0

 

رجل الأعمال أ. محمد مسروجي في كتابه "قَيْدٌ ووَرْد"

كتابٌ سِيَريٌّ بنكهة توثيقية للقضية الفلسطينية!

نشر في صحيفة القدس، بناريخ: 21/07/2023م، ص: 11

بقلم: عزيز العصا

معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

الأستاذ "محمد مسروجي"؛ رجل الأعمال ومتعدد المناصب والمسميات الاقتصادية والإبداعية على مستوى الوطن الفلسطيني، وصاحب امتداد دوليّ أيضًا. تزيّنت المكتبة الفلسطينية، بخاصة جناح السِّيَر، بكتابه السّيريّ بطبعته الأولى "قَيْدٌ ووَرْد". وقع الكتاب في (292) صفحة من القطع الكبير، توزّع عليها (57) محطّة، الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع برام الله. يتصدّره إهداء وشكر، وتقديم لطارق عسراوي، ثم يمهّد بصفحتيْن قبل أن يشرع بالمحطة الأولى "ميلاد الحكاية وأصلها"، عندما كانت صرخته ليل 24/07/1935م في حيّ شبرا بالقاهرة؛ أي أننا في هذا اليوم نكون في أجواء عيد ميلاده الميمون الثامن والثمانون.

                                   غلاف كتاب "قَيْدٌ ووَرْد" لكاتبه "محمد مسروجي

تميّزت هذه السيرة بما حرص عليه الكاتب، إلى جانب سيرته الشخصية والعائلية، من تتبع الأحداث ومتابعتها، بين ثلاثينيّات القرن العشرين وسنة نشر الكتاب (2023)، وما أكثرها من أحداث، وما أهمية دورها في رسم ملامح حياة البشرية على هذا الكوكب، كيف لا والكاتب قد عاش الحرب العالمية الثانية وعايش انعكاساتها على حياته كفرد وعلى حياة المجتمع الفلسطيني بأسره الذي عانى من تسلط الاحتلال البريطاني على العباد والبلاد وتسخيرها لصالحه، ويتبع ذلك النكبة التي حلت على الشعب الفلسطيني (1947-1949)، فكانت الزلزال الذي غير الوجه الجوهر الجيوسياسي للمنطقة، وأتبع بارتداد زلزاليّ عام 1967، وما تبع ذلك من أحداث أخرى تصعد وتهبط في أهميتها وأثرها على القضية الفلسطينية، فحظيت باهتمام "محمد مسروجي" وتسليط الضوء عليها.

بقراءة متمعنة لـ "قَيْدٌ ووَرْد"، نجد أن الكاتب قد وزّع محطاته الـ (57) على هذا العنوان الذي تميّز بسيمياء تنبئ عن محتوى يجمع بين "القيد" رمز شظف العيش وقسوة الحياة كما عاشها الكاتب من جانب، وبين "الورد" رمز الجوانب المشرقة والإبداعية، التي جعلت منه رجل أعمال واقتصاديّ مبدع يشار له بالبنان، ويَسأل عنه كل باحث في شأن المال والأعمال؛ فإن غاب انتظره القوم، وإن حضر يتقدم الصفوف، ويتصدّر المجلس؛ حكمة ورأيًا سديدًا لا يشق له غبار.                                         

وقد وجدتُني أمام سرديّة متماسكة، تتجاوز سيرة شخص، لتحمل ملامح سيرة وطن وقضية خلال المدى الزمني الذي ناقشه الكاتب. وقد اجتهدتّ في توزيع ما ورد في هذه السيرة من بيانات وبيّنات وسرديات، على المحاور الآتية:

أولًا: مشهد توثيقي للخليل والقدس ويافا وتراثها وعاداتها:

لم يمرّ "مسروجي" عن طفولته دون أن يرسم ملامح المكان الذي عاش فيه تلك الطفولة، وتحمّل مسؤولية الحياة بعمر السادسة، مرافقا لوالده المريض على مدى أربع سنوات، اختتمت بلحظة كانت فارقة في حياته، عندما قال والده، وقد حدّق طويلًا: الله يرضى عليك .... وفارق الحياة (ص: 28)! فمدينة الخليل كانت حاضنة هذه الطفولة، بما تمتلكه هذه المدينة التاريخية من سمات بيوتها المتشابكة، وطرقاتها، وكرومها؛ عنبها وتينها. والقدس بأقصاها وقيامتها وحاراتها وأزقتها، ويافا حاضرة الشرق حيث أخواله وخالاته.. في تلك الجغرافيا الخليلية الجميلة، بسهولها ووديانها وجبالها التي يصطاد فيها عشرين عصفورًا يوميًا، وفي حضن أمّ ثائرة وواعية تربّى "مسروجي"، في أجواء لا تخلو من الفرح والسرور، إلى أن خطّ شاربه الجميل، فأصبح رجلًا يقارع الحياة، بحلوها ومرّها وأشدها مرارة!

ثانيًا: مع حزب البعث الذي لا يزال يحمله في وجدانه:

كثيرون هم السياسيون والاقتصاديون الذين انتسبوا إلى أحزاب واعتنقوها معتقدات فكرية، وحملوها إلى أن تربعوا على سدّة الشهرة، فأداروا ظهورهم لتلك المعتقدات وتنصلوا منها، باعتبارها "تجارب فاشلة" لم تعد تناسب مقاسهم الجديد! إلا أن رجل الأعمال الناجح "محمد مسروجي" شكّل في سيرته هذه مصدرًا مهمًّا لأي باحث في تاريخ حزب البعث؛ إذ أنه أعاد استعراض سيرة هذا الحزب، الذي تأسس بعيد الحرب العالمية الثانية، في أجواء النكبة الفلسطينية (07/04/1947م)؛ أي بضعة أشهر قبل انطلاق معارك النكبة التي انطلقت فور صدور قرار التقسيم في (29/11/1947). تلك المعارك التي انتهت بهزيمة الأمة، وضياع فلسطين.

تلك الأجواء، من البؤس والغضب واللجوء واللاجئين والتشرد والمتشردين، وما فيها من تفاصيل كفساد السلاح وغيرها، والأناشيد الحماسية، والدور التوعوي للمدرسة والمعلم والأمّ الثائرة... كل ذلك شكّل وعي "مسروجي" ونضجه السياسي والوطني (ص: 42)، فأصبح قياديًّا منذ نعومة أظفاره، حتى أنه كان عريف الصف في الصفوف العليا. وعندما تعلّم في العراق سنة 1952م، اكتمل نضجه السياسي بانتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانت رؤية "مسروجي"، التي كبرت معه ولا تزال عنده قناعة راسخة، هي أن "فلسطين لن تتحرر ما لم تتوحد الأمة العربية" (ص: 47). وإلى جانب حزب البعث، كانت القوى الفاعلة على الساحة: حزب التحرير، والإخوان المسلمين، والشيوعيون، والحزب الوطني –كان تقليديًّا وليس عقائديًّا- إضافة إلى القوميين العرب (ص: 60).

وعلى تلك القاعدة شرع في إدارة حياته، وتصدّى للظلم والقهر، من خلال تطوّره النقابي في قيادة المعلمين، وواجه السلطة الحاكمة التي أذاقته مرارة النقل التعسفي في العمل الوظيفي، الذي انتهى بالفصل التعسفي (ص: 65)، والاعتقال في أكثر السجون شراسة وبؤسًا، وما فيها من أشكال التعذيب، والعيش لأشهر طويلة وسط الأوساخ والقمامة، واستعمال الحمام، في مشهد لا يليق بالبشر. وعلى هذا الحال، تعرض للسجن عدة مرات، خلال الفترة 1957-1964، وتنقل بين سجون مختلفة، وفي مناسبات مختلفة (ص: 56، 79-85، 87-89، 91-93، 111-114)، وتدرّج في الحياة الحزبية حتى وصل لدرجة أمين سرّ شعبة أريحا وعضو فرع القدس –كان رئيسه بهجت أبو غربية- (ص: 61)، وعندما اشتد الخلاف بين جناحين في الحزب، سنة 1959م، عُقد مؤتمر سري في عمان، انتخب قيادة مؤقتة من خمسة أشخاص، كان "محمد مسروجي" أحدهم، ثم اعتقلوا سنة 1960، وفصل "مسروجي" من كلية الحقوق في جامعة دمشق ليلتحق بقسم التاريخ (ص: 79-80).

توسّط هذه المرحلة قيام "مسروجي"، بالشراكة مع طاهر الشكعة، بتأسيس "مستودع أدوية القدس" بالقدس سنة 1959 (ص: 75-76)، وإعلان خطوبته الرسمية على فتاة دمشقية في آذار/ 1963م (ص: 107). وأما آخر قيد فكان بوجوده في السجن عام 1964م (ص: 114).

ثالثًا: تحطّم القيد وساد الورد رغم الأحزان:

بعد أن تحطم آخر قيد، وفق ما هو مذكور أعلاه، كان أول الورد، بل أول حديقة الورود، عند زيارته للكلية الإبراهيمية بالقدس، فاستقبله المرحوم "عزت عمرو" البعثيّ المعروف في حينه، وجمعه بشريكة سيرة الحياة هذه، وتزوجا في 09/07/1965م (ص: 115).

لم يكن الورد في بداياته خاليًا من الأشواك والعقبات والصعوبات، إلا أن الورد هنا، مفهوم نسبيّ مقارنة مع مرحلة القيد الذي حفر في العظم. ففي هذه المرحلة بين 1965-2023، حياة حافلة، بحلوها ومرّها. ولعل أكثرها مرارة: استكمال ضياع فلسطين بعد النكسة التي منيت بها الأمة سنة 1967م (ص: 129-132)، ووفاة الوالدة في ربيع 1983م، التي كدّت وتعبت وغرست القيم والمثل العليا، فكان فراقها "النصل الذي يجرح القلب حتى منتهاه في كل التفاصيل التي امتلأت بها الذاكرة" (ص: 161-162).

 رابعًا: يكبر الورد ويسود عبقه الفوّاح:

لضيق المجال، في هذا المقال، وبعد أن توقفنا عند السيرة السياسية متمثلة بالحياة الحزبية الحافلة بالقيود والزنازين، لا يسعنا إلا أن نجمل السيرة الاقتصادية والإبداعية، التي جوهرها "الصمود"، باعتباره لعبة الحياة، فالماهر في اللعبة هو القادر على الاستمرار والصمود. وتمثل الدرس الأول في تأسيس مستودع القدس للأدوية، الذي صمد فيه الشريكان  - مسروجي والشكعة- وأتبعاه بعد تسع سنوات بشراكة مع المرحومة د. رنا الحسيني () في مستودع "ترانسفارما"، ثم قرر ثلاثتهم إقامة مصنع القدس للمستحضرات الطبية (ص: 163)،

وتبع هذا المصنع مصنعان في الأردن والجزائر. كما جاءت جهود "مسروجي" التي يشهد لها في مجال الاستثمارات في قطاعات اقتصادية متعددة، لا يتسع المجال لذكرها. ودعمه وإسناده للقطاع الخاص، بتوحيده وتكامله وتحديث إدارته، من خلال عدد من المؤسسات التي كانت لمسروجي اليد الطولى في استحداثها، وامتد هذا الجهد حتى شمل الوطن العربي أيضًا. كما أبدع "مسروجي" في تعزيز العمل العربي المشترك، وتأسيس مجالس أعمال بينية بين فلسطين وعدد من الدول العربية والإسلامية والأوروبية. وفي خضم أعماله وانشغالاته لم ينس "مسروجي" دوره تجاه مجتمعه، والإسهام في المؤسسات التعليمية والطبية؛ كجامعة بير زيت، ومركز خالد الحسن للسرطان، والجامعة العربية المفتوحة. وفي مجال الثقافة والمعرفة، كان لمسروجي الدور الواضح في المجلس الأعلى للإبداع والتميز، والملتقى الفكري العربي، ومركز شباب الأمعري،  (ماجد معالي، مقابلة هاتفية بتاريخ: 17/07/2023).    

تتدحرج الطموحات، وتكبر ككرة الثلج صعودًا نحو القمة؛ شراكات قديمة تنفك، وأخرى تتجدد، وشراكات جديدة تنشأ. يكبر أبناء "محمد مسروجي ورسمية الطحان": "إياد" و"هيثم" و"ريم" و"رُبى"، ويتخصص كل منهم في جانب، لتتكامل التخصصات، ويدخل الجيل الثاني كلاعبين مهرة في لعبة الحياة، بروح متقدة حماسًا واندفاعًا نحو التقدم، وهم يواكبون روح العصر.

الأرض لم تعد تتسع المباني التي تتضاعف وفق الحاجة المتزايدة لها، والمباني تضيق على العاملين فيها لكثرتهم. فتتوسع الشركات والشراكات وتتنوّع وتتمدد أفقيًّا ورأسيًّا، وصولًا إلى "مجموعة المسروجي" التي تضم حوالى (10) شركات هي امتداد لمستودع أدوية القدس الذي تأسس عام 1959 (ص: 157-158، 173-174).

قد يقول قائل: أين الاحتلال من هذه المعادلات الاقتصادية الكبرى؟ وهنا تأتي الإجابة السريعة والخاطفة: رفض "مسروجي" التعامل مع المنتوجات الإسرائيلية، ورفض العديد من عروض الشراكات الإسرائيلية، ولم يخضع لإغراءات المال، وجاء تأسيس مصنع الأدوية ردّا على اغراق أسواقنا بمنتوجاتهم". وأما الاحتلال من جانبه فقد أعلنها بوضوح من خلال مدير وزارة الصحة الإسرائيلية الذي قال لـ "إياد المسروجي": لا تتعبوا انفسكم، لن نسمح لكم ببيع الدواء لمواطنينا، فما يدرينا أنكم لا تضعون لنا أشياء في الأدوية لإيذائنا" (ص: 178). ونحن نترك قول هذا المدير للقارئ الكريم، حتى يقدر مستقبل العلاقة بيننا وبين هذا الاحتلال البغيض!

ختامًا،

لا يمكنني مغادرة هذه القراءة لسيرة "مسروجي" ومسيرته قبل أن أستعرض ما رصّعها به من الحكم والأمثال والفلسفات التي التقطتها بين السطور، وفي ثنايا السرد، لأجعل منها رسائل للأحفاد وللأجيال القادمة كما أرادها مسروجي الاقتصادي والمفكر. بدءًا بالحكمة التي التقطها من والده "لا تتعلق بشيء فقدته، فالله موزع الأرزاق وربما أعطاه لشخص استحقه أكثر" (ص: 28)، وهو يرى أن "اليُتم منجل يحصد سنوات الطفولة" (ص: 29). وما تعلمه من والدته "القوة والتمسك بالقيم وقوة الحق كالسيف القاطع" (ص: 30).

ومما يقوله "مسروجي" حول السجن ومواجهة السّجّان: "أعرف تلك الاماكن المعتمة في اعماق الانسان، تلك التي يولد فيها الخوف قبل أن تنتشر قشعريرة على سطح الجسد، فيبدو واضحا في رجفة الصوت وفي انطفاء بريق العينين".  "اجعل من الوقت الموحش البطيء أرضًا خصبة للتأمل والتفكير والتخطيط لمستقبل عزمت على خطو دربه بأقدام واثقة... غير مرتعشة" (ص: 80-81)، و"في السجن مناسبة للراحة الذهنية ووقت للتخطيط، ولتربية الامل" (ص: 85)، و"أعود من داخل الزنزانة إلى داخلي الفسيح" (ص: 88-89)، وإن "التضحية (من أجل الآخرين) جزء من النضال"  (ص: 70).

وحول أسرار النجاح في العمل، يرى "مسروجي" أن "النية الطيبة والحماس للعمل لا تكفي؛ وأنه علينا الاستعداد قبل أن نَقدم على أي عمل" (ص: 40)، وحول اتخاذ القرارات يقول "مسروجي": "لقد اتخذت القرارات المفصلية في هذه الحياة معتمدًا على ايماني المطلق بالإرادة التي أعتلي صهوتها، فتجمح بي صوب الهدف الذي أريد" (ص: 144).

إذا كان معظم تلك الأقوال المأثورة والحكم تدور حول القيد وأثره في نفسية "مسروجي" الذي استمر ستة عقود ونيّف، فإن هناك ورد وعبق يرد الروح وينعش الفؤاد، ويضئ شمعة تشتت ظلمة المكان، وتنير الطريق نحو مستقبل أجمل للأجيال القادمة. وفي ختام سيرته هذه يرى  "مسروجي" بأن "أسرته" هي أجمل ما حققه خلال مسيرته، ويراهم اهم مشاريع حياته، وأنهم ورد حدائق الحياة اليانعة!

هكذا، كنا مع رجل الأعمال أ. محمد مسروجي في كتابه "قَيْدٌ ووَرْد"، مع سرديّة سِيَريّة بنكهة توثيقية لمسيرة الشعب الفلسطيني، ورحلته الطويلة والشاقة في صراعه مع احتلال استيطانيّ إحلاليّ يستحيل التعايش معه تعايشًا طبيعيًّا! وإننا في هذا اليوم (24/07/2023م) نكون في عيد ميلاده الميمون الثامن والثمانون، داعين له بطول العمر وتمام الصحة والعافية والعطاء والإبداع الدائميْن.

عزيز العصا

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 14-17/07/2023    

السابق
موضوع أقدم.
التالي
رسالة أقدم

إرسال تعليق Blogger

 
Top