في الذكرى السادسة والأربعين لحريق
المسجد الأقصى:
من مرارة الذكرى.. إلى علقم الواقع!
نشر في
صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 21/08/2015م، ص: 15
بقلم: عزيز العصا
في مثل هذا اليوم، الحادي والعشرين من آب من العام 1969،
قام المدعو "مايكل
دينس روهان" بإشعال حريق ضخم في المسجد الأقصى التهم الجناح الشرقي للمسجد،
بما في ذلك منبر صلاح الدين الأيوبي. وبالبحث في الموسوعة العالمية
"ويكيبيديا"، بشأن من قام بهذا الفعل الإجرامي، تبين أنه أحد المأفونين القادمين من "كنيسة الرب
العالمية"، المعتقدين بأن تدمير المسجد الأقصى سيعجل في مجيء المسيح المخلص. وكان
هناك من غرس فيه أنه "خلال
الأربع سنوات ونصف القادمة سيُبنى
هيكل يهودي في مدينة القدس، وستُذبح القرابين قي هذا الهيكل مرّة أخرى". أي أنه، وبحسب تلك الترهات، كان يفترض أن
يكون قد تم ذلك أوائل سبعينيات القرن الماضي.
ونحن في أجواء هذه الذكرى الأليمة التي تتجدد
فصولها كل يوم، بل كل لحظة من ليلنا ونهارنا، لا بد من التوقف عندها لكي نستذكر
تلك اللحظات أمام الجيل الذي لم يعش تلك اللحظة، ولكنه يتلظى بنيرانها؛ من خلال
المداهمات اليومية الحالية للمسجد وساحاته وباحاته والتهديدات بمحوه عن الوجود.
بالبحث بين سطور ذلك الحدث الأليم الذي أشعل
النار في صدر كل وعربي، بل حتى كل إنسان يحمل رسالة صادقة نحو الإنسانية، وقع نظري
على شيخين جليلين من تلك الحقبة، كان لهما دورًا بارزً في مواجهة الحدث، بصبر
وثبات، وهما: الشيخ الجليل المرحوم "حلمي المحتسب " والشيخ الجليل المرحوم "سعيد عبد الله صبري".
ففي
اليوم التالي لذلك العدوان الهمجي، عقد "الشيخ حلمي
المحتسب"، رئيس الهيئة الإسلامية في القدس، مؤتمرًا صحفيًا أوضح
فيه ما جرى، بعد أن حمّل سلطات الاحتلال مسؤولية ذلك الفعل الإجرامي كاملًا، بقوله[1]: "لقد عانينا منذ بدء الاحتلال الشيء الكثير من أمورنا ومقدساتنا. كنا كثيراً ما نشتكي ونقدم الاحتجاج تلو الاحتجاج مطالبين بدرء الأعمال التي لا يمكن السكوت عنها، ولكن كان ذلك كله بلا جدوى، وكان من جملة هذه إجراء الحفريات بجوار المسجد الأقصى". ومن الجدير ذكره أن الشيخ المحتسب كان، حتى
تاريخه، قد أرسل أكثر من سبعين رسالة إلى حكومة الاحتلال، بشأن الاعتداءات على
المسجد الأقصى، ولكن دون جدوى.
ثم تطرق الشيخ "حلمي المحتسب" إلى تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم، وفق التسلسل التالي:
·
وأخيراً، وفي هذا اليوم، تلقيت في بيتي هاتفاً في الساعة السابعة صباحاً يخبرني بأن المسجد الأقصى يحترق. وما كنت لأصدق هذا النبأ، لأنه لا يمكن أن يخطر على بال أي إنسان أن المسجد الأقصى يُعتدى عليه ويحترق بالطريقة والشكل الذي رأيتموه عليه اليوم ورآه أهل القدس وكل الناس.
·
عندما حضرت ورأيت أن عملية الإطفاء كانت بطيئة، استنجدت بالمسؤولين فأجابوا بأن سيارات الإطفاء ستحضر بعد ربع ساعة، ومرت ربع ساعة وأكثر منها ولم تحضر سيارات الإطفاء. وفي هذا الوقت أخبرت بأن المياه قد قطعت فأخذنا نخرج الماء من الآبار، وساعدنا الجمهور والحاضرون وجاءت عربات الإطفاء من رام الله والخليل. وقد أقفل الحرم الشريف أثناء ذلك، ومنع الناس من المرور.
ثم فضح الشيخ "حلمي المحتسب" ادعاءات الاحتلال، بقوله: وقد شكلت لجنة خاصة للقيام بالتحقيقات اللازمة. وتوصلنا إلى نتائج أولية تدل على أن الحريق مفتعل وليس بالعادي، كما أكد تقرير هيئة المهندسين العرب أن الحادث مفتعل، ولم يكن للكهرباء أي تأثير في الأمر أبدًا.
أما
المرحوم "الشيخ
سعيد صبري" فقد كان آخر من
وقف خطيبا على منبر صلاح الدين في الأقصى قبل ذلك الحريق المشئوم، ففي 29/08/1969؛
أي في الجمعة الثانية بعيد الحريق، فقد ألقى أول خطبة
له بدون منبر، وكانت الصلاة في ساحات المسجد وقد استهل خطبته بقوله[2]:
(أزفت الآزفة ليس لها من دون الله
كاشفة، لقد توالت النذر يوما بعد يوم، وأرسلت الصيحات من على منبر صلاح الدين إلى
العالم الإسلامي منذرة ومحذرة ليصحو من غفوته وليفيق على الأخطار المحيطة
بالمقدسات، ووقع ما كنا نحذر.. وأخيرا احرق المسجد الأقصى).
ثم يحث على التمسك بالمسجد الأقصى،
بحمايته والدفاع عنه، لكونه جزء من العقيدة، ويبث الأمل في مستمعيه، رغم مرارة
الموقف، ومما جاء فيها أيضًا: (إن هذا المسجد أسس على التقوى من أول يوم، انه مسرى
سيدنا محمد ومعراجه إلى السموات العلا، انه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين،
انه مكان خالد صلى فيه رسول الله بالأنبياء، كما صلى فيه سيدنا عمر بن الخطاب،
وجاء صلاح الدين فركز منبره إلى جوار محرابه ليكون شاهده إلى الناس في كل جيل. هذا
هو الأقصى الذي جثت أمام عظمته الأجيال وعنت لهيبته مواكب الرجال).
كما
أن المرحوم "الشيخ سعيد صبري"
كان قد ألقى خطبته الأولى بعيد النكسة في العام 1967، وبالتحديد في 23/06/1967م، كانت
مشبعة بالإشارات نحو شهوة الاحتلال للانتقام والتخريب، ومما جاء فيها: "وفي
ظلال العدل يتمتع الناس بالأمن والطمأنينة. فلا نزاع ولا انتقام ولا عبث بالقوانين
ولا مخالفة لأمر الله. لذلك أمر الله بالعدل ونهى أن تؤثر في إقامته شهوة الهوى أو
نزوة الانتقام أو محبة القرابة والصداقة. ويقول سيدنا علي بن أبي طالب-كرم الله
وجهه-: أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك،
فانك إن لم تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه".
ومما
يجعل الدمعة تستقر في الحلق، تقديرًا لأولئك الرجال الذين ضربوا نموذجا في التآلف
والتعاضد، أن المرحوم "الشيخ حلمي المحتسب/
توفي في 26/01/1982م" قال في تأبين المرحوم "سعيد صبري/ توفي 19/03/1973م": (حلت النكبة الأخيرة وهو
قاض للقدس وعانى من آلام الاحتلال ما عانى؛ فاستأسد وشمر عن ساعد الجد، وأخذ
بشخصيته الفذة وبمنصبه القضائي وبتجاربه العديدة يعمل مع إخوانه أعضاء الهيئة
الإسلامية، وكان يتابع أمورها وجلساتها مع ما كان فيه من مرض، ويعمل كذلك في
الشريعة والأوقاف والشؤون العامة الأخرى. ويعيش مع الناس في أحوالهم بروح سامية
ووطنية صامتة بناءة هادفة مستقيما في طريقته، طيبا في سريرته حسنا في سيرته، بغيرة
المؤمن على حرمات الله ومصالح الأمة، مع إحساس مرهف تظهر آثاره واضحة عند إدراك أي
اعوجاج أو انحراف. وكنت كثيرا ما أشفق عليه بصحته وهو معي كذلك، ثم نتعاهد على
السير قدما إلى أن يحقق الله النصر المؤزر).
لأن
اليوم شبيه بالبارحة، ولأن الأوضاع تنتقل من سئ إلى أسوأ، بل إلى أسوأ الأسوأ، وفي
ظل ظهور قوى ظلامية ذات أيديولوجيا أكثر عدوانية من ذلك المأفون الذي حرق المسجد
الأقصى، فهي تقوم على إحراق البشر أيضًا، وليس المساجد والكنائس فقط، فإننا نكون
بأمس الحاجة إلى استحضار أولئك الرجال النماذج، لكي نستلهم منهم العبر والدروس في
إدارة الأزمات والمحافظة على تماسك النسيج الوطني والاجتماعي الكفيل بالمحافظة على
ما تبقى لنا على أرض فلسطين بشكل عام، وفي القدس بشكل خاص.
وفي
أجواء مرارة الذكرى التي تذكرنا بعلقم الواقع، أختم بالأمل الذي يبثه في نفوسنا المرحوم
"الشيخ سعيد صبري"، من خلال خطبته
التي تلت الحريق: سيظل الأقصى قائما مباركا شامخا كالطود راسخا رسوخ الجبال.
وسيستمر نداء الله يتردد صداه في أعماق المصلين في المسجد العظيم. الله اكبر – الله
اكبر – الله اكبر.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
18/08/2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook