ماجد الدجاني"ابو ثائر"؛ عرفته عن قرب منذ العام 1979 من القرن الماضي، فقد جاورته في أريحا، فعرفته زوجاً مخلصاً لا يرد لأم ثائر طلباً، وقد كانت رحمها الله كما يحدث عنها، متمثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة الصالحة، الذي رواه ابو داوود: "إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته."
عرفته أباً يبذل نفسه من أجل أسرته، ولكن قضاء الله، جل شأنه، قضى أن يفقد إبنيه: ثائر ومحمد، فبكاهما بكاء المؤمن بأن الله استرد أمانته. عرفته خبيراً في الأرصاد الجوية، نهلنا منه معرفة في الأرصاد وشؤونها وشجونها. كما عرفته نموذجاً للإصرار على تطوير الذات؛ فقام بتنمية مستواه الأكاديمي والمعرفي، بانتسابه إلى جامعة القدس المفتوحة ليحصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، وكثيرا ما أثرى معارفنا بترجمة لأمثلة وعبارات تضيف إلينا ما يغذي العقل، ويربح الفؤاد وينعش الذاكرة.
أما ماجد الدجاني-الشاعر. فقد أحال كل ما سبق من خصائص ومعارف وثقافات إلى قصائد يتغنى بها الطفل والشيخ والشاب، وترقص على نغماتها نوارس فلسطين مع حمائمها. تلك القصائد التي جمعها في خمسة دواوين بين العام 1981 والعام 2012. وآخرها ديوان قصائد مطاردة؛ الصادر عن دار الجندي للنشر والتوزيع في العام 2012، بحجم (168) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها (24) قصيدة.
إن من يطالع هذا الديوان يجد نفسه أمام قصائد مشبعة بالفكر وبالمعرفة وبالثقافة التي تضيف للقارئ ما هو جديد؛ لأن "شاعرنا-الدجاني" يتمتع، بما نَدَرَ عند الآخرين؛ إذ يجعل القارئ هو اللاعب الحر في الديوان بلا قيود، ولا توجيهات ولا تلميحات من قبل الشاعر. ويسلك الدجاني هذا السلوك، لأنه يحترم عقل القارئ وقدراته واحتياجاته للتمتع بالشعر؛ قولاً ومعنىً وموسيقى. فمنذ الغلاف تبدأ حريتك بأن تقرأ العنوان: قصائد مُطارِدَة، أو "قصائد مُطارَدَة. كما أن القراءة المتمعنة-المتروية لهذا الديوان تتنقل بك في بستان الوطن والفكر والمعرفة والقيم والمثل العليا، إذ لكل من هذه المفاهيم مكان في كل قصيدة من قصائده، مما يجعلك ترى القصيدة الواحدة كأنها (ضُمَّة) ورد؛ تفوح بعطور متعددة، وتزهو بألوان متنوعة في آنٍ معاً.
كما احتوى هذا الديوان على قصائد تتبع منهج الشعر الحر، الذي أسماه بدر شاكر السياب "الشعر المنطلق" ؛ بما فيه من حرية في التعبير وقدرة على التحرك على مساحات واسعة في شئون الحياة وشجونها، وأخرى على نمط الشعر العمودي؛ بما فيه من انضباط لغوي وموسيقي وحسن أداء. وقد أكسب هذا التنوع بين النمطين الديوان متعة خاصة، مكّنت "شاعرنا–الدجاني" من التوثيق لهمومه، وهموم شعبه، وللقضايا التي يسعى إلى وضعها تحت الضوء؛ لسبر غورها وفهمها وتحليلها. وعندما سبرت غور كلٍ قصيدة على حدة، خرجت بالمحاور التالية:
أولاً: صرخة في وجه الوصولية والانتهازية
يرفض "شاعرنا–الدجاني" التنازل عن المبادئ، والتسامح مع شيوع عمليات بيع الذمم وشرائها، فهو يرى في شريحة المتنازلين، والانتهازيين، ومشتري الذمم وبائعيها خطراً حقيقياً يحدق بالأمة، بل هم الخطر الرئيسي الذي سيودي بما تبقى من وطن وكبرياء وكرامة. لذا؛ نجد أن "شاعرنا–الدجاني" يوجه بياناً للمذكورين أعلاه، كل بصفته وكنيته، في قصيدة (البيان)، فيعلن تمرده على الانتهازية والوصولية، ورفضه (التعاطي) مع الانتهازيين والمرجفين، فيقول:
"لست برسم البيع في أسواقكم"
لا أطلب العمّاد في مياهكم
وفي قصيدة "فلسطين" يكشف أمامنا عن وسائل الإعلام المضلل، ومخاطره، فيقول:
ونفتح من أجل غسل العقول فضائية
ترددها من أنين المصابين أعلى
وفي قصيدة "الدّمى"، يقول: أنا بالفم المملوء أعلن للورى أمطارهم ما أخمدت نيراني
وفي قصيدة "وتوحد الطغيان"، يقول: لسنا كلاباً كي نخاف ذئابكم الشعب ليث زائر في الغاب
ولم يغادر "شاعرنا–الدجاني" هذا المحور قبل أن يكمل حلقاته؛ عندما توقع أن هؤلاء بما يمتلكون من إمكانيات، ووسائل دعاية وإعلام، وما يمتلكون من باطل بلا أخلاق، أن يتمكنوا منه ومن غيره من القابضين على جمر الحرية والتحرر من التبعية والانقياد الأعمى، فيقول في قصيدة "بيان":
وربما ستصدرون ضد نبرتي
والشعر؛ حكم الرجم
بذلك؛ يكون "شاعرنا–الدجاني" قد غطى البعد الذي يجعل ديوانه بعنوان "قصائد مطارَدَة"، في نفس الوقت الذي كانت فيه قصائده "مُطارِدَة".
ثانياً: قيمٌ، حكمٌ، أمثالٌ ومثلٌ عليا، واستحضار لقديم كي لا يُنسى
اتخذ "شاعرنا–الدجاني" قراره بأن يترك للأجيال ما لا ينسى من قيمٍ، وحكمٍ، وأمثالٍ ومثل عليا يرددها القرّاء؛ لكي ينهلوا منها ما يفيدهم في دنياهم، ويعزز من صمودهم في وجه الطغاة والمغتصبين. كما أعاد صياغة العديد من الحكم والأمثال التي يرددها الناس عبر التاريخ، مثل:
1) هناك حكم نابعة من ذات الشاعر، هي من إبداعاته؛ وحق له أن تُنسب له، منها:
• خصص قصيدة بعنوان "قال جدي" مشبعة بالنصائح والحكم، ويوجه الأجيال المختلفة إلى ضرورة مواجهة المحتل، وعدم التخاذل والتراجع، مطلعها:
امتشق سيف التحدي يصدأ السيف بغمد
• يقول في قصيدة "الدُّمى":
الصمت في دين الكفاح خطيئة ونفوز بالغفران في الميدان
• ويقول في قصيدة "بشائر":
بماذا تبشر والدود يقتات نسغ الغصون وماء الجذور؟
بماذا تبشر والغصن يمتد حبلاً لشنق الطيور؟
ثم يحض على النضال ومواجهة الأعداء، بقوله:
فاستعذ بالنضال الحقيقي من شر النزف،
ومن شر وحش الغسق.
• وفي قصيدة "فلسطين" يتوجه بنصيحة العارف المجرب للأجيال، بقوله:
فيا مقلة العين.. يا نبض قلبي.. خذوا حذركم
إن بقينا كما نحن بين الدهاليز
فارتقبوا الخسف، والمسخ، والزلزلة.
2) يذكّر بالأمثال التي تشير إلى رداءة الحال والأحوال، بل يوظفها، كالمثل القائل: "إن البغات بأرضنا تستنسر"، وبزمن الرويبضة؛ الرجل التافه يتحدث في أمور العامة، منها:
• في قصيدة "بيان"، يقول:
في زماننا الكريه أستنسر البغات،
غرّد الغراب،
حاول الزئير الضبع".
• وفي قصيدة "قبل ابتداء الصليل"، يستذكر المعلقات ويستحضر معانيها، إذ يقول:
وما عاد عمرو بن كلثوم يزعم
أن الجبابر تسجد لابن العروبة عند الفطام
• وفي قصيدة "للحلم مضاؤه"، يستحضر بيت الشعر الوارد في أغنية محمد عبد الوهاب "أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوة والسؤددا"، إذ يقول "شاعرنا الدجاني":
وقالت لنا في احتفال الفطام المهيب:
"أنتركهم يغصبون العروبة"؟
ثالثاً: الشعر ثورة، الشعراء ثوار، وإعلامنا بائس
لقد بذل "شاعرنا-الدجاني" جهداً، حقيقياً، من أجل رفع مستوى الشعر في نفوس المجتمع، كما عزز من دور الشعراء في الحياة العامة للناس، لدرجة أنه اعتبر الشعر ملهم الثورات والتمرد على الواقع الفاسد، والشعراء هم الثوار الذين يحملون لواء التحرر والقضاء على الفساد والمفاسد، وكأنه بذلك يعلن أن هناك شعراء لا يتبعهم الغاوون، كما يلي:
1. أول بيت في قصيدته الأولى "مع خالص الشكر" في هذا الديوان، يقول: أنا بالشعر أرسم واقعاً مرّاً. كما يستطرد، في نفس القصيدة، قائلاً:
ولكني بأشعاري
أنير الروح والوجدان والعمُرا
يرى الحمقى كلام قصائدي إبراً
ولكني بوخز الشعر يبصر قارئي الخطرا
2. وفي قصيدة "بيان" يصف الشعر ودوره في المجتمع، بقوله:
فالشعر ينقل الشعر للسماء كالطيور
والشعر أصل كل ما في الكوم من حقائق،
وما سواه فرع.
وفي قصيدة "الدّمى" يصف الشعر ودوره في المجتمع، بقوله:
فالشعر في كل العصور شرارة وسطوره كحجارة الصوان
وقصائد الشعراء نبراس الأولى في اروح كالإنجيل والقرآن
وفي قصيدة "عن الشعر والحب" يصف الشعر كسلاح في المعركة، بقوله:
تشهر كل أشعاري سيوف الرفض
فما جدوى قصائدنا
إذا لم تغدُ مثل حجارة الصوان.
كما يرى في الغناء ثورة، ففي قصيدة "في دروب المدينة الميّتة":
سوف أحيا.. سوف أشدو..
3. أما بعض الإعلاميين، فيرى فيهم أحد أشكال وصور هزائم الأمة، وأنهم يشكلون خطراً حقيقياً على الأجيال، بخاصة الفضائيات التي أصبحت ذات انتشار واسع، يغطي مجالات وتخصصات مختلفة، تخادع المشاهدين و"تمتص" أموالهم، وهي من العلم والمعرفة "خواء"؛ إذ أنها تضر ولا تنفع. ففي قصيد فلسطين يقول:
باطل كل ما ندعي في الإذاعات والتلفزات
محض فحيح،
ثم يقول:
ونفتح من أجل غسل العقول فضائية
ترددها من أنين المصابين أعلى،
ومن آه كل اليتامى.
رابعاً: يحض على العلم، يصف الطبيعة، ويوظف المصطلحات العلمية
يحض "شاعرنا-الدجاني" على العلم والعمل، ويستخدم مصطلحات ومفاهيم علمية؛ تدل على مدى اتساع ثقافته وقدرته على توظيف المصطلحات العلمي في مواضعها الصحية. وقد كرر ذلك في أكثر من قصيدة من قصائد هذا الديوان، منها:
1) في قصيدة "قال جدي"، يقول:
فجنود العلم جند يا حفيدي، أي جند
بمداة ودواة نهزم الجهل وكدِّ
إن داء الجهل يودي بالملايين ويردي
إيه دور العلم هيا أفق الفجر أعدّي
2) وفي قصيدته الفلسفية "تعريف بدون ألـ التعريف"، يذكر "شاعرنا-الدجاني" بالعلم وأهميته في إثبات الحقائق، فيقول:
لا بد أن نصوغ بذرة الحياة من عدم
من غمده لا بد نجرد القلم
3) وفي قصيدته الثورية "ناضل"، يدعو "شاعرنا-الدجاني" إلى أن تكون المدارس والجامعات ودور العلم موئلاً للثورة والثوار، إذ يقول:
فجّر نضالك في المدارس
في الشوارع
في المكاتب
في الدفاتر
4) ويحض على المحافظة على الأرض ورعايتها، لكي نتمتع بخيراتها، ففي قصيدة "بلا جدوى"، يقول:
فإن الفأس حين تشج وجه الأرض تخصبها
لتصبح جنة خضراء يانعة
خامساً: يوثق للجغرافيا الفلسطيني، ولنباتاتها وأشجارها، ويشيع الأمل في النفوس بانتصار قادم
لم تكد قصيدة من قصائد "شاعرنا–الدجاني" تخلو من الإشارة إلى الوطن (الفلسطيني) الرازح تحت نير الاحتلال من حيث: وصف جغرافيته، وأسماء المدن، وملامح الحضارة التي بناها شعبه على هذه الأرض، وقد لوحظ أن "شاعرنا–الدجاني" كرّر الإشارة إلى بلدته "أريحا" إلى جانب القدس التي لها الحصة الأكبر في هذا كله، ثم يشيع الأمل بالنفوس مطمئناً إلى أن النصر قادمٌ، لا محالة، مشيراً إلى عوامل ذاك النصر وملامحه ومتطلبات تحقيقه. وسنعرض، فيما يلي، إلى الأمثلة التالية:
1) القدس وتفاصيلها الحضارية؛ حاضرة بقوة في ديوان قصائد مطاردة: فمنذ قصيدته الأولى "مع خالص الشكر" يقول:
وعن درب الوفاء لأمتي
للقدس
لست أحيد ،أقسم
2) وعندما يتحدث عن فلسطين ويعرفها كأرض حضارات يستشهد على ذلك بأريحا. ففي مطلع قصيدته "فلسطين"، يقول:
لأن فلسطين أم الحضارات
مرضعة المدينة
مهد الديانات
لأن أريحا جذور الزمان
وأصل المكان
3) في قصيدة "على الأطلال"، يصل بين مكونات الجغرافيا الفلسطينية، بصورة رائعة، عندما يقول:
وأسمع أنشودة من حواكير غزة
أنشودة من حواكير سلوان
تشدو شوارع قدسي العتيقة
4) أما أشجار فلسطين ومزروعاتها، فقد تربعت في العديد من القائد، ولعل أجملها وصفه للزيتون الفلسطيني في قصيدة "ناضل"، عندما يرى فيه معْلماً من معالم الصمود، ومعلّماً يبث فينا الأمل بحياة أفضل، إذ يقول:
زيتوننا أستاذنا
إن يقطعوا غصناً فحوْلَ الساق آلاف الفسائل
5) وأخيراً؛ يؤكد "شاعرنا الدجاني" على أن الشعب سينتصر في النهاية، كقوله في قصيدة "قراءة طالع":
هو الشعب في آخر الأمر باقٍ
هو الحي لا يأخذ الشعب نوم ولا سنة
للشعوب الأبية دوماً قيامة
سادساً: للشهداء مكانة مميزة في قصائد "شاعرنا-الدجاني": إذ ربط بين الشهداء وتضحياتهم، ورفعة الأمة وانتصاره. ففي قصيدة "فلسطين"، يقول:
لأن دماء الشهيد على درب دولتنا
خضّب الأرض بالأرجوان
لكي يرسم الصفحة المقبلة
ثم يتساءل عن النتائج النهائية لتلك التضحيات، بقوله:
فماذا نقول لأم الشهيد
وأخت الشهيد،
وبنت الشهيد،
إذا ما أطلت لتسأل: ما هذه المهزلة؟
سابعاً: المُتّكأ الحقيقي لشاعرنا ماجد الدجاني: وإن كان فيه خروج عن نصوص هذا الديوان وأشعاره، إلا أن هناك رديفاً قوياً لـ "شاعرنا-الدجاني" ورافداً من روافد إبداعه؛ هي الدكتورة شيماء ماجد الدجاني، المكافحة-المثابرة، التي لا يملك أحد الحق في التحدث عن ماجد الدجاني دون أن يخصص لها مساحة تفرض نفسها؛ ليس منّة من أحد، وإنما استحقاقات مقابلة الوفاء بالوفاء. فبعد أن كانت مصدر متعة الطفولة؛ ببراءتها، وذكائها الفطري، وسرعة بديهتها أصبحت، هي: الأمل والملاذ عندما اشتد الخطب، وادلهمّت الظلمة. ففيها يقول "شاعرنا-الدجاني":
منذ أن كنت صغيرة كنت للقلب منيرة
عندما صرت كبيرة صرت آمالي الكثيرة
فاسلمي لي أنت من ضمد أضلاعي الكسيرة
خلاصة القول:
قرأت ديوان "شاعرنا-الدجاني" هذا، فوجدت أن قصائده مطارِدَة بالفعل للهزيمة وعناصرها، ومكوناتها، وروافدها، وصورها المختلفة، وصانعيها وكل من يغض الطرف عنها؛ ليحيلها إلى واقع تتجرعه الأجيال. كما أنها مُطارَدَة من قبل كل من "استطاب" النوم على فراش الذل والمسكنة، والاستسلام للقوى الغاشمة؛ بحثاً عن إشباع شهواته: نوماً، وأكلاً، وشرباً من كؤوس سارقي الوطن، ومغتصبي الحقوق المشروعة لشعب فلسطين على أرض الآباء والأجداد.
إلى الشاعر الفلسطيني الحر "ماجد الدجاني"، أقول: طارد، بقصائدك، الغزاة والانهزاميين والانتهازيين والمرجفين، بلا هوادة، ولا تخش مطاردتهم؛ فالبقاء لصاحب الحق القوي، وأن كل من يقبض على جمر الوطن والهوية هو الأقوى.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 16 آب، 2014م
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 29/8/2014م، ص: 20.
إرسال تعليق Blogger Facebook