0

 

مريم الصيفي في دقّاتها على بوابة القلب:

توفر رافدًا مهمًّا لأدب رسائل الأسرى

                                                         عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com


مريم خليل الصيفي
؛ مولودة في بلدة الولجة، من ضواحي القدس، وقد اصطلت بلهيب الحرب العالمية الثانية عند مولدها عام 1945م، لتكتوي، وهي بعمر ثلاث سنوات، بجمار النكبة الفلسطينية وأوجاعها، التي جعلت نحو مليون فلسطيني بلا وطن ولا مأوى، وقد تاهوا في أصقاع المعمورة!

كبقية أبناء شعبها، لم تفتّ النكبة والتشرد في عضد "مريم الصيفي"؛ إذ أقبلت على الحياة بهمّة عالية، تبحث عن مستقبل مشرق واعد، فكان لها ذلك عندما اتجهت نحو التعليم الجامعي، والتطور المهني. ولما حباها الله بموهبة الشعر، والقدرة على إدارة القلم بكل اتجاه، اعتلت صهوة الكتابة والتأليف والنشر، وبدعم منقطع النظير من زوجها "أبو عمرو" الذي لم يبخل عليها بكل ما يتطلبه الأمر من نجاحها وتميّزها، لتترك على رفوف المكتبة موروثًا فكريًّا للأبناء والأحفاد، وتواصلًا مع الأجيال القادمة، عبر عدد من دواوين الشعر التي أصدرتها بين عاميّ 1996م و2017م. كما جعلت من بيتها في عمان صالونًا أدبيًّا فكريًّا يؤمه علية القوم من الشعراء والكتّاب وضيوف الأردن من شريحة أصحاب الفكر والأدب([1]).  

أما العمل الذي نحن بصدده للشاعرة-الأديبة "مريم الصيفي" فهو كتابها "دقّات على بوابة القلب"، الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية، سلسلة سرد وشعر، بمناسبة اكتمال المئوية الأولى للدولة الأردنية. فجاء هذا الإصدار كسرد وثقت فيه الكاتبة "الصيفي" لمجموعة رسائل من السجن وإليه، تبادلتها مع سجناء في السجون الكويتية، خلال الفترة (2002) توزعت على (365) صفحة من القطع المتوسط. وقد وزّعت الكاتبة الرسائل على ثلاثة أجزاء، هي:

الجزء الأول، رسائل السجين العراقي "ناجي الجبوري" للكاتبة "الصيفي"، وعددها (42) رسالة، وقع أقصرها في صفحة واحدة، وجاء أطولها في (13) صفحة، منها ما جاء على شكل قصائد، وغالبيتها جاءت في سرديات، مشبعة بالفكر والعواطف الجياشة (الكتاب، ص: 17-220).

أما الجزء الثاني، فخصصته الكاتبة لرسائلها إلى ناجي الجبوري، وقد بلغ عدد (20) رسالة، توزعت على مائة صفحة، اختلط فيها الشعر والنثر لينجبا فكرًا وعواطف وقيمًا ومثلًا عليا (الكتاب، ص: 221-322).

وأما الجزء الثالث، فجاء بحجم (60) صفحة توزعت عليها (19) رسالة لسجناء من جنسيات مختلفة، عرف منها: العراق وفلسطين (الكتاب، ص: 323-383).

يأتي هذا الكتاب ضمن أدب رسائل السجون؛ وهو الأدب المشبع بالعواطف الجياشة والمشاعر الصادقة، ففي كل رسالة يكتبها السجين، تجد جوهرة ثمينة من خليط الشعور بالقهر والظلم، مع الرغبة الجامحة للقفز فوق أسوار السجن، والتخفي عن عيون السّجّان التي تدور في كل مكان باحثة وسيلة جديدة يتزود بها بما يسمنه ويغنيه من جوعه لممارسة مزيد من الاضطهاد والقهر والساديّة التي يمارسها بلا هوادة.

بمراجعة رسائل "ناجي الجبوري" نجد أنها توزعت بين تموز 1998م والشهر الأخير من عام 2001م، واستمرت رسائله بالتدفق خلال الأعوام التالية لخروجه من السجن، في أعوام 2002 و2005، وقد طغى الشعر على غالبيتها، علمًا بأنه أتقن فنّ السرد إلى حد بعيد، فقد جاءت رسالته السردية-النثرية الأطول، بتاريخ (05/06/2000م) تحت عنوان "سفيرة الخير والمحبة أم عمرو"، في (13) صفحة، مشبعة بالخيال والتشبيهات، وقد "أنسن" القلم عندما يقول عنه "مشاعره التي لا تتمنى سوى ساعة نوم أخرى" (الكتاب، ص: 45)، ويوثق في هذه الرسالة لدور الكاتبة "الصيفي" في حياة السجناء، بقوله: "ما تمنحينه لي وللآخرين كثير جدًّا"، مشيرًا إلى دورها في إصدار ديون شعر للسجين الجبوري نفسه (الكتاب، ص: 179).

في 22/06/ 1998م، يقول شعرًا في التشاؤم من وجهة نظر السجين-الشاعر "ناجي الجبوري" (الكتاب، ص: 44-45):

ليس التشاؤم فصلا من حكايتنا // إن التشاؤم أضحى كل ما فينا

وها أنا ليس في كفي سوى قلمي // وكل كف أراه حاز سكينا

  وفي صورة للحياة اليومية للسجين " يقول ناجي الجبوري" في (02/08/1998م):

ترهقني جدا حسابات الزمن الذي أراه يجري فتضيع السنين دون أن أمسك بكل لحظة فيها (الكتاب، ص: 112)..

وفي صورة أخرى للسجين "ناجي الجبوري" يقول في (10/01/2000م)، وقد أمضى تسع سنوات في السجن:

ألتفت حولي، أدير رأسي بكل اتجاه، أبحث فيما مضى، وفي الآتي، فأجدني أزداد حيرة وتساؤلًا. (...) وأجدني أمسك بخبزتي الصغيرة وأمضي أتجول في عالمي الذي بنيته في نفسي؛ أتأمل نهرًا يجري، أو وردة يداعبها النسيم، أو عصفورًا يغرد فوق غصن (الكتاب، ص: 102-104).

وأما رسائل "مريم الصيفي" العشرين، الموجهة إلى السجين "ناجي الجبوري" فتوزعت على السنوات 1998-2000، وتراوحت بين الشعر والنثر (الشعري)، وفي أحيان كثير كانت ترفق قصيدة أو أكثر مع الرسالة النثرية([2])، وقد نسجت من خلال رسائلها، الأولى في (10/05/1998)، "بساط الريح" القادر على جعل السجين في حالة تواصل مع العالم الخارجي، دون انقطاع، وقد أسهمت في تمكين الشاعر السجين "ناجي الجبوري" من طباعة ديوان شعر، كما وفّرت حالة من التواصل بينه وبين أفراد عائلتها. وفي قصيدة لها بعنوان "إليهم في عنبر 3"، تقول (الكتاب، ص: 243):

أحبائي... نشامى الحي

بكل محبة الدنيا

إلى قلبي تسللتم

دخلتم أخوة... أبناء

فضمتكم حنياه

إن الصادم في رسائل "ناجي الجبوري" ما ورد في رسالته رقم (22) في تموز/ 2005م، من تخلي عائلته عنه، وأن أهله هم ابنه وزوجته فقط؛ واصفًا أمه بـ "العاقّة"؛ لأنها أخرجته من غرفته، مضيفًا: "ليس هناك مثل هذه المرأة" (الكتاب، ص: 87). وكانت "مريم الصيفي" في رسالتها الخامسة بتاريخ (23/02/2000) قد حاولت تسوية الأمر بين "ناجي الجبوري" ووالدته التي انقطع تواصله معها في حينه (الكتاب، ص: 253، 276).

أما رسائل السجناء الآخرين، وهم من جنسيات مختلفة كالعراقية والفلسطينية والأردنية... الخ، فإنها لا تقل أهمية عن الرسائل المتبادلة بين  "ناجي الجبوري" و"مريم الصيفي"، وإذا توقفنا عند رسالة "عبد الخالق منجي التميمي" في 12/12/1998م، بعنوان "الأستاذة الفاضلة الشاعرة مريم الصيفي"، سنجدها دراسة نقدية جادّة، تتوزع على (14) صفحة، تعكس شخصية سجين مثقف، يتمتع بقدرة عالية على النقد، وهو يحلل خمس قصائد للشاعرة "مريم الصيفي"، وقد أرفق معها بعض قصائده وقصة ونصوصًا نثرية (الكتاب، ص: 327-341).

ختامًا،

  هكذا، كنا مع كتاب قيّم يشكل أنموذجًا رائعًا في أدب الرسائل، وأي رسائل، إنها رسائل السجناء، الذين يكتبون بعصارة عذابات السنين والأيام، بل والثواني، التي يحسبونها ثانية ثانية. كما ينبؤنا هذا الكتاب، أن السجناء هم فئة من المثقفين والشعراء والنقاد، وذلك من خلال الرسائل، وما تضمنته من نصوص وسرديات مشبعة بالفكر، وقصائد على مستوى عال لا يشق لهم غبار.

بذلك، يتعاضد هذا الكتاب مع أدب الرسائل الخاص بالأسرى الفلسطينيين، الذين أصبحوا يشكلون مدرسة، تحمل ملامح خاصة لأدب الأسرى، والتي كان آخرها رسائل كسرت القيد للأسير الفلسطيني "أسامة الأشقر"([3])، وكتاب "رسائل إلى قمر" للأسير حسام شاهين([4]).

فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 01-02/06/2023م

 



([1]) مجلة آفاق حرة الألكترونية (16/08/2020). السيرة الذاتية والأدبية للشاعرة مريم الصيفي. يُنظر الرابط الآتي (شوهد في 02/06/2023):

https://www.afaqhorra.com/الإصدار-،مقفل-من-دليل-آفاق-حُرة-ال/السيرة-الذاتية-والأدبية-للشاعرة-مريم/

([2]) ينظر رسائل الكاتبة ذات الأرقام: الأولى، والثالثة، والعاشرة. أضف إلى ذلك بطاقات المعايدة الشعرية.

([3]) الأشقر، أسامة (2022). رسائل كسرت القيد. الرعاة للدراسات والنشر (رام الله/ فلسطين) وجسور ثقافية للنشر والتوزيع (عمان/ الأردن).

([4]) شاهين، حسام (2020). رسائل إلى قمر. دار الشروق للنشر والتوزيع (رام الله/ فلسطين) و(عمان/ الأردن).

إرسال تعليق Blogger

 
Top