية وحتى صناعة الأسلحة مع إسرائيل تفوق كثيراً
مصالحها مع الدول العربية، وأن الطريق إلى واشنطن تمر عبر تل أبيب.
أما بالنسبة للدور
الإيراني فيذكر الباحث أن إيران تعتبر نفسها قائدة لما يسمى "محور
المقاومة" . لكن هذا تدفع ثمنه أربع عواصم عربية يتم صياغة قراراتها في
طهران. لا شك أن هناك مطامع لإيران في العالم العربي ، إلا أنه يتوجب علينا أن لا
نفقد البوصلة وأن نخلق أرضية مشتركة معهم لأن العوامل الجيواستراتيجية تشترط خلق
مثل تلك الأرضية.
يرجع الباحث مسألة
انفصال جنوب السودان إلى الفساد والاستبداد والسياسات الخاطئة وغير المتوازنة في
حين أغفل الدور الإسرائيلي ليس في السودان فحسب بل في القارة الإفريقية برمتها.
في الفصل بعنوان :
المثقف والإمبراطورية الثقافية
يوضح الدكتور
البرغوثي أهمية الدور الأساسي المنوط بالمثقفين من حيث ضرورة تعزيز العقلانية
وإعمال العقل. وأود أن أشير ثانية إلى الجابري الذي دعا إلى عقلنة الفكر العربي
ومحمد أركون الذي دعا إلى علمنة ذلك الفكر. فإذا أبقينا الفكر العربي أسيراً للنص
وللتراث دون الولوج إلى عالم الحداثة فإنه
يبقى عاجزاً عن تحقيق النهضة الثقافية واللحاق بركب الحضارة العالمية. وبالتالي
فإما يبقى المثقف العربي أسيراً لتلك الثقافة العرجاء أو متمرداً منبوذاً يغرد
خارج السرب. والبرغوثي يؤكد على وظيفة المثقف العضوي بتعبير غرامشي وهو الذي يحمل
هموم شعبه وقضاياه وأن يشارك في صنع القرار السياسي. واستحضر الكاتب مثل العراق
وكيف أن صدام حسين عندما شن حرب عبثية على إيران لثماني سنوات لم يكن يستمع لأحد،
فكانت قراراته فردية هوجاء تنم عن عنجهية وغباء سياسي. وبطبيعة الحال، لم يكن
النظام في حالة تصالح مع شعبه ولم يكن يستمع لآراء المثقفين فحسب بل يقمعهم
ويلاحقهم مما ساهم في نزيف هجرة الأدمغة العراقية إلى الخارج. ويحضرني هنا أنه كيف طلب صدام ذات مرة من بعض العلماء تصميم مدفع
عملاق حيث تم تبديد الكثير من الأموال لذلك الغرض في حين لم يجرؤ أحد أن المدفع
بالمواصفات التي طلبها يستحيل تصميمه. إذاً هيمنة أيديولوجيا الطبقة الحاكمة على
كافة أطياف المجتمع هي التي أطلق عليها غرامشي "الهيمنة الثقافية".
وصف لنا
البرغوثي دور المثقف في المجتمع وفي إدارة
العلاقة بين الدولة والمواطن وصفاً دقيقاً. فالقيادة في الدول المتطورة هي التي
تستمد المشورة من المفكرين ومن مراكز الأبحاث وليس العكس كما هو الحال في ظل
الأنظمة الشمولية والقمعية، إذ تثمن الأولى عالياً ما أطلق عليه ميشيل فوكو "سلطة
المعرفة" وتوظيفها في خدمة الوطن والمجتمع. ولا يتسع المقام هنا للإسهاب
في دور المثقف في الدولة والمجتمع وإلاّ كنا بحاجة إلى فصل آخر أو كتاب آخر .
باعتقادي أن الفصل
الذي يحمل عنوان: الهوية الواعية
هو الفصل الأهم بين
الفصول الإحدى عشر في هذا الكتاب إذ أننا كنا وما زلنا نعيش أزمة الهوية ولا نعرف
ماذا نريد. وأوافقه الرأي بأن هزيمة عام 1967 فاقمت تلك الأزمة إلى حد كبير بسبب
نتائجها الكارثية التي تم ذكر بعضها سابقاً.
يشخص الباحث
الهويات الفرعية –الدينية منها والإثنية- تشخيصاً علمياً ومنهجياً، وكيف أن تلك
الهويات كانت قد طغت على الهوية الأصيلة الجامعة . وتفاخر كثير من الدول العربية
بالتعددية الدينية والإثنية والثقافية على أنها عامل قوة في المجتمع. إلاّ أن تلك
التعددية تجلس على صفيحٍ ساخن في غياب الديمقراطية الليبرالية.
إرادة الشعوب وإرادة
النخب التي يتطرق لها الباحث تذكرنا بمقولة غرامشي الشهيرة: "تشاؤم العقل
وتفاؤل الإرادة" ، وذلك لأن العقل يرى الأمور بموضوعية وحيادية تامة في
حين أنه قد يمتزج العقل والوجدان في الإرادة. إذاً، الإرادة المنوطة بسلطة العقل
هي الكفيل الوحيد للتغيير ونهضة الشعوب.
