ثورة حوامدة في روايتها "جنة لم تسقط تفاحتها"
بطلها المخيّم.. جنّتها فلسطين.. والمحتلّ قلقٌ غير
مستقر
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ:
05/09/2022م، ص: 11
عزيز العصا
معْهَد القُدْسِ
للدِّراساتِ والأبْحاثِ/ جامعةُ القدسِ
http://alassaaziz.blogspot.com/
ثورة حوامدة؛ شابة فلسطينية من قرية السموع التي تقع على تخوم فلسطين
المحتلة عام 1948م، حملت القلم مبكرًا، فكتبت الشعر وهي بعمر (13) عامًا، عندما
فتحت عينيها على احتلال العراق ووقوعه بين مخالب احتلال قسّمه وتقاسمته الدول
المشاركة في ذلك الاحتلال البغيض. وعندما تصفحت التاريخ المعاصر، واختلطت في محيطها
الاجتماعي، أخذت تستمع إلى روايات وقصص توثق للاحتلال الذي اغتصب فلسطين وأقام
عليها الدولة-النقيض؛ الدولة التي تولّت محو الشعب الأصلي؛ هوية وحضارة ووجودًا
تاريخيًّا...
بتكثيف القراءة، وفهم ما بين السطور، وإدراك ما يجري
حولها من أحداث، أصبحت "حوامدة"،
منذ طفولتها المبكرة، كاتبة يشار لها بالبنان، فكان ديوانها الشعري الأول، ثم
روايتها الأولى "لا قمر بعيد".
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده فهو روايتها "جنّة لم تسقط تفاحتها بعد" التي فازت عام 2018 بإحدى
جوائز “كتارا للرواية العربية” في فئة الرواية المنشورة، في دورتها الرابعة، لتكون
أول أديبة فلسطينية تفوز بهذه الجائزة. وقد صدرت هذه الرواية، .في طبعتها الأولى، عام 2017م، عن "الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان
بالمملكة الأردنية الهاشمية. تبدأ بغلاف يحمل لوحة "شن جيالنغ/ الصين"
من الصين، وأما الغلاف الأخير فيحمل فقرة مقتبسة من الرواية تصف دور جدّ
"عائشة" بطلة الرواية في الدفاع عن الجنّة/ يافا، فرحل شهيدًا ولم يزفه
أحد من رفاقه؛ لأنهم استشهدوا معه ونكّلت قوات العدو بجثثهم. وبين الغلافين سرد
روائي يتوزع على ثمانية محطات رئيسة، تتضمن كل منها مجموعة من المحطات الفرعية،
التي تتكامل فيما بينها لتصل بالقارئ إلى ما أرادته الكاتبة-الروائية. وتتوزع هذه
المحطات على (208) صفحات من القطع المتوسط.
تقوم الثيمة
"القضية" الروائية الرئيسية، لرواية "جنّة
لم تسقط تفاحتها بعد"، كما رأيتها، على توظيف الصراع القائم على
أرض فلسطين، بدءًا من النكبة (عام 1948م) حتى تاريخه. وقد تناولت من ذلك الصراع
مجموعة مشاهد، بين سطور الرواية التاريخية للنكبة وما بعدها، والنكسة وما انبثق
عنها، وسرقة الأرض، وحتى سرقة أعضاء الفلسطينيين، وحبكت من تلك المشاهد سردية
متكاملة المعنى والمبنى، لا سيما المخيّم وما يحمله من دلالات وإشارات على الظلم
والقهر وضيق المكان...
بذلك؛ يتمكّن القارئ من ربط الماضي بالحاضر، والتهيؤ
للمستقبل بوعي وإدراك يمكنه من رؤية القادم بتجلياته المختلفة. وكان الاحتلال
بصوره المختلفة جزءًا أساسيًّا من هذه السردية، باعتباره العلّة والداء، الذي يبحث
أبطال الرواية عن الخلاص منه. وقد كان البطل الرئيس هو عائشة التي تمثل الجيل
الحالي، وما يرتبط بها من شخصيات ثانوية: والدها، وجدها، وجدّتها، وصديقة جدتها في
المخيم.
أما هيكل الرواية فيتألف من بنيتين، هما:
البنية المكانية والتي كان لها طغيانها وقدسيتها في آنٍ معًا، حيث احتفى
النص بالمخيّم الذي قفز إلى دور البطولة في كثير من المشاهد، وقد تآزرت مخيمات
العروب، والدهيشة، والفوار، والأمعري، والجلزون، لتصف مخيّم اللجوء بقسوته وشراسته
التي تذكّر بفلسطين الوطن الذي ضاع في غفلة من الجهالة والتآمر والتشرذم، وبمحتلّ
يعيش وَهْم نكران الفلسطيني الذي بنى وعمر على مدى آلاف السنين بتواصل وبلا
انقطاع، ويافا/ الجنّة وهي مسقط رأس الجدّة والجدّ، المكان الذي استشهد الجدّ
دفاعًا عنه، والذي تطالب الجدّة أن تدفن فيه. كما تشمل البنية المكانية مدنًا أخرى
كبيت لحم ورام الله والخليل. وقد تم توظيف كل من تلك الأماكن بغرض السرد الذي سعت
الكاتبة إلى التدرج فيه والانتقال بين المشاهد بتؤدة وروّية، بعيدًا عن الرتابة
والملل.
وجاءت البنية الزمانية لتغطي سبعة عقود كاملة من
الزمن؛ بين النكبة التي كانت أحداثها 1947-1949، وزمن الرواية عام 2017م. وفي هذا
الزمن المترامي، تدور أحداث، تتراوح بين المرارة والأكثر مرارة.
في هاتيْن البنيتين يدور الصراع بين محتلّ يصف
الفلسطينيون بأنهم يأكلون من خيره، وعليهم أن يعترفوا بأحقيته في الوجود على أرضهم
(الرواية، ص: 99). ويظهر
داود القلق المرتبك، الذي يتقمص شخصية الساعي لإقامة علاقة مع الفلسطينيين، بأن
يسقط لفظ يهودي من قاموس التعارف مع الفلسطينيين (الرواية، ص: 89)، بعد أن عاش على قلب فلسطينيّ سُرق
ووضع في قفص صدر داود نفسه.
وعلى الطرف الآخر يعيش الشعب الأصلي الذي قدم قوافل الشهداء،
بقيادة عبد القادر الحسيني، دفاعًا عن الوطن/ الجنة، ودفاعًا عن مكان الولادة
ومسقط الرأس الأغلى في حياة الإنسان، كما هي "يافا/ الجنة" بالنسبة إلى
عائشة-الجدة، وهو المكان ذاته الذي ضاعت ذكرياته في دفتر مذكرات جدّ عائشة، وضاع
البيت وصكّ الطابو، وتصرّ الجدة على أن تدفن فيه (الرواية، ص: 59، 71، 143).
أما السرد فقد احتفى بالأحداث والمفاهيم أجمل احتفاء،
حتى أن الرواية، التي كان الرواة فيها شخصيات الرواية أنفسهم، بما يقترب كثيرًا من
الاستقلالية، بحيث أن كلا منهم رصد الأحداث من زاويته، حتى بدت الكاتبة وكأنها
تسيّر السرد وتحرك خيوطه من بعيد. إلا أن الرواية اتكأت على البعد الواقعي
الذي منحها هوية سردية متميزة، تجعل القارئ متابعًا بشوق، وبلا ملل. وقد يكون هذا البعد الأكثر
بروزًا في الرواية، فقد ساد فيها السرد، بأساليب درامية، لقصص أشخاص واقعيين وأحداث
حقيقية، وأماكن حقيقية، تم فيها ذكر عدد من المخيمات والمدن، باستخدام أسماء
الشخصيات الرئيسية والثانوية ذات تعزز المعنى الذي جاءت ضمن سياقه، مثل: الأسماء
العربية كعائشة، وعايشة، وعيشة، وشهيد، وفناء، وفاطمة الجلدة، وعيسى الناطور...
الخ، والأسماء العبرية كداود، هيلبا، ويانئيل، ومور.
وأما بشأن بنائية الرواية، فإلى جانب استخدام الكاتبة
للأدوات اللغوية المتعددة من التصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة، اجتمعت في هذه الرواية متعة السرد ومتعة الإيهام بالحقيقة، مع الأبعاد المعرفية والمعلوماتية التي أرادت الكاتبة
"ثورة حوامدة" تمريرها بين
ثنايا روايتها هذه، وهي كثيرة ومتعددة، سنتناول منها مفهوميّ اللجوء والمخيّم.
فلم يمر السارد/ة
عن مصطلح اللجوء إلا وتوقف/ت عنده بالتحليل، كقول الجدة عائشة: في اللجوء الذي لا
تختاره بيدك، مجبر أن تتعلم كيف تواجه القادم بأسوأ ما فيه (الرواية، ص: 25). واللجوء
خلق من الأطفال رجالًا (الرواية،
ص: 28).
وأينما ورد ذكر المخيم، ارتبط اسمه بضيق المكان، وقسوة الظروف، ويذكّر
بشراسة المحتل الذي أجبر السارد/ة على العيش فيه. ففي المخيم يعيش الفلسطينيّ
العذابات بأشكالها المختلفة، لعلّ "أم مرزوق" التي تبحث عن زوجها الذي
فقدته منذ النكبة، وهي تردد "على الله تعود" (الرواية، ص: 17). وفي المخيم منازل عرضة
للغرق في الشتاء؛ عندما يتجمع ماء المطر في برك كبيرة على أبواب البيوت والأزقة (الرواية، ص: 67).
ورغم هذا كله نجد أن الأطفال في المخيم يصطنعون الفرح والسرور واللعب،
والشباب يسعون إلى جعل العلم وسيلة للنهوض والقفز عن الخيم وقسوته، وينطلق أبناء
المخيم ليصنعوا الحياة ويعيدوا صياغتها. فالجدة عائشة تقول: ذلك الحلم الذي يسكن
رأسي بأن يكون إبني يوما من المتفوقين، طمعتُ في تعليمه ليكون قبضتي الحديدية التي
أواجه بها صرمة هذا العالم (الرواية،
ص: 26، 29). وقد جاء ذلك مع الجدة عائشة التي لا تملّ الكتب (الرواية، ص: 65). كما أن
ملامح فلسطين تسيطر على المخيم، من خلال ما استحدثه سكّان المخيّم، رغم ضيق المكان،
من حدائق وأشجار، كالعنب وغيره (الرواية، ص: 68-69).
والكل في المخيم يحلم بالحرية، ويكثف هذا كله بقول عائشة الحفيدة: لم يخلق
الفلسطيني ليكسر، هكذا علمتني شوارع المخيم وتجاعيد يد جدتي (الرواية، ص: 22).
وبشأن المفارقة بين المخيم والمدينة، تقول "فَنَاء": المخيمات
تتشابه طالما كان اللجوء مساحة ضيقة للعيش (...) وكلما وقفت على حدود رام الله
القريبة من مخيم الأمعري، يطالني البؤس ويغتالني اليأس" (الرواية، ص: 49).
ولم تغادر الكاتبة روايتها هذه قبل أن تُنطِق البطلة "عائشة"
بالسر الكامن خلف العنوان، بقولها: فلسطين هذه الجنّة التي لم تسقط تفاحتها بعد،
وإن سقطت ستسقط معها هذه المهزلة القدرية، عديمة الديمقراطية، والمستأسدة بالباطل
(...) ولن يفلح التلمود والتعويذات وقتها في تبرير السقوط (الرواية، ص: 197). وحول كيفية تحقيق هذا
الحلم، تعزز الكاتبة فينا أشكال المقاومة، منها: التذكر، والحديث عن (الوطن
السليب) باستمرار، وتوطين الشعور بعودة قريبة، وتلقين القضية في أفواه الصغار...
المقاومة لم تكن يومًا سلاحًا فقط... (الرواية، ص: 202).
بقي القول، بأنه لعل ما أوصل هذه الرواية إلى جائزة كتارا الموصوفة أعلاه،
يعود إلى ما تميزت به من رصانة السرد، ووضوح الحبكة، وتسلسل الأحداث، ومستوى
بنائيتها العالي، القائم على سلامة اللغة ودقة الترقيم، وأسلوب الصياغة المتميز
بدقة المعاني وتكثيف الأفكار؛ بلا إسهاب ممل ولا اختصار يعقد المعنى...
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 14/08/2022م
إرسال تعليق Blogger Facebook