نافز الرفاعي في "الخنفشاري":
يعيد صياغة المفاهيم.. ويتجول بنا من
"قاع المدينة" إلى "الهايد بارك"
نشر في صحيفة
القدس "المقدسية"، يوم الجمعة، بتاريخ: 14/08/2015، ص: 18
عزيز
العصا
نافز الرفاعي؛ خاض غمار السياسة والفكر
والكتابة والبحث العلمي.. كتب في أجناس أدبية مختلفة، لينتهي الأمر به روائيًا
فلسطينيًا؛ يسهم في الرواية الفلسطينية الكبرى، التي تكشف مساوئ حال الشعب
الفلسطيني وأحواله، كما تشير إلى بطولاته وقدرته العالية على الصمود والمواجهة.
أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده، فهو روايته "الخنفشاري"،
الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى في العام (2015)، تضم (35)
سردية تتوزع على (192) صفحة من القطع المتوسط.
قبل الدخول إلى ربوع روايته، يستقبلك بالغلاف الأول الذي يحمل لوحة، تعد
فنية-لونية لجوهر الرواية؛ التي جمعت جميع الألوان في ذات البقعة، والتي تراوحت
بين الحاد والأقل حدة. ثم يومئ "الرفاعي"
إلى أنك مقبل على بحر من العواطف والمشاعر، الذي تعلو أمواجه وترتفع من مشهد إلى آخر.
تتمركز البنية المكانية للرواية في جامعة بيت لحم والمنطقة المحيطة بها،
والتي تمتد حتى تصل إلى "قاع المدينة" وإلى نابلس وبعض قراها، إلا أنا
تتسع وتمتد حتى تصل إلى مدينة الضباب، وتتوقف عند "الهايد بارك"، ثم تصل
إلى الولايات المتحدة. أما البنية الزمانية، وإن كانت تدور حول مدة سنوات الدراسة
الجامعية في ثمانينيات القرن العشرين، إلا أنها تلاحق الشخصيات، فتمر عن
الانتفاضتين؛ الأولى والثانية، وما يرتبط بهما من أحداث، حتى آخر العقد الأول من
القرن الحادي والعشرين.
وأما الثيمة (القضية) الروائية، فهي البحث في "جوهر الإنسان"،
ومكنوناته الفكرية والاجتماعية والسلوكية.
وما يتصل بذلك من تناقضات تجتمع في نفس الشخص تشكل، في مجموعها، أسئلة طالت
الفئة المثقفة من الشعب الفلسطيني، تتعلق بإنساننا وما ينتابه من قلق وحيرة بين
محركات المجتمع من الديني والاجتماعي والنظم والأنماط العائلية... الخ. وليس أدل
على ذلك من الصوفي الذي يشرب الخمر، واليساري الذي يرفض الدين ولكنه يتمسك ببروتوكولات
العائلة، وصاحب المشروع الثوري الذي ينتهي به الأمر بأنه يكتب عن أحلامه الثورية المحطمة. وبين هذا وذاك يتم توظيف الجمال والفن والحب والتنافر في مشاهد لا تخلو
من الفكاهة في معظمها.
لم يكتف الكاتب بالوضوح الموصوف أعلاه، بل أنه أفصح للقارئ حول شخصيات
الرواية، وكشف النقاب عما يريده من روايته هذه، بالقول: "القراء يحتاجون إلى
كاتب، والخنفشاري ونبيل وأبو خديجة والأرستقراطية، والبروفيسور، وأنتم تحتاجون
إليّ أن أكون كاتبًا وراويًا". وكأني بالكاتب، هنا، قد وضع نفسه وصيًا على
القارئ وهو الذي يحدد احتياجاته. وبالتالي، فقد جاءت الحوارات، بما أبقى على
الكاتب ممسكًا بشخصياته، دون أن يسمح لها بالإفلات منه، ويُنطقها ما يريده هو؛ دون
أن يترك لها حرية الحركة وإبداء الرأي.
لقد تكررت الفكاهة في الرواية وتعددت المواقف الفكاهية، ولكنها لا تبتعد
كثيرًا عن "رقص الحبشي الذبيح"، والتي يمكن تسميتها "الفكاهة المرّة"؛
الناجمة عن أحداث مأساوية في حينه، فمحاولة "نبيل" الانتحار، التي
تجعلنا نضحك بعمق، ما هي إلا نتاج حالة من الاغتراب عن الذات التي عاشها قروي بسيط
"تشردق" بالمدينة وجمالياتها عندما انتقل من القرية الوادعة إلى المدينة
المنتشية.
قد تبدو السرديات كقصص قصيرة معزولة عن بعضها بعناوين منفصلة، إلا أن هناك
خيطًا روائيًا يربط بينها، وإن كان هذا الخيط يتأرجح بين البطل الرئيسي
"الخنفشاري" وبين "نبيل" الذي ينافسه في الدور بل أنه يتبادل
الأدوار معه، إذ تجمعهما الأصول الجغرافية والاجتماعية والثقافية... الخ، وإن كان
الخنفشاري أكثر قدرة على الجذب والتأثير في فتيات المجتمع المديني. وفي النهاية،
يضعنا الكاتب في حيرة من أمرنا، في حواره مع فتاة من إحدى شخصياته التي تطالبه
بالاعتذار عن تسمية "الخنفشاري"، فهل هو تمرد من الشخصية على كاتبها، أم
هو اعتذار من الكاتب للبطل؟
أما العمق المعرفي للنص؛ فقد وجدته يركز على المحاور والمرتكزات التالية
التي شكلت الهيكل الفكري والفلسفي والسياسي والمعلوماتي للرواية، منها:
أولاً: اجتماع التناقضات:
تمكن " نافز الرفاعي"
من كشف المستور في شخصية الإنسان العربي بشكل عام، من خلال التناقضات التي تكمن في
شخصيات روايته، بخاصة الخنفشاري، الذي أوجد له "الرفاعي" معنى جديدًا في قاموس اللغة، عندما وصفه بأن "عالمه
مجموعة متناقضات من كيمياء صوفية ونسائية وخمر، خلطة من الإثم والصلاح، من التورط والتسامح"،
وهو يعلن: "لا مقاومة لجاذبية الشهوات"، ويقارنه بـ "الصعلوك
الشنفرة"، ثم يورد العديد من الأمثلة على هذه "الخنفشارية" التي
تستهوي الأرستقراطيات من زميلاته الجامعيات، كما ينتهي أمره بأنه يتمتع بقدرة
عالية على الفهم والإدراك لما يحتاجه مجتمعه الذي "يحتاج إلى الخبز لا إلى
الكيمياء التي تفوق بها في الجامعة". أما البروفيسور زوج البروفيسورة خريج
بريطانيا وخطيب الـ "هايد بارك" فينتهي أمره بالزواج من
"طفلة!" ريفية. ويجمل "الرفاعي" ذلك بالقول: إن جبل الجليد والإنسان يتشابهان جدًا؛ يطفو منه عشر وهو الذي
يراه الناس، والإنسان يظهر منه العشر والبقية مختفية.
وقد ارتأيت في هذا الجانب الإشارة إلى أسباب التناقضات الكامنة في
داخل كل منا، كما وردت في مقال رفيق حاج، بعنوان: التناقض في الشخصية أمر
طبيعي"، منها[1]:
1) الرغبة بالتظاهر بما نحن لسنا فيه من اجل الحفاظ على بقائنا او مجاراة
للبيئة التي نحيا بها، تطبيقًا للمثل العربي: دارِهم ما دمتَ في داراهِم.. وجارِهم
ما دمت في جوارِهم.. وارضِهِم ما دمتَ في أرضِهِم..". 2) حيازتنا لهويات
عديدة وتواجدنا في دوائر حياتية مختلفة- كدائرة البيت, ومكان العمل,والعائلة
الكبيرة والنادي والحزب والفريق. حيث لا نملك نفس النمط السلوكي في كل تلك الدوائر.
3) عدم إلمامنا المُطلق بأنفسنا, وبالمتوقع منا بعد تراكم تجاربنا الحياتية
الفاشلة منها والناجحة. وهنا، يقول أحدهم: "للتناقض الموجود في شخصيتي
"أفضلية"؛ فهو يُكسبني مرونة مقابل من أتعامل معهم..".
ثانيًا: المعلومات التاريخية:
لا يقع على الروائي واجب التأريخ، ولكن الروائي الناجح
هو القادر على توظيف المعلومات التاريخية بما يخدم النص، ويعزز من صيغ الحوار بين
الشخصيات، بما يترك في القارئ شيئًا من المعرفة الكافية لرفع مستواه الثقافي
والمعرفي.
وهذا ما
فعله "الرفاعي" في روايته
هذه، إذ قام في مواقف مختلفة، بالإضافة إلى المعلومات الخاصة بما جرى في انتفاضتي
الشعب الفلسطيني، ببث قضايا معرفية وتاريخية متنوعة بين ثنايا الحوارات، منها:
§
فرانتز فانون؛ وهو
طبيب فرنسي أسود، حارب مع الثورة الجزائرية، وعندما جرح بعث الى أمه برسالة، لكي
يعرّفها بالحقيقة: إنه يحارب من أجل أناس معظمهم يصطفون مع عدوهم، وأنه لا فخار إن
يحارب من أجلهم، ولكنه هو يريد أن يحارب.
§
المراسلات، أثناء
المراحل المختلفة للثورة الفلسطينية، بخاصة في الانتفاضة الأولى، باستخدام
"الكبسولة"؛ وهي رسالة تكتب بخط صغير على ورق شفاف، يتم لفها بإحكام
وتغليفها بالنايلون على شكل كبسولة دواء، يقوم ناقل الرسالة ببلعها، ثم يخرجها
ليسلمها للمرسل إليه.
§ أن
القائد الثائر ابو عمار، أنه كان مختبئا في غرفة في نابلس لمدة شهر، لا يوجد فيها
سوى صورة نادية لطفي وفرشة ولحاف، وعندما التقى ناديا لطفي مع وفد الفنانين في بيروت المحاصرة عام 1982،
قال لها: لقد قضيت معك شهرًا، متواصلا، في نفس الغرفة.. خجلت نادية لطفي، واستغربت،
إلا انه أوضح الحكاية فضحك الفنانون العرب والمصريون.
§
لندن مدينة الضباب، تضم
"الهايد بارك"؛ وهو المكان المسموح للشخص فيه أن يقول ما يريد ضد من
يريد وتدعو الى من يريد. وفي أمريكا، عندما يتوفى الشخص
بلا أقارب، تقوم البلدية بدفنه ثم تحسم كلفة الدفن من حسابه البنكي.
§
هناك معلومات هامة خاصة بالمتصوفين،
الذين قاتلوا إلى جانب صلاح الدين الأيوبي، تتعلق بأسلوب حياتهم اليومية وعلاقتهم
بالآخرين وفيما بينهم، ثم يشير إلى وجه الشبه بين شيخ الطريقة المتصوف والصعلوك
عروة بن الورد، وكيف كليهما يحب الفقراء ويحنو عليهم.
§
النساء الفلسطينيات، من كبار
السن، منتصبات ورقابهن في العالي، وكأنهن متبخترات؛ لأنهن كن يحملن فوق رؤوسهن
أحمالا ثقيلة، وهذا يتطلب انتصابا في العنق، بعكس كثير من النساء الحاليات؛ فهن
ينحنين بأعناقهن المدقوقة أمام أجهزة الكمبيوتر.
ثالثًا: المقولات والفلسفة:
لحظ أن "الرفاعي" قد أثار العديد من الآراء والمفاهيم التي تحتاج إلى إعادة
قراءة وتفهم، لما لها من أهمية على المستويات السياسية والاجتماعية والسلوكية والأخلاقية،
وقد جاءت على شكل رؤى ناقدة لما يدور في المجتمع، منها:
§
العرب أضاعوا أنفسهم
في الحديث عن قداسة الاسم الأخير فيهم: القبيلة، والعشيرة والعائلة، وساروا كقطيع
الأبقار التي تعبر النهر، حيث تنتظرها التماسيح، لتقع في أنيابها الطاحنة.
والبداوة عدو الحضارة، وارستقراط الحضارة استغلال عائلي للاسم الأخير.
§
يعبر عن مرارة
الواقع الذي يعيشه المناضل الحقيقي، بالقول: الفقراء هم وقود الثورة، والذين امضوا
حياتهم في السجون والنضال، لم يجدوا وقتا للدراسة وأصحاب الشهادات العليا هم ابناء
الاكابر، وأن أصحاب الشهادات مزورون ما لم يكن لهم أبحاث وإنتاج علمي. والبطولة لا
تشترى، ولكن ممكن أن تزور.
§
الماضي تفسير لنا،
والمستقبل وَهْمٌ نبحث عنه.
§
الثوار، كما
المتصوفين، لا يختلفون عن بعضهم إلا قليلا، ما بين النفس القلقة وبحثا عن النفس
المطمئنة، واغرب
ما في العالم هي النفس البشرية في توالفها مع تناقضاتها، وتراقصها مع أحلام القاع،
والتأرجح ما بين القمة والقاع. وعندما يجتاحك شعور اللاوعي فأنت في منتهى العفوية،
وبذلك تحتاج للخروج من ذلك بتنظيم أفكارك وإخضاعها لقوانين ترتئيها أنت وتحددها
لتصل إلى الوعي.
§
أما بشأن الجامعة،
فيرى "الرفاعي" أنها عالم
الأحلام والدراسة.
§
هناك إشارة لمن يبحث
عن الشهرة، بأي ثمن، عند وصف إحداهن بأنها "إذا ما رأت جنازة مهيبة تتمنى أن
تكون هي الميّت".
§
أما قاع المدينة،
وما فيه من أسرار وتناقضات وبشاعة، وما فيه من قيم الفقراء وأخلاقهم، فقد جاءت
الرواية مشبعة بأخبارهم، ولا يفوتني أن ألفت النظر إلى أن "الرفاعي" قد أوصل خيطًا واضحًا بين أبناء
الشريحة المثقفة والمتعلمة في بيت لحم وقاع مدينتهم، التي لا يخجلون من التواصل مع
مجتمعها وتلمس قضاياه وهمومه، والتي يتم فيها كسر القوالب كلها بلا تمييز بين قالب
وآخر، وحيث أن أفضل تجارة ناجحة هناك هي ما يتصل بالنساء.
§
وأما يشأن الصراع
الطبقي، فأختصرها "الرفاعي" بما قاله
والد الارستقراطية للخنفشاري الذي تقدم بطلب يدها: هناك تربية لدينا: أعراف وتقاليد
صارمة، لا نتخلى عنها، نتخلى عن قلوبنا نطعمها للكلاب، وهي لن تخون عائلتها.
§
كما أن "الرفاعي" وظّف العديد من الكلمات العامية
في النص؛ لكي يقترب أكثر من القارئ الفلسطيني، ولكي ينقل تلك المصطلحات إلى القارئ
العربي، وهي بنكهتها الفلسطينية الخاصة، منها: دفش، الفزيع، النبّوت، متعنّي،
يتمرمغ، قحف رأسه، ممرور، متشعبط، يلعلع، يتكركب، جرجرة، ملط.
وبنظرة
أخرى إلى الرواية، أود الإشارة إلى أن الدور المزدوج الذي مارسه الكاتب، باعتباره
أحد شخصيات الرواية، قد جعلها تتأرجح باتجاه الرواية السيرية. ويبقى القول، أن في
سرديات هذه الرواية شيئًا من التكرار الذي كان على الكاتب الالتفات له، بخاصة تلك
المشاهد ذات الصلة بـ "نبيل" والتي تكررت في أكثر من سردية بما لا يخدم
النص. كما أن هناك سردية بعنوان: الخنفشاري مرشح لانتخابات مجلس الطلبة، لم يكن في
محتواها أي إشارة إلى أي نشاط انتخابي.
كما
أن مكانة المرأة في هذه الرواية لم تتعد صيغ المراوغة والمخادعة
و"الهيجانات" العاطفية والانفعالية، والانقياد للعادات والتقاليد؛ دون
أن يكون لها "كمتعلمة" الأثر والتأثير التي عليها أن تحققه لصالح
مجتمعها وأسرتها. وفي ذلك يدق "الرفاعي" ناقوس الخطر أمام الجامعات التي
تبدو غير قادرة على إحداث تغييرات جوهرية في حياة طلبتها، على المستوى الاجتماعي.
لقد وجدتُني أمام رواية ذات سمات عاطفية، وسياسية ووطنية. وفوق كل ذلك هي
رواية واقعية بامتياز؛ ففيها سرد لقصص أشخاص واقعيين، وأحداث حقيقية من خلال
الأساليب الدرامية التي انتهجها الكاتب، بحيث وظّف مضمونها في خدمة المجتمع
وإصلاحه بتدعيم القيم الإيجابية والطاقات الفردية والجمعية، وذلك من خلال النماذج
التي قدمها عبر شخصياته المختلفة، وكيفية إدارته للأزمات. وأن هذه الواقعية كانت
مشبعة بالنقدية وتحليل الواقع، ودون أن تخلو من الفلسفة، ولكنها ابتعدت عن الغوص
في الرمزيات بمستوياتها المعقدة.
ولا يمكننا المغادرة قبل الإشارة إلى أن رواية
"الخنفشاري" قد وظفت الكثير من الأحداث والوقائع والعادات والتقاليد
والقيم في الشرائح المختلفة من الشعب الفلسطيني، في خدمة النص الروائي الذي جعله
الكاتب بنهاية مفتوحة، عندما لم يُغلق الباب في وجه القارئ، الذي منحه حرية إعادة
النظر في "الخنفشاري"، الذي "غادر بعد أن حصدت الانتفاضة اتفاق
المصالحة"، وفتاته التي ترفض أن تكون
"امرأة من ورق ولا لعبة من رمل"، فما هي إذن؟
مبارك للكاتب جهده.. مبارك للمكتبة الفلسطينية والعربية هذا
الإنتاج الأدبي الذي يحمل ما هو جديد في عالم الرواية الفلسطينية، ليضاف إلى
الرواية الكبرى لشعب ضحى بالغالي والنفيس من أجل المحافظة على هويته ووجوده على
هذه أرض الآباء والأجداد.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 30/07/2015م
http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2016/03/06/881006.html
[1] د. رفيق حاج، مقال بعنوان: التناقض في الشخصية أمر طبيعي. انظر الرابط: http://alwakei.com/news/23729/index.html (أمكن الوصول إليه في
30/07/2015).
إرسال تعليق Blogger Facebook