في الفصل الأخير
بعنوان : الإمبراطورية الشرقية الثقافية
يؤكد الباحث على
التكامل الاقتصادي بين بلدان المشرق إلى جانب التكامل الثقافي والجغرافي والسياسي.
وأن المصالح الضيقة للدول تعطل هذا المشروع الكبير الذي أرى فيه نوعاً من
الطوباوية ( بالرغم من ديناميكية
الصيرورة التاريخية . فإنه يدعو على سبيل المثال إلى التعاون بين
مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى لحل مشكلة سد النهضة دون أن يذكر أهمية
الدور الإسرائيلي في دعم أثيوبيا عسكرياً وتقنياً وذلك لتعطيش وخنق مصر من الخارج
لأنها تجنبت مؤامرة التفتيت والحرب الأهلية. فمياه نهر النيل كانت وما زالت محط
أنظار المشروع الصهيوني منذ أوائل القرن العشرين أي حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل في
فلسطين. فالمشكلة تكمن في المصالح المختلفة لدول الشرق واختلاف ولاءاتها
وارتباطاتها وأدوارها الوظيفية التي تقوم
بها لخدمة المستعمر القديم والتي ستكون العائق الأكبر في سبيل تحقيق التكامل
والتعاون بين كافة بلدان المنطقة.
وهنا أتساءل: هل
أصحاب الحضارة الفارسية العريقة جاهزين بالفعل للتعامل مع العرب على قدم المساواة؟
ثم هل بتشكيل امبراطورية ثقافية شرقية نعزز نظرية هنتغتون بصراع الحضارات من حيث
أن الصراع يضحي صراعاً مستعراً بين الشرق والغرب؟
صنف صموئيل هنتغتون
الصراعات عبر التاريخ إلى أربع أصناف وهي بالترتيب الزمني الصراعات بين الشعوب، ثم
الملوك، ثم الأيديولوجيات ( زمن الحرب الباردة) وأخيراً بعد انتهاء الحرب الباردة
الصراع بين الحضارات. فهل بتشكيل تلك الإمبراطورية سنخوض صراعاً ثنائيا يتمثل
بالأيديولوجيا والحضارات معا؟ هذا تساؤل مطروح للنقاش عله يجد إجابة شافية يجمع
عليها المفكرون وأصحاب القرار السياسي.
في رأيي، فإن
الأفكار الرئيسية لهذا الكتاب ترتكز على ثلاثة محاور:
المحورالأول: أنه
يطرح ولأول مرة فكرة توحيد الشرق من منطلق جيواستراتيجي. لقد طرح الكثيرون قبل
البرغوثي مسألة توحيد الشرق، إلا أن طروحاتهم تلك كانت تنادي بالوحدة بين دول
الشرق إما على أساس أيديولوجي، أو ديني، أو عرقي أو تاريخي علماً أنه لا يمكن تجاهل تأثيرها كعوامل جامعة.
المحورالثاني: أن
الباحث ينادي بتشكيل هوية واعية ذات شقين، الأول هو تكوين هوية مستقبلية بعيداً عن
هويات الماضي المتشابكة بشرط عدم قطع الصلات معها نهائياً، والثاني أن تكون تلك
الهوية المستقبلية هوية متسامحة وتحتضن كل الهويات الفرعية والتي يجب عليها جميعاً
أن تصب في قناة واحدة تؤدي إلى تكوين تلك الهوية الجامعة.
المحور الثالث
والأهم: هو ربط فلسطين بالشرق، وربط الشرق بفلسطين. أي أن العلاقة بينهما جدلية
ولا تنفصم عراها. وبالتالي لا يمكن لأي فرد أن يعرف نفسه أنه شرقي دون فلسطين ، وذلك ببساطة لأن المؤامرة على فلسطين
تشكل رأس الحربة للمؤامرات المتعاقبة على كافة دول الشرق. وهنا يجب أن أسجل نقطة
لصالح حزب اللبعث العربي الإشتراكي الذي تأسس في العام 1947 من قبل قائده المؤسس
ميشيل عفلق، حين أطلق شعار: "فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين".
كانت تلك نظرة ثاقبة ومستقرئة للمستقبل منذ بدايات ذلك الحزب.
وأختم القول وأقول
أن الكتاب قيمٌ جداً ويتضمن أفكاراً خلاّقة ، ويستحق بجدارة أن يتصدر المكتبات
العربية بالرغم من بعض الحلول التي قد تبدو
طوباوية في الوقت الحاضر. ولكن قراءة التاريخ المادي علمتنا أن الصيرورة
التاريخية دائماً في حركة ديناميكية مستمرة ولن يكون يوماً ساكنا، مما يعني أن ما
يبدو مستحيلاً الآن يمكن تحقيقه في فترة لاحقة وفي حاضنة بيئية أكثر ملاءمة. وكنت
أتمنى أن يحتوي الكتاب على بعض المراجع الفكرية لتزيد من قيمته العلمية. إلاّ أن
الدكتور البرغوثي نفسه يشكل بفكره الثاقب والمستنير مرجعية فكرية ثرية.
إرسال تعليق Blogger Facebook