أيمن عبوشي في روايته "بورسلان":
يستنبت ظلم الأب.. يصف الانفصام عن الذات.. ويتجول بنا خلف
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 10/04/2015م، ص18
قراءة: عزيز العصا
أيمن عبوشي؛ كاتب وروائي فلسطيني
من "كفر قدوم" صاحب خط روائي يكاد ينفرد به دون غيره؛ يغوص في دهاليز
النفس البشرية فيضئ المظلم منها ويستحضره، لكي يمكننا من تفسير ما يجري حولنا في
دهاليز الحياة، بصورها وأشكالها المختلفة، بخاصة دهاليز السياسة وأنظمة الحكم،
التي تتربع على صدور أبناء شعوبها المقهورين والمظلومين الذين أجلسوهم على
كراسيّهم، في غفلة من البساطة والسذاجة وعدم القدرة على فهم ما يجري في أروقة
السياسة والسياسيين. أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للكاتب "عبوشي" فهو روايته "بورسلان"
الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع للعام 2015, الواقعة في (194) صفحة من القطع
المتوسط.
بعد قراءة متمعنة
لهذه الرواية تجد أن ثيمتها أو قضيتها الروائية تتمثل في حالة عدم الالتقاء مع
الذات، أو ما يشبه الإنفصام، الذي يعيشه إنسان جاء من طفولة معذبة مارسها عليه
والده، بأعلى درجات السادية والتي تركت فيه نفس شريرة بلا حدود ومصاب بـ "رهاب
الارتياب" (ص: 12)؛
لأنه يرى في نفسه أنه صاحب أسرار وسخة ومن عائلة ساقطة، ووالده سكّير، كما أنه يرى
في نفسه أنه قذر ابن قذر ولد من صلب الشيطان (ص: 51)، وأن رائحته القذرة، التي لا تستطيع أفخر
أنواع العطور السيطرة عليها، هي التي ألصقت به مسمى رجل السردين. إلا أن حلمه
يدفعه إلى العيش تحت وطأة أربعة عقد، هي: الهيبة، الشهادة، المنصب والعائلة (ص: 30). وبين هاتين
الشخصيتن المتناقضتين يحرك "أيمن عبوشي"
خيوط اللعبة الدرامية بامتياز، بما يجعل الشخصية-الحلم المتمثلة بالأكاديمي
المرموق والوزير-المعجزة، تسعى للقضاء على الشخصية الحقيقية بكل السبل الخالية من
الأخلاق والإنسانية.
ولا نلمح بين ثنايا
هذه الرواية صراعًا واضحًا بين الخير والشر، بقدر ما أننا نجد أنفسنا قيد متابعة
أهواء فردية لشخصية قلقة غير مستقرة تحركها طموحات، غير مشروعة، للوصول إلى أعلى
المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي خضم الأحداث نجد أن الشر والظلم
هما المهيمنان عليها، من أولها حتى آخرها، في حين أن عناصر الخير الكامنة في
البسطاء و/أو الفقراء قد تم استغلالها وتوظيفها لخدمة الشرور الكامنة في نفوس
الأقوياء و/أو الأغنياء المتسلطين والقابضين على سدة الحكم.
من حيث البنية والسرد, انطبق على هذا الجنس الأدبي شروط الرواية من حيث
وجود شخصية رئيسية وهو "الدكتور و/أو المستنسخ" وشخصيات أخرى ثانوية هشة؛
سرعان ما تتكسر وسط الأحداث، ما عدا شخصية مرجي باشا الذي استمر من بداية النص حتى
نهايته. أما
وإن كانت البنية
المكانية للرواية غير واضحة، إلا أن البنية الزمانية تقع في محيط ما أُطلق عليه
"الربيع العربي، إذ تبين من الرواية مدى توظيف المصطلحات والثقافة الجديدة
التي اجتاحتنا إثر الثورات العربية؛ فقد تم توظيف المنهجيات والأساليب التي
اتبعتها الشعوب في التمرد على حكامها، كشبكات التواصل الاجتماعي وتويتر التي
استخدمت في الثورة المصرية (ص:
88)، والضغط الشعبي الذي دفع الرئيس التونسي إلى الهروب بطائرته (ص: 122)، ومحاولة الأنظمة
"البائدة" العودة لاستلام الحكم مرة أخرى؛ باعتبارهم خبراء في الحكم
ويعرفون دهاليز السياسة (ص:
137).
لقد تمكن "أيمن عبوشي"، وبالرغم من المستوى العالي
والمعقد للقضية الروائية، من إدارة الأحداث في تجلياتها المختلفة وتناقضاتها
واتساعها بدقة عالية، كما تمكن من السيطرة على الشخصيات دون أن تتغلب عليه وتفلت
منه وفق أهوائها.
وأما من حيث المعمار الجمالي، فيبدو من النص، وتفاصيل بنيته، أن "أيمن عبوشي" يمتلك ثقافة واسعة في العديد
من المواضيع والقضايا التخصصية في مجالات مختلفة، كأنواع العطور والأحذية والملابس،
وأنواع الأشجار والنباتات التي تعمر حدائق الفلل الراقية، والأثاث الذي أوحى له
بعنوان الرواية "بورسلان". كما بدا مدى إتقانه و/أو اطلاعه على أصول
الإتيكيت المتبع في اللقاءات الرسمية، أضف إلى ذلك القدرة العالية على التصوير
الدرامي الجميل لما يجرى في أقبية التحقيق، والمظاهرات الجماهيرية وغير ذلك من
المشاهد التي وظّفها "أيمن عبوشي"
في خدمة النص.
بالرغم من الرمزية العالية التي اتصفت بها الرواية، وما فيها من مواقف
بوليسية وتشردية ونفسية، وبالرغم من اهتمام الكاتب بتصوير تفاصيل النقيضين والصراع
القائم بينهما في ذات الشخص نفسه، إلا أن الكاتب كان حريصًا على وضعنا في صورة
العديد من المفاهيم التي ترتقي بالقارئ إلى مستوى متقدم من المعرفة في شتى مناحي
الحياة التي عاشتها وعايشتها شخصيات الرواية؛ سواء كانت الشخصية الرئيسية (البطل)
أو الشخصيات الثانوية. وبعد القراءة وإعادة القراءة لهذه الرواية وجدتها بين
سطورها المكونات المعرفية التالية:
أولاً: بروتوكولات التحقيق: فقد وضعنا "أيمن عبوشي" في صورة البروتوكولات التي تجري في لجان التحقيق
المنعقدة في النيابة العامة التي تمثل الهيبة القانونية والقضائية للدولة، من حيث:
وجود المحققين في ناحية من القاعة، يقابلهم المتهم، كما أن هناك موظف متخصص لكتابة
حيثيات التحقيق وتفاصيل الإفادة التي يدلي بها المتهم. بالإضافة إلى خادم؛ يوفر
لهم سبل الراحة ويلبي لهم طلباتهم، رغم وجود ثلاجة تحتوي بعض المياه والعصائر. كما
يظهر فيها أن النائب العام يبيح لنفسه ولمن يصاحبه في التحقيق بمخالفة القوانين
التي تمنع الجميع من التدخين في مبنى النيابة العامة.
ثانيًا: سلوكيات رجالات الدولة في مجتمعاتنا: حيث أمتعنا "أيمن عبوشي" في
وصفه لممارسات رجال الأمن الذين يشيعون في نفوس أبناء مجتمعهم أجواء من الخوف
والرعب، وتقاريرهم الكيدية الظالمة وما يلحقها من بشاعة في تعذين المواطنين وهدر
كرامتهم، كما أنهم يشغلون مناصب في المؤسسات العامة والخاصة، فيحصلون على علاوات
وامتيازات، منها تغاضي مسؤولي تلك المؤسسات عن تجاوزاتهم؛ باعتبارها
"ضرورات!"، كما يحصل مع الدكتور-المخبر التي يذهب إلى الجامعة وقتما
يشاء، ويغادرها عندما يحلو له ذلك (ص: 13).
ثالثًا: تبيان أوجه الخير في المجتمع: بالرغم من أجواء الشر
والتآمر المهيمنة على الرواية، إلا أن "أيمن
عبوشي" ذكّرنا، على لسان بطل
الرواية، بأن أحد الوجهاء قد ترك قصرًا حوّلته ابنته إلى وقف لإيواء العجزة وكبار
السن، بخدمة "خمس نجوم" (ص: 14). كما يبرز وجهًا آخر من وجوه الخير في المجتمع المتمثل في
"الشيخ عزمي"؛ بائع الفول المتعلم والسياسي الفقير الذي يحسن
"تضييف" من يستجير به ويفضله على نفسه (ص: 63-68).
رابعًا: بشاعة الظلم الذي يمارسه الأقوياء بحق الضعفاء:
إذ
يصف "أيمن عبوشي" وسائل
التعذيب المختلفة التي تمارس بحق المعارضين السياسيين، كاستعمال مغاطس الماء،
والصعقات الكهربائية، والركلات واللكمات، وعض الكلاب... الخ (ص: 114-116).
كما
بيّن لنا ما يقوم به المتسلطون من أصحاب السلطة والسطوة من بشاعة استغلالهم لطيبة
الفقراء والبسطاء وجعلهم أدوات لتمكين مرضى السلطة من الوصول إلى أهدافهم، وقد
تجلت تلك البشاعة فيما قام به بطل الرواية من إجبار "الشيخ عزمي" (الذي وفّر
له حاضنة الأمن والأمان والطمأنينة) على حفر قبره بنفسه وهو ينزف جراء الجرح الذي
أحدثه البطل في عنقه، ثم يمارس (ساديته) الشريرة عندما "انتصب فوقه مباشرة،
وأخذ يردم التراب، فيغطيه، وكلما قاوم أبعده بقدميه، وأعاده مكانه"، ثم يترحم
عليه باعتباره حقق له ميتة سريعة كان لا بد منها لإراحته (ص: 80).
ثم
تدور الدوائر لنصل إلى مشهد التخلص من "البطل" نفسه من قبل حزبه، بقنبلة
ناسفة أذابت جسده وحصدت العديد من الأرواح معه، بلا ذنب ارتكبوه، لينتهي الأمر
بجنازة رسمية لتابوت وضعت فيه أحذية، ثم إقامة ضريح له فوق ربوة يكسوها العشب
وشاهد كتب عليه: الشهيد الدكتور وإسمه (ص: 194).
خامسًا: اقتراب النص من الواقع لحد التطابق:
فبالرغم
من أن الرواية تستند إلى شخصيات وهمية-تخيلية، إلا أن أحداثها والأفكار الكامنة
خلف النصوص، والعديد من المفاهيم والمصطلحات تجعلنا أمام مشاهد حقيقية إلى حد
كبير، في وصفها للواقع، كالفساد المستتر في المؤسسات المختلفة؛ كسرقة أموال
المشاريع وتحويلها إلى جيوب اللصوص الذين يتبوأون مناصب تقرر في توجيه تلك
المشاريع، ثم يصرفون تلك الأموال في شراء ذمم المسؤولين وخداعهم، لتحقيق المزيد من
السرقات.
وفي
مجال السياسة ودهاليزها، كان موفقًا في سرد ما يجري خلف الكواليس من عمليات تشبه
البيع والشراء في العلاقات بين أفراد نظام الحكم، دون أن تكون الأولوية لكرامة
الفرد وإنسانيته؛ وإنما تكون لمصلحة النظام الحاكم، سواء كان حزبًا، أو فردًا، أو
مجموعة أو جماعة. مما يعني أن الديمقراطية، في بعض أوجهها، هي دكتاتورية بامتياز،
تنتهي باستخدام الوسائل الدموية في التخلص من الخصوم السياسيين، أو عند التخلص من
أولئك الأشخاص الذين أفل نجمهم وانتهى دورهم.
الخاتمة والتعليق
هذه هي رواية بورسلان
لكاتبها "أيمن عبوشي" التي
تتبوأ الرقم -3- في سلسلة رواياته، والتي تبدو على نفس خط الرواية التي سبقتها،
وهي بعنوان: "الغارقون في العطر". وقد جاءت روايته هذه بنمط يعالج قضية
رجل يعاني من حالة الانفصام عن الذات بما يمكن تسميته "نرجسية مرضية"
تؤدي، في النهاية، إلى ممارسة شرور ومؤامرات يدفع ثمنها الناس الذين يقفون معه
ويساعدونه للتغلب على ظروفه القاسية. كما زخرت الرواية بمجموعة من المفاهيم
والآراء والرؤى التي تفتح عيوننا على ما يدور خلف كواليس الأنظمة الحاكمة، وما
يدفعه الشعب من ثمن من خلال الثورات في وجه الظلم والطغيان، ثم الثورات المضادة
التي تشنها الأنظمة البائدة، التي تتحايل بكل السبل من أجل العودة إلى الحكم.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية
19
آذار، 2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook