0
جبريل الرجوب في "نفحة يتحدث":
يوثق لواحدة من معارك الأمعاء الخاوية..  والقضية التي لا تموت
                                                          عزيز العصا
جبريل الرجوب؛ قائد امني وسياسي ورياضي. صارع الاحتلال منذ نعومة أظفاره، ففتح عينيه طفلًا في سجون الاحتلال وأقبيته المظلمة، وما فيها من سطوة وظلم بحق الإنسان الفلسطيني. إلى ان تفرغ للشأن الرياضي وما يصاحبه من مسؤوليات وتحديات، عبر الصراع المرير القائم على هذه الأرض بسبب المخطط الاحتلالي الهادف، إلى جعل الرياضة الفلسطينية مجرد جزء من الحديقة الخلفية للدولة العبرية، عبر تهميشها أو إنكارها.

استحضر "الرجوب" واحدة من معارك الأمعاء الخاوية، التي خاضها الأسرى الفلسطينيون مع سلطات الاحتلال، والتي كانت في صيف عام 1980 في سجن نفحة الصحرواي[1]، وحمل اسم "إضراب الشهيدين علي الجعفري وراسم حلاوة". وجاء ذلك  في كتابه "نفحة يتحدث -35 عامًا على معركة الأمعاء الخاوية"، الصادر عن دار المناهج للنشر والتوزيع في عمّان/ الأردن، من (132) صفحة من القطع المتوسط؛ تتوزع عليها أربعة فصول وملحق. وهو  الكتاب الثاني للرجوب بعد كتابه الصادر في العام 1984، بعنوان: تجربة أسرى الثورة الفلسطينية بين نفحة وجنيد - الزنزانة رقم 704.
لكل فصل من هذا الكتاب عنوانه ودلالاته التي تشكل، مجتمعة، قصة صراع الإرادة الذي خاضه الشعب الفلسطيني مع الدولة العبرية خلال أول خمسة عشر عامًا بعد النكسة، ببعديه: النظري، وما يصحبه من مفاهيم ونظريات وحقائق. والعملي، وما يستخدمه الاحتلال من أدوات للقمع الأكثر شراسة.
تبدأ رحلتك مع كتاب "نفحة يتحدث" من الغلاف الأول الذي يحمل رسمًا لقبضة فلسطينية، وقد حطمت القيد. ولم يدخل "الرجوب" إلى الفصل الأول من كتابه هذا، قبل أن يضع القارئ في صورة الظروف التي تطورت فيها فكرة هذا الكتاب، منذ أن كان فكرة من المرحوم "ماجد أبو شرار"، ثم مخطوطًا مهربًا من أقبية القمع بنسختين؛ واحدة للمرحوم أبو جهاد (ذهبت ضحية العدوان الصهيوني على بيروت في العا 1982) وأخرى للمرحوم فيصل الحسيني وهي التي جعلت هذا الكتاب يرى النور في طبعته الأولى في العام 2015. والذي يرى "الرجوب" في نشره الآن، تلبية لحاجة ملحّة يتطلبها تطور النضال الجماهيري الفلسطيني في هذه المرحلة.
ثم ينتقل "الرجوب" إلى الفصل الأول، الذي جاء بعنوان: "الهدف هو التصفية ببطء"، والذي يشكل توطئة نظرية ومفاهيمية للفصول الثلاثة القادمة، التي تصف مقدمات الإضراب، ثم الإضراب نفسه وصولًا إلى النتائج النهائية والاستنتاجات التي توصل إليها الكاتب.
وهنا، نجد أن "الرجوب" توقف عند ملامح الصراع " الفلسطيني-الصهيوني"، ذات الصلة بالحقبة الزمنية للإضراب في العام 1980، الذي تأخذ فيه السجون (التي تأسست منذ إعلان الدولة العبرية في العام 1948) دورًا بالغ الأهمية؛ باعتبارها وسيلة تصفية للمناضلين الفلسطينيين. ثم الظروف الاعتقالية السيئة للغاية، والمتمثلة في كل من[2]:
1)    السكن؛ سئ الإنارة بلا تهوية، وضيق جدًا؛ لدرجة أن الأسرى يتقاسمون الفراش ويتناوبون فترات النوم[3].
2)    الإقامة والنوم؛ ويقصد بها الأثاث والأفرشة والأغطية، التي تكاد تكون معدومة، وإن وجدت فهي من النوع غير المريح والضار بالصحة.
3)    الطعام؛ وهو من النوع والكمية بما يبقي على الأسير حيًا من الناحية البيولوجية، وذلك بإعطائه الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة لاستمرار عمل أجهزة الجسم، ولا شئ غير ذلك. ويقدم هذا الطعام (السئ والردئ) في أوانٍ رديئة ، ويتناوله الأسرى على أرضية غرفتهم المخصصة للإقامة والنوم والمرحاض في آن معًا...
4)    الرعاية الطبية؛ وهي عبارة عن مجموعة ضلالات وتضليلات مارستها سلطات الاحتلال، اقتصرت على أن يقوم بها، في معظم الأحيان، أفراد غير مؤهلين، يتركز دورهم على ممارسة نشاطات استخبارية؛ بمحاولاتهم الدؤوبة لابتزاز الأسرى المرضى. وأما النتيجة، في أحسن صورها، فهي لا تتعدى حصر العلاج بدواء غير فعّال، أو بعملية جراحية سريعة لا تشفي مرضًا. وإن وجد الطبيب المخلص لعمله، فإن قانون الدولة العبرية ينص على أن الطبيب يخضع في عمله لمدير السجن.   
وأما نتيجة هذا كله، فهي استشهاد عشرات الأسرى، والتي كان آخرها، في حينه (عام 1980)، استشهاد تسعة أسرى خلال السنتين الأخيرتين. وأما ما قامت به السلطات من عمليات جراحية، جاءت كوسيلة للتحكم في عدد الضحايا، وللتخفيف من نقمة الرأي العام الدولي.
والفصل الثاني، يتحدث عن نفسه من خلال عنوانه "نعم للجوع ولا للركوع"، والذي ارتأى فيه "الرجوب" أن نضال أسرى الثورة سياسي، حتى لو لم يكن تحت شعارات سياسية؛ لأن كل صراع بين عدوين، له بعد سياسي، حتى لو كان مطلبي الطابع. ثم يستعرض الإضرابات والاحتجاجات السابقة للأسرى الفلسطينيين، بدءًا من الإضراب الذي خاضه أسرى سجن نابلس، في صيف العام 1968، لمدة (13) يومًا. ثم يقسم "الرجوب" مراحل نضال الأسرى، خلال الفترة 1967-1980، إلى ثلاثة مراحل، هي[4]:
أولًا: مرحلة رد الفعل؛ وهي مرحلة دفاعية خلال السنوات الأولى للاحتلال، والتي وجد فيها الفلسطيني أنه لم يبق له سوى كرامته؛ الأمر الذي جعل الأسرى لا يعيرون اهتمامًا لشروط حياتهم المزرية، بل يركزون على كرامتهم الشخصية التي كانت تتعرض دومًا للدوس عليها تحت سياط وعصي وأقدام السجانين، وشتائمهم البذيئة. وفي هذه المرحلة اقتحم الأسرى حاجز الخوف، من خلال إضراب سجن عسقلان في العام 1970، الذي ارتقى فيه الشهيد عبد القادر أبو الفحم؛ أول شهداء الإضراب.
 ثانيًا: مرحلة النضال من أجل إدخال تحسينات جزئية (1971-1976)؛ وهي المرحلة التي شهدت، في معظمها، حالة من التمرد على قرارات السجانين وقوانينهم؛ كرفض الخروج إلى الفورة أو رفض استقبال الأهالي، وفق برنامج الزيارات، والامتناع عن حلاقة الذقن والرأس وغير ذلك. علما بأن أحد تل الأشكال كان إضراب عن الطعام في سجن "بيت ليد"، استمر لمدة ثمانية أيام. ويرى "الرجوب" أن هذه المرحلة توجت بأن حركة الأسرى قد خطت خطوات هامة وواسعة في المجالات كافة، أبرزها: تعمق الإدراك في أوساط الأسرى لأهمية التصدي لمجمل الشروط والسياسة التي تنتهجها سلطات الاحتلال في تعاملها معهم.
ثالثًا: مرحلة الفعل؛ وهي المرحلة التي سعى خلالها الأسرى إلى تحقيق المساواة في ظروف اعتقالهم مع ما يحصل للجنائيين اليهود. وهنا، أصبح الإضراب الوسيلة النضالية الأكثر حدة ومضاءً، ويتم اللجوء إليه عندما يصل التصميم على تحقيق الهدف أقصى درجاته. وفي هذه المرحلة تم إضرابيْ سجن عسقلان: الأول؛ لمدة (45) يومًا ابتداءً من 31/12/1976م. والثاني؛ لمدة (20) يومًا ابتداءً من 24/02/1977م.
وقد شهدت هذه المرحلة على بشاعة الاحتلال وقسوته، وخروجه عن كل الأعراف والقيم الإنسانية؛ بتعذيب الأسرى المضربين عن الطعام بكل السبل. وقد شكلت هذه المرحلة نقطة انعطاف هامة في تاريخ نضالات الأسرى الفلسطينيين، عندما أخذت سلطات الاحتلال تبتدع الآليات والمنهجيات والأساليب القمعية، وصلت إلى حد تصميم سجون بأشكال هندسية تعزز عمليات القمع وتسهل عمليات مراقبهم والتحكم في تصرفاتهم، فتوجت ببناء سجن نفحة الصحراوي، قيد البحث، الضيق الذي تم إيداع (80) أسيرًا فيه، الذي تم افتتاحه في 01/05/1980م.
في سجن نفحة الصحراوي هذا، جرت الملحمة البطولية التي هي موضوع الكتاب، حيث تقدم أسرى هذا السجن بـ (12) مطلبًا، خالية من أي بعد سياسي، ولا تتجاوز حدود الحد الأدنى من الشروط اللازمة لاستمرار حياة الأسير. وعندما لم يُستجب لأي من تلك المطالب خاض الأسرى إضرابًا عن الطعام لمدة (33) يومًا (14/07-15/08/1980).  
   وفي الفصل الثالث، يصل النص الذروة من خلال الوصف التفصيلي ليوميات، بل دقائق ما أطلق عليه "إضراب الشهيدين علي وراسم" الذي بيتت له سلطة السجن القمع بالقوة، تحت ادعاء "أن من يقومون به هم قتلة أراقوا الدم اليهودي ونفذوا مجازر جماعية". ومن أبرز محطات هذا الإضراب:
أولًا: معركة التغذية الإجبارية؛ ففي اليوم الخامس للإضراب؛ أجرى الطبيب المسؤول فحوصات أولية للأسرى، فقرر تغذيتهم إجباريًا. ونظرًا لأن هناك سابقة قانونية عن محكمة العدل العليا تفيد بأن من يتناول "سائل التغذية الإجباري" بكأس وليس "بالزندة" فهو مضرب عن الطعام، فقام (26) أسيرًا منهم بشرب ذلك السائل رغم رائحته الكريهة. وصاحب ذلك مصادرة السجانين للملح من غرف الأسرى المضربين[5].
وفي اليوم الثامن للإضراب؛ تم تجميع (26) أسيرًا من المضربين عن الطعام، من بينهم "الرجوب" نفسه، ووضعهم في ظروف بيئية شبه قاتلة؛ من الحر والعطش الشديدين لمدة أربع ساعات من ساعات تموز، لنقلهم إلى سجن الرملة. وعلى طول الرحلة، وفي كل مراحلها، كان الأسرى المنقولين يتعرضون لوابل من الضرب والركل والإهانة والتفتيش الجسماني المهين... الخ.
بشكل متزامن ومتطابق، تم في نفس اللحظة سحب الأسرى الباقون في نفحة وزملاءهم المُرَحَّلين إلى الرملة، العمل على إقحام الأنبوب البلاستيكي في أنف الأسير، بطريقة مؤلمة وبوحشية، لينتهي الأمر بدفق (3) لترات من ذلك السائل الكريه في معدة الأسير. ومن الجدير ذكره أن الخسة والنذالة، وصلت لحد دس الأنبوب القاتل في فتحة الشرج قبل دسّه في الفم[6].
ثانيًا: استشهاد علي الجعفري وراسم حلاوة:
نتيجة لما سبق ذكره؛ أصبح الأسرى في حالة إعياء شديد، ناجم عن صعوبة في التنفس وخروج الدم مع المخاط الذي يصاحبه السعال. وهنا، حضرت المحامية "ليئا تسيمل"، التي أدركت أن الظواهر الموصوفة للأسرى المضربين تعني دخول مادة غريبة إلى رئتي كل منهم. وطالبت بمعالجة الأسيرين: علي الجعفري وإسحق مراغة لمشاهدتها سوء حالتيهما، ولكنها لم تقابل الشهيد راسم الذي كان في حالة خطر شديد.
لم تستطع المحامية المذكورة فعل شئ؛ فقد أعطت عملية التغذية الإجبارية عبر الأنبوب النتيجة التي سعى إليها السجانون؛ فاستشهد "علي الجعفري" في 22/07/1980م، وبعده بيومين بالضبط استشهد "راسم حلاوة"، وأصبح اسحق مراغة على شفا الموت[7].
ثالثًا: إعادة الأسرى إلى نفحة وإنهاء الإضراب[8]:
استمر الإضراب بعد استشهاد قائديه؛ علي وراسم، فاحتفى زملاءهما بتسمية الإضراب باسميهما، واستمروا يكابدون العدو بآلته العسكرية والطبية والإعلامية، حتى حلول اللحظة التي أصبحت فيها الدولة العبرية تخشى من نتائج السخط، فعملت إدارة السجن (نفحة) على تلطيف معاملتها اليومية للأسرى، وبدأت بتكثيف حواراتها معهم، بهدف إقناعهم بوقف الإضراب.
في 14/08/1980؛ أي بعد مرور (33) يومًا على الإضراب، انتهز أحد وزراء الدولة العبرية مناسبة عيد الفطر، فتعهد بإجراء دراسة جدية لمطالب الأسرى، ودعا إلى وقف الإضراب. فتوقف الإضراب بالفعل في 15/08/1980م، وبعد ذلك بيومين حضر مدير السجون واجتمع مع أبطال الإضراب في سجن نفحة ووعد بتلبية بعض المطالب ودراسة البعض الآخر.   
   وفي الفصل الرابع والأخير، يجمل "الرجوب" وصف الحقيقة التي يقوم عليها الكيان الصهيوني من خلال تقرير اللجنة الخاصة التي تم تشكيلها للتحقيق في شأن الإضراب وحيثياته ونتائجه، فكانت من الناحية العملية، لجنة "طمس للحقائق"[9]؛ إذ أنها سعت إلى طمس حقيقتين رئيسيتين تتعلقان بالاحتلال، هما[10]:
أما الحقيقة الأولى؛ لجوء سلطات السجن إلى استعمال العنف الجسدي لكسر إرادة المضربين عن الطعام؛ من أجل إيقاف إضرابهم (بالقوة).
وأما الحقيقة الثانية؛ فهي الأوضاع السيئة التي دفعت أسرى نفحة للإضراب.
كما احتوى تقرير اللجنة على مجموعة من الأكاذيب ولتضليل وأخفى العديد من المعلومات والبيانات والبينات، مثل: كسر ذراع الأسير خميس السلايمة، ثم كسر ضرسه من قبل الممرض الذي لكمه أثناء تجبيره، وعدم الإشارة إلى إدخال (4) مضربين عن الطعام إلى مستشفى سجن الرملة.
لـ "حديث نفحة" نكهة خاصة
كما يشير "الرجوب"، فإن هذا الكراس/ الكتاب هو نتاج عصارة تفكير عشرات المناضلين الفلسطينيين الذين ارتأوا فيه وثيقة حية ودائمة للأجيال، وقد أضاف إليه الكاتب مما لديه، ولديه الكثير من المعرفة والفكر، عندما جعل، هو ورفاق دربه، من السجن جامعة، بل أم الجامعات فلم يلتفتوا إلى ما أراده العدو، بل وضعوا نصب أعينهم هدفهم الأسمى في بناء شخصياتهم على أسس علمية سليمة، فخرجوا من سجونهم روادًا في الفكر الوطني والثقافة. وأما الكتاب قيد النقاش "نفحة يتحدث" فقد وجدت بين ثناياه الكثير من المعرفة والدلالات الفكرية والتأريخية المرتكزة على المحاور التالية:
أولًا: الإسناد العلمي والمفاهيمي: فلم يكن الكتاب تقليديًا، بأن يكتفي بالسرد الحكائي للأحداث المتعلقة بالإضراب؛ وإنما أسند بالعديد من المفاهيم العلمية؛ بتعريفيها النظري والإجرائي، ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية والبيولوجية، كما تطرق إلى أثر الصراع الهوياتي والوجودي على طرفي الصراع؛ فمن ناحية هناك الاحتلال وهو من النوع الإحلالي الساعي إلى محو الآخر، وإنشاء كينونته السياسية على أنقاضه وعدم الإقرار حتى بإنسانيته، ومن الناحية الأخرى هناك الأسرى الذي يجابهون ذلك الجبروت بصدور عارية، إلا أنهم يرون في كرامتهم الإنسانية والوطنية رمز وجودهم.
ونظرًا لتعدد الأمثلة على صحة ما نقول، أكتفي بالإشارة إلى ما يأتي:
1)    يرى "الرجوب" أن السجن "تأريخ، ووثيقة اجتماعية ونفسية وثقافية، وشاهد للضحية على الجلاد (ص: 7). كما يرى "ظروف الاعتقال" بأنها: "الجوانب المادية المتصلة بحياة الإنسان، بوصفه كائنًا بيولوجيًا له حاجات تشمل: السكن، والغذاء، والكساء، والنوم والرعاية الطبية (ص: 23).
2)    لأن "الإنسان ابن تجربته" فإن السجن بوصفه سجنًا هو أداة للعنف، كائنا ما كان عليه النظام الاجتماعي أو السياسي الذي يقيم السجن. أما سجون "الاحتلال الصهيوني" فإنها، بالإضافة إلى ذلك هي بديل احتلالي لـ "أعواد المشانق" (ص: 20). كما أن الظروف المعيشية وتلك المعاملة السيئة للأسرى من قبل الاحتلال هي تجسيد لرغبة دفينة في القتل (ص: 23).
3)    الإمساك هو الحالة المألوفة لأمعاء الأسرى؛ بسبب الغذاء السئ، ونقص الحركة والتوتر العصبي (ص: 26). ونتيجة لذلك يعاني غالبية الأسرى الفلسطينيين يعانون من البواسير، وأمراض المعدة، والأمعاء والأمراض المختلفة (ص: 31).  
4)    كما يرى "الرجوب"، أن الإضراب المفتوح عن الطعام، هو: "حالة يرفض فيها الإنسان أن يختزل إلى مجرد كائن بيولوجي، وهنا يكون الأسير الفلسطيني، بإعلانه الإضراب، قد رفض الخضوع للاحتلال و(قوانينه وإجراءاته)" (ص: 61).
 ثانيًا: ربط الأحداث التي تمت بين السجون المختلفة: فلم يحصر "الرجوب" سرده للأحداث في سجن نفحة؛ وإنما استعرض الأحداث والإضرابات المختلفة، التي جعل منها لوحة نضالية زاهية متكاملة توثق لنضالات الأسرى، بما يحفظ لهم حقهم التاريخي في الإسهام الفاعل والجاد في إحقاق الهوية الوطنية وجعلها أمرًا واقعًا على الخارطة السياسية.  
ثالثًا: الاحتلال يوظف الطب والهندسة والثقافة لإيذاء الأسرى: لم يمر مشهد من تلك المشاهد الدرامية، إلا وكان فيها من قبل الاحتلال من يمثل الطب؛ طبيبًا أو ممرضًا. وقد تكرر في الغالبية العظمى للمشاهد كافة، حضور سلبي وعدواني وشبه قاتل لكل من الممرض والطبيب.
وقد بينا سابقًا الضلالات المتعلقة بالرعاية الطبية التي تسعى إلى ابتزاز الأسير المريض وتعميق آلامه وعذاباته. ولعل أوضح مثال على ذلك "الممرض القاتل" الذي تكرر ذكره على مدى اليوميات التي غطاها الكتاب. أضف إلى ذلك الأطباء الذين مارسوا أبشع عمليات القتل النفسي والجسدي التي جرت خلف جدران الأسر (ص: 47-48).    
كما وجدنا أن هناك مهندسين من معهد الهندسة التطبيقية "التُخنيون" قد بذلوا الجهود الجادة من أجل تصميم أماكن ضيقة، وغير صحية وتشيع أجواء من القلق الدائم والرعب والخوف، ويكفي القول بأنهم صمموا غرفًا الواحدة منها بمساحة (20) مترًا مربعًا مخصصة لعشرة أسرى، بنوافذ لا تزيد مجموع مساحاتها عن نصف متر مربع (ص: 65)، وهذا ما جعل الغرفة تابوتًا حقيقيًا كريه الرائحة (ص: 70).
وكذلك وجدنا أن الطبيب يعطي الدواء للأسير المريض دون أن يوصي بتحسين ظروفه أو منحه بطانية تقيه زمهرير البرد (ص: 35)، كما وجدنا الطبيب الذي يعد ملف البراءة المستقبلي للسلطة في حالة وفاة أسير؛ إذ يضاف في ملفه الأوراق اللازمة لتلك البراءة من فحوصات وهمية وعلاجات وهمية كذلك (ص: 45). ولعله من الجدير الإشارة إلى أن هناك طبيبًا يدعى "مردخاي شيرمان" أصر على تسجيل حقيقة ما يجري في السجن، لم يسمح له بالعودة إلى السجن (ص: 96).
من جانبٍ آخر؛ يشير "الرجوب" إلى أنه كان يُفرض على الأسرى كتب ذات أبعاد ثقافية تأتي على شكل حقن سامة من خلال الكتب التي تسمح بإدخالها للأسرى (ص: 122).
وفي ذلك كله نجد أن "الرجوب" يلتقي مع الروائي "أسامة العيسة" في روايته المسكوبية الذي وصف كيفية توظيف الاحتلال لكل من[11]: القضاء والطب والكتب والعلوم المختلفة، في إطلاق الأحكام على الفلسطينيين في المعتقلات الصهيوينة، فالأحكام تصدر مسبقًا، وليس لعلوم القضاء أي دور فيها، وإنما تتم تحت مظلتها عندما يتحول قسم التحقيق إلى مسلخ، وعندما يتعب المحقق ينوب عنه آخر، والطبيب لم يعد طبيبًا؛ بل أنه يعامل المريض-الأسير بتقزز ولا يتورع في استخدام سماعته كأداة لضرب الأسير. أما الكتب التي تدخل إلى السجن فهي كتب الجان، وعذاب القبر والخزعبلات.
 بهذا؛ نتوصل إلى نتيجة مفادها أن علماء الاحتلال قد وظفوا معرفتهم العلمية في خدمة السجّان الذي يسعى إلى سلب إرادة الأسير وإفقاد بعده الإنساني. وهنا؛ نجد أنفسنا أمام السؤال الاستراتيجي التالي: كيف أدى هؤلاء قسم تخرجهم من الجامعات، الذي يقوم جوهره على خدمة الإنسانية جمعاء؟! أليس في ذلك خروج عن العرف الإنساني، وخروج عن الشرعة الدولية؟! وهل يبقى للأكاديميا الإحتلالية مصداقية بعد هذا كله؟!
الخاتمة والتعليق
يقول "جبريل الرجوب" بشأن المحتوى الواقع بين دفتي هذا الكتاب، أنه قد وزّع على الإخوة والرفاق الثلاثة والسبعين، الذين شكلوا المجموعة الأولى التي هيأت وخططت وخاضت الإضراب. وفي المحصلة، تم تكليف (جبريل الرجوب ويعقوب دواني)، بإعادة كتابة ما يلزم لاستكمال هذا الكراس وتحرير مواده والتدقيق في جزئياته. وتقرر أن يوزع "الكرّاس" بعد ذلك على الجميع، الذين قرؤوه بإمعان وأخضعوه لنقاش معمق طويل، ليصل إلى هذه الصيغة المنشورة بين دفتي الكتاب" (ص: 10).
لقد اخترت هذا الاقتباس؛ لكي نقول لأبناء شعبنا أننا أمام وثيقة هامة تشير إلى مدى البطولة والفداء الذي قدمته فئة من أبنائهم، دفاعًا عن الكرامة الوطنية، ليس لأسرى نفحة في حينه وحسب، بل لجميع السجون خلال أول 15 سنة من النكسة، وما يعنيه ذلك من دور لأسرانا البواسل عبر تاريخ الحركة الأسيرة في جعل فلسطين وشعبها على خارطة العالم، بعد أن كادت تمحى وتندثر إلى الأبد.
كما جاء هذا الاقتباس، لكي نبث رسالة إلى المنظمات الحقوقية الدولية، بأنهم أمام شهادة حقيقية على ما اقْتُرِف بحق أولئك الأسرى من ممارسات لا إنسانية، أجمع عليها ثلاثة وسبعون فلسطينيًا، من مختلف المشارب السياسية والفكرية، وهم مسؤولون عن كل حرف فيها. فهل يبقى بعد ذلك من يبحث عن دليل لإدانة الاحتلال بأوجهه المختلفة؛ الشرطية والعسكرية والاستخبارية والطبية والهندسية... الخ!
بقي القول إن هذا الكتاب، بما يحتوي من تفاصيل دقيقة تتعلق بحقبة هامة من تاريخ شعبنا وقضيتنا، يضاف إلى المكتبة الفلسطينية، إلى جانب الكتب والمصادر الأخرى التي وثقت لنضالات الأسرى الفلسطينيين، فرادى وجماعات، والتي أصبحت تشكل، في مجموعها، وثائق حية تحفظ للأسرى الفلسطينيين، الشهداء منهم والأحياء، حقوقهم المعنوية والمادية، الناجمة عن شراسة الاحتلال وقسوته، والتي لا تسقط بالتقادم، وإنما هي بحاجة إلى ظرف دولي موضوعي، تضعف فيه شوكة الاحتلال ومن يقف وراءه في المحافل الدولية، لكي ينقض عليه شعبنا لانتزاع حقوقه الوطنية المشروعة على المستويات كافة.
كما أن هناك ضرورة قصوى لأن يتم تجميع تلك المراجع، ودراستها بتمعن، لتشكل معًا ملحمة وطنية للأسرى الفلسطينيين. وقد تشكلت هذه القناعة من خلال الاطلاع والقراءة المتمعنة الدقيقة لكل من: نصب تذكاري لمؤلفيه "حافظ أبو عباية" و"محمد البيروتي"، ورواية البيت الثالث لمؤلفها "صالح أبو لبن"، ورواية المسكوبية لمؤلفها "أسامة العيسة".
وعندما تمعنت في هذا الكتاب "نفحة يتحدث" وجدت أن هناك حالة من التكاملية والتعاضد المعلوماتي، مما يجعل الأعمال الكاملة للأسرى ضرورة وطنية، تسد فراغًا كبيرًا تعاني منه الرواية الفلسطينية في مواجهة رواية الحركة الصهيونية القائمة على "المحو الكامل للأثر الفلسطين والإنشاء المزيف للكيان الصهيوني"، التي تعتمدها منذ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن.
كما أنه لا بد من العمل على اعتماد "تجارب الأسرى وإبداعاتهم" كمساق تعليمي في مدارسنا وجامعاتنا؛ لتصبح تجربتهم النضالية، الممتدة حتى انتهاء الاحتلال، جزءًا أساسيًا من ثقافة الشعب الفلسطيني بأجياله المتعاقبة. ثم الانتقال إلى مرحلة متقدمة بترجمة ذلك إلى اللغات الأجنبية؛ لكي يصبح الظلم والشراسة التي تعرض لها أسرانا جزءًا من ثقافة الأمم والشعوب الأخرى، كما هي ثقافتنا مشبعة بالغضب على سجون الظلم والاستبداد العالمية كسجن الباستيل الذي أصبحت ذكرى اجتياحها وإفراغها من معتقليها مناسبة وطنية لفرنسا، بل عالمية، يحتفى بها كل عام. أليست سجون نفحة، وعسقلان، وجنيد وغيرها باستيلات معاصرة، يديرها آخر الاستعمارات وأطولها وأكثرها عنفًا وشراسة؟!  
ولا يمكن المغادرة قبل لفت الانتباه إلى أن هناك حاجة ملحّة لجعل هذا الكتاب وغيره من الكتب التي تتحدث عن بطولات شعبنا، الفردية والجمعية، بين أيدي أبنائنا الطلبة في مدارسهم وفي بيوتهم؛ لكي تشتعل فيهم روح الاحترام والتقدير والإعجاب اتجاه آبائهم وأجدادهم، الذين لولا تضحياتهم ومواقفهم البطولية، لما كنا على ما نحن فيه من مهابة واحترام أمام شعوب هذا الكوكب.    
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 03 أيلول، 2015م



[1] يقع مبنى هذا السجن على رأس ربوة ترتفع عن سطح البحر قرابة (850) مترًا، وعلى مسافة (240) كيلو مترًا جنوب يافا.
[2]  (ص: 21-48)
[3] يقول الرجوب (ص: 25): وقد عاش كاتبو هذه السطور أسابيع وشهورًا طويلة في أواخر الستينيان وأوائل السبعينيات، في غرف ما كان بإمكانهم أن يجدوا أماكن تتسع لأجسامهم إذا أرادوا النوم، مما كان يحتم عليهم النوم بالتتابع.
[4]  ص: 53-75.
[5] انظر: ص: 79-80.
[6] انظر: ص: 84، 86.
[7] انظر: ص: 92.
[8] انظر: ص: 96-97.
[9] تكونت اللحنة من: 1) صموئيل آيتان/ رئيس اللجنة؛ مراقب قسم الشرطة بوزارة الداخلية. 2) هارون أرجمان؛ مستشار شئون السجون في قسم الشرطة بوزارة الداخلية. 3) الطبيب يسرائيل ليفشتس من مكتب وزارة الصحة للواء الأوسط، وكان دوره يتركز في "ابتداع" الادعاءات "السخيفة" لتبرير استشهاد  علي الجعفري وراسم حلاوة (انظر: ص: 105).
[10] انظر: ص: 104.
[11] أسامة العيسة، رواية المسكوبية, صادرة عن "مركز أوغاريت الثقافي/ فلسطين" للعام 2010. انظر كذلك: قراءة لرواية المسكوبية عزيز العصا المنشورة في صحيفة القدس، بتاريخ: 23/01/2015م، ص: 18. 

إرسال تعليق Blogger

 
Top