0
سميح غنادري في كتابه "المهد العربي":
المسيحية نبتة شرقية أصلانية.. رأت في الإسلام دين عدل
-الحلقة الأولى-
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 23/09/2015م، ص: 18
عزيز العصا
"سميح غنادري"؛ كاتب فلسطيني الأصل والفصل والمولد والنشأة، من مواليد عام 1950، في قرية الرامة التي تقع على عد نحو (25) كليو مترًا شمال مدينة عكا. وهو متخصص في موضوعي الصحافة والأدب العالمي في الفلسفة. لقد خاض "غنادري" غمار العمل السياسي والجماهيري، فَخَبر هموم شعبه وقدّر الحاجة الماسة للأمن والأمان، على مستوى الفرد والمجتمع، وما يتطلبه ذلك من مستوى عال من الوحدة الوطنية والالتحام الديني بما يشكل الركيزة الأساسية، في المحافظة على الهوية الوطنية والقومية لأبناء شعبه، الذي تسعى رياح التهويد إلى اقتلاعه من جذوره الممتدة لآلاف السنين في عمق هذه الأرض التي جبلت، عبر التاريخ، بدماء أبنائها المدافعين عنها دفاع الأبطال.


والآن؛ سوف نتوقف مع "سميح غنادري" وقد وضع بين أيدينا وأيدي الأجيال القادمة عصارة عامين متواصلين من البحث والتمحيص وقراءة السطور وما بينها. فكانت نتيجة ذلك كتابه "المهد العربي: المسيحية المشرقية على مدى ألفي عام والعلاقة المتبادلة مع الإسلام"، كانت طبعته الأولى في العام (2009) قد صدرت عن "دار 30 آذار للنشر"، ثم توالت الطبعات الأخرى حتى الطبعة الرابعة في العام (2012) الصادرة عن "مكتبة كل شئ" في حيفا.
والنسخة، قيد النقاش، هي الطبعة الأولى من الكتاب الذي يتألف من (608) صفحات، توزع عليها خمسة فصول، يسبقها "مدخل" يضم معجمًا يساعد القارئ في فهم عدد من المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بالمحتوى القادم، وتعريفًا بالكتاب وضرورته وأهميته، وينتهي المدخل بتأكيد "غنادري" على أن المسيحية نبتة أصلانية في الشرق وأنها من أهم مكوناته الروحانية. ويتبع "غنادري" فصوله الخمسة تلك بما أسماه "بدل الخاتمة"، ثم شكر لكل من ساعده (ماديًا ومعنويًا وبحثيًا)، وملحق بالخرائط الملونة يضم (31) خريطة تبين المسارات الجغرافية والتاريخية التي تتبعها الكتاب.
وأما الفصول الخمسة فتغطي العناوين الرئيسية التالية، وما يتبعها من عناوين فرعية ذات صلة: 1) القرون الثلاثة الأولى للمسيحية، 2) المسيحية في ظل الإمبراطورية الرومانية-البيزنطية، 3) المسيحية العربية في دولة الخلافة العربية الإسلامية، 4) الصليبية حرب وجريمة غربية بحق الإسلام والمسيحية الشرقية و5) العرب المسيحيون في عهد الخلافة العثمانية، ودورهم التنويري، ومساهمتهم في وضع أسس النهضة الوطنية والحركة القومية العربية الحديثة. ويخصص "غنادري" الثلث الأول من كتابه هذا للحديث عن المسيحية منذ نشأتها الأولى حتى مجئ الإسلام والذي استقبله المسيحيون العرب بما يشبه الحفاوة؛ منهم من انضم إليه، ومن بقي منهم لم يناصبه العداء.
ويحتضن ذلك كله غلاف جميل، عبارة عن لوحة من عمق الفن العربي الإسلامي (مرسومة بالفسيفساء)؛ في إشارة من الكاتب إلى جوهر الكتاب، القائم على أن العرب (مسلمون ومسيحيون) هم من شيدوا، بعرقهم ودمائهم، حضارة تحمل ملامح القوة والاقتدار، التي انفرد بها العرب والمسلمون دون غيرهم عبر الحقبة التاريخية التي يغطيها الكتاب.
 لقد قدر لي أن أطالع ما بين دفتي هذا الكتاب، على مدى بضعة أيام. فلم أجد كاتبه مؤرخًا، إلا أن الكتاب يحتوي كما كبيرًا من المعلومات التاريخية، ولم أجده فقيهًا، إلا أن في الكتاب قضايا فقهية؛ إسلامية ومسيحية. وبين هذا وذاك وجدت الكتاب يرتكز على المحاور الرئيسية الآتية.
المحور الأول: المعلومات التاريخية:

لم يكن الكتاب كتاب تاريخ، ولم يرد له المؤلف ذلك، إلا أن "غنادري" بذل جهدًا جادًا من أجل توفير المعلومات التأريخية الدقيقة التي وظفها في النص، للتأكيد على وجهة نظره، وإستراتيجيته في التفكير والتحليل التي احتكم إليها في مناقشة الحراك الذي تعرضت له المسيحية المشرقية على مدى ألفي عام، وعلاقتها المتبادلة بالإسلام.
نظرًا لازدحام هذا المؤلَّف الضخم بتلك المعلومات، ولطول البنية الزمانية للنص؛ الممتدة حتى ألفي عام في عمق التاريخ، ولحجم البنية المكانية للمكان الذي يغطيه الكتاب، والممتد على اتساع ثلاث قارات. فإنني، وأنا أشعر بالتقصير في إيصال الفكرة للقارئ، سوف أكتفي باستعراض المعلومات التاريخية التالية:
أولًا: ما قبل الإسلام:
لقد ولدت المسيحية ونشأت في النصف الأول من القرن الأول للميلاد في مقاطعة فلسطين التابعة لولاية سوريا ضمن الامبراطورية الرومانية، بين فناءين معاديين، هما: الامبراطورية الرومانية الوثنية والمتعددة الآلهة، والدين اليهودي الذي اتخذت مؤسسته الكهنوتية موقف الرفض والعداء للمسيحية منذ ولادتها. وعادى اليهود في العقود الأولى لتبشيرهم ثقافة عصرهم (الهيلينية)؛ باعتبارها ثقافة عبادة أصنام وتعدد آلهة، مقابل عنف ومادية وإباحية ثقافة الإمبراطورية (الرومانية). وقد نشط المسيح وتلاميذه في البلاد المسماة "فلسطين" حاليًا، وعلى ضفتي نهر الأردن، وأما ابن فلسطين المسيح فلم تخط قدماه حدود وطنه فلسطين إلا نحو صور وصيدا. ثم تتوسع الدعوة للمسيحية لتشمل "مصر" التي تصبح المركز الثاني لها بعد سوريا ومدينتها أنطاكيا، وهناك تتشكل الكنيسة القبطية.

المسيحية ثورة، لا دعوة للمهادنة كما يعتقد البعض، والمسيح هو الثائر الأول والشهيد الأول. إذ أن المسيح، الذي ولد يهوديًا لعائلة يهودية ونشأ على تعاليم العهد القديم، دخل أورشليم واقتحم "الهيكل" بشجاعة الثائر مواجهًا القيادة الكهنوتية اليهودية المتحالفة مع الجنود الرومان والمدعومة منهم، ودعا إلى حمل السيف لاجتثاث عالم الظلم والخطيئة[1]. وقد نعت المسيح كهنة اليهود وقادة فرقهم بصفات لا يتسع المجال لذكرها، منها: أولاد الأفاعي، حيّات، زناة، مراؤون، آكلوا بيون أرامل. وفي تصويره لجشعهم وطمعهم، يقول: يصفّون الماء من البعوضة لكنهم يبتلعون الجمل. ويحذر "غنادري" من التيار السياسي الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين بإسم "المسيحية الصهيونية"، باعتباره التيار الذي يشوه تعاليم المسيحية التي ترفض التبشير لـ "شعب الله المختار"، وإنما تبشر لجميع الأمم.
أول كنيسة مسيحية في العالم تأسست في القدس، وهي "كنيسة أورشليم" توالى على أسقفيتها (13) أسقفًا خلال (28) عامًا (106-134م)، استشهدوا بغالبيتهم[2]، كان آخرهم "مرقس" وهو أول أسقف عربي لا ينحدر من أصل يهودي. وقد عانت هذه الكنيسة من الاضطهاد الشديد على يدي "شاؤول"؛ اليهودي المتعصب[3]. وقد تعددت موجات الاضطهاد الروماني للمسيحيين، وتفاوتت في حدتها في القرون الثلاثة الأولى للميلاد، خلال الفترة (54م-275م)؛ بدءًا من نيرون وحتى أورليان[4]. فقدم المسيحيون قوافل الشهداء حتى أطلق على دينهم "دين الشهادة والشهداء".
وفي العام (312م) تنصّر الإمبراطور الروماني (قسطنطين)، وتبنى شعارًا سياسيًا مفاده "إمبراطورية واحدة-إله واحد"؛ لفهمه أن المسيحية الصاعدة مكسب أيديولوجي للإمبراطورية ومرساة لثباتها ووحدتها، عدا عن كونها دينًا يبشر بإله واحد، ثم يرسل أمه "هيلانة"، إلى فلسطين فزارت بعض الأماكن المرتبطة بحياة المسيح، وقامت بتشييد (25) كنيسة، منها: كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس.

بعد أن أصبحت الكنيسة ابنة قصور الإمبراطور، تغلبت عليها السلطة الدنيوية، وأصبحت عصا الإمبراطور صاحبة السطوة والقرار عند كيل الاتهامات لقادتها وأساقفتها وبطاركتها، حتى "تنصرت الإمبراطورية وتأمبرطت النصرانية"، وكما حصل مع الكنيسة الأرمنية، عندما "تنصرت أرمينيا وتأرمنت النصرانية".  ثم أخذت الانشقاقات تجتاح الكنيسة، ليكون نصيب "الكنائس العربية" أن ينظر إليها على أنها "كنائس هرطقة"[5].
ثانيًا: الإسلام وما بعده:
كان العرب، يعودون إلى الأصل السامي، وهم موجودون في المنطقة منذ قرون عديدة قبل الميلاد[6]، وثنيون ويحتقرون حضارة الرومان والفرس، وصلهم التبشير المسيسحي عن طريق التبادلات التجارية، وحتى العقد الثالث من القرن السابع كانت المسيحية تشير، بخطى ثابتة، نحو تنصير غالبية العرب، أينما تواجدوا. وفي سنة (582م) يلتقي الراهب بحيرى بأبي طالب ومعه ابن أخيه "محمد" بعمر (12) عاما، فقال له بأنه يرى في "محمد" علامات النبوة، وعزز ذلك ورقة بن نوفل-المسيحي.
إبان انتشار الدعوة المحمدية، التي بدأت عام (610م) واستمرت لمد (22) عامًا وهي دعوة تعود إلى الحنيفية؛ أي إلى دين إبراهيم القديم الموحد بالله والمسلّم بأمره له، أي أن موسى وعيسى (نبيي اليهودية والمسيحية على الترتيب) هما تجليات تاريخية للوحي الإلهي ذاته. في تلك الحقبة، كانت المنطقة تشهد هناك انشقاقات داخل الكنيسة الأرثودكسية، وكان الفرس يحتلون مناطق من بيزنطا بما فيها فلسطين.
وهكذا؛ يأتي الفتح العربي الإسلامي في أواسط القرن السابع، ليقضي على مملكة الفرس، ويقتطع مساحات واسعة من الامبراطورية البيزنطية"، ليستقر الأمر بتعريب وأسلمة العراق والشام ومصر.، فيصبح حوض البحر الأبيض المتوسط بحرًا لثلاث كتل سياسية، هي: الكتلة الغربية بممالكها، والكتلة البيزنطية، والكتلة العربية الاسلامية (على شرقه) التي تمتد إلى شواطئه الغربية.
ويستطرد "غنادري" في توفير المعلومات التاريخية الخاصة بالأحداث التي يمر عليها، مثل:
1)      الإشارة إلى المعلومات الخاصة بكل حقبة من حقب الخلافة الإسلامية المختلفة، التي بلغت مساحة دولتها الإجمالية (12 مليون كيلو متر مربع)، واخترقت ثلاث قارات؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، وامتدت من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي وإلى الصين، وتخللها انفصالات وقيام دويلات وممالك محلية شبه مستقلة أو مستقلة كليًا. والتي تتلخص كما في الجدول التالي:
الخلافة
الفترة الزمنية
عدد الخلفاء

الراشدة
28 عامًا (632-660)
4

الأموية
89 عامًا (661-750)
14

العباسية
508 أعوام (750-1258)
37
انهارت على يد المغول
المماليك (قامت على أنقاض الدولة الأيوبية)
267 عامًا (1250-1517)
47 سلطانًا

العثمانية
400 عام (1517-1918)
38 سلطانًا
ورثوا العباسيين والمماليك، واعتمد نظام وقوام جيشهم على الانكشارية؛ وهم غلمان نصارى في الأصل
2)      ساهم العرب النصارى في التمدن العربي الإسلامي، عبر الحقب التاريخية المختلفة، علما بأنهم كانوا قبل الإسلام قد نقشوا وكتبوا بالخط العربي، وكانوا قد نظموا الأشعار وبرعوا في الموسيقى والغناء، وعندما جاء الإسلام، وعلى امتداد الخلافات الأربع (الراشدية-العثمانية)، تولى النصارى العرب وغيرهم من أهل الذمة، مناصب عدة، حصرها أحد الباحثين بـ (406) موظفين خلال الفترة (622-1517م)؛ (75 وزيرًا، و31 موظفًا تنفيذيًا كبيرًا، و300 كاتب).
3)      ورد في الكتاب معلومات جيدة حول حملات الصليبيين-الفرنجة على بلاد الشام، بما فيها فلسطين، ومن ثم احتلالهم وحكمهم لها لقرنين من الزمن (1097-1291)، وكانت الهدف "المعلن"، الأول والأساسي، لتلك الحملات لعامة الناس "تحرير الأماكن المقدسة، ونجدة الدولة البيزنطية المسيحية".
4)      يختلف المؤرخون في عدد الحملات الصليبية؛ فمنهم من يعتقد بأنها خمس حملات، وآخرون يتحدثون عن سبع وغيرهم يتحدث عن ثماني أو تسع حملات. وبالإمكان الحديث عنها كحملة واحدة متواصلة؛ دون خط وفاصل وواضح بين الواحدة والأخرى. وكانت الحملة الأولى في العام 1096م.
5)      في 04/07/1187م تقع معركة حطين، التي ينهزم فيها الفرنجة شر هزيمة، وفي 02/10/1187م يتم تحرير القدس من أيدي الفرنجة الذين لم يبق من ممالكهم في بلاد الشام، إلا أنطاكيا وطرابلس وبعض المدن والقلاع الصغيرة، ثم يعاود الصليبيون الكرّة فيحتلون الساحل، بما فيه عكا، ويعقد معهم صلاح الدين صلحًا، يبقو هو بموجبه في الداخل الفلسطيني، وعندما يستصرخ الخليفة العباسي (الناصر لدين الله) فلم ينصره.
6)      من بشاعة الفرنجة وسوء أخلاقهم مع المسيحيين، ما قاموا به في العام (1204) في القسطنطينية من اقتحام لكنيسة "آيا صوفيا" التي يختبئ فيها بعض البيزنطيين، ورغم رفعهم للكتب المسيحية تم ذبحهم، هم وكهنتهم، داخل الكنيسة وخارجها. وفي ذلك الشأن يجمع المؤرخون على أنه "لم يأت الصليبيون بالسلام بل أتوا بالسيف.. وهذا السيف مزّق العالم المسيحي".

7)      كما يورد "غنادري" معلومات تاريخية حول الصراع بين المسيحيين على الأماكن المقدسة، أيام العثمانيين، وصلت حد الاقتتال العنيف، في السنوات: 1674، و1872، و1893، و1901، فيسقط قتلى وجرحى من الكهنة والرهبان وعامة المؤمنين.
8)      يفرد "غنادري" مساحة واسعة للإرساليات التبشيرية الغربية، والامتيازات التي حصل عليها الأوروبيون لدى الخلافة العثمانية، والتي توجت بالمدارس والمعاهد التعليمية، التي تحمل مبادئ الثورة الفرنسية (1789م)، وما فيها من ثورة عارمة مشبعة بالثورة الصناعية وبالحضارة والتمدن والقيم والمثل الأوروبية الجديدة المنعتقة من التخلف. في حين أن التعليم في مناطق الخلافة كان بمستوى "الكتّاب" والدروشة. كما أسست تلك الإرساليات أديرة ورهبانيات خاصة بها، بهدف التبشير بين أرثوذكس الشرق، لا بين المسلمين. ويتطرق كذلك إلى الإرساليات الروسية، في خدمة القيصرية والكنيسة الروسية، ودعمها لحقوق نصارى بلاد الشام[7].
9)      ويختم "غنادري" كتابه هذا بالتطرق للدور الريادي التنويري للعرب النصارى، وأثرهم في النهضة الوطنية والحركة القومية العربية. ويشير "غنادري" إلى أن هناك شيوخًا وعلماء مسلمين كانوا سباقين لذلك أيضًا وفي وقت مبكر من القرن التاسع عشر، كما في مصر ولبنان. مع التأكيد على أن القوميين العرب النصارى اعتبروا الإسلام والحضارة العربية الإسلامية مكونًا مركزيًا؛ تاريخيًا وثقافيًا من مكونات الهوية القومية العربية. 
المحور الثاني: الإسلام: دين لم يقم على السيف.. ويبيح للنصارى البقاء على دينهم
نزل القرآن الكريم، فورد فيه ذكر المسيحيين و/أو النصارى، في مواضع مختلفة، حتى أن هناك سورًا حملت أسماء تخصهم، مثل: آل عمران، ومريم، والمائدة، وأن القرآن قيّم المسيحية وقدّرها واحترمها كدين سماوي، وأن المسيحيين واليهود هم أهل كتاب، علما بأنه في مواضع معينة، كما يرد في سورة الفاتحة بوصفهما بـ "المغضوب عليهم والضالين". ويورد "غنادري" أن هناك من يرى أن المقصود بذلك هم الذين لم يهتدوا ولم يلتزموا، وهناك من يرى بأن الإسلام يكفّر من يؤمن بالثالوث وليس من يؤمن بالله، كما أنه يكفّر أصحاب الفرق التي تؤلّه مريم العذراء وتؤلّه المسيح.  كما فرض القرآن والسنّة وجوب دفع "الجزية" ويصبحون من "أهل الذمة"، ثم تظهر المذاهب الفقهية الأربعة التي تتفق في قضايا، وتختلف في قضايا أخرى بشأن المسيحية واليهودية.
لقد خصص "غنادري" في كتابه هذا مساحة جيدة للدفاع عن إسلام العقيدة، وتمييزه عن إسلام الدولة (ص: 318-324)، كما تصدى "بقوة" لمقولة "أن الإسلام فرض نفسه بحد السيف والإكراه"، هذه المقولة التي أدت إلى ما يطلق عليه في عصرنا "إسلاموفوبيا"، والترويج لها على أن "الإسلام يشن حرب جهاد مقدسة" تهدف إلى القضاء على الحضارة الغربية وفرض أسلمة على العالم. ويرى "غنادري" انه يقف وراء ترويج هذه المقولة قوة أوروبية صليبية، تبريرًا لأطماع إلى سلطتين؛ سياسية وكنسية تهدفان إلى احتلال الشرق. كما يقف وراء هذه المقولة الجهل الفاضح بالإسلام. ويفند هذه المقولة من خلال الأمثلة والمفاهيم الآتية:
·         لم ينشر "محمد" (ص) دينه بالسيف، وإنما من خلال تحدّيه للسيف ومقاومته، بما فيه سيف الوثنيين، ومنهم أبناء قبيلته قريش. ففي العام (616م) أرسل أتباعه إلى الحبشة المسيحية هربًا، وفي العام (622م) يهاجر إلى المدينة هربًا من العنف والسيف. ثم أقام الإسلام إمبراطورية غيرت وجه العالم خلال قرن واحد فقط، وما من إمبراطورية قامت في العالم عن طريق الورود والرياحين.
·         أما الجهاد في الإسلام لا يعني  الحرب والقتال والعنف لفرض الإسلام على الآخرين, وإنما هو للدفاع عن النفس وعن الحق, وعندها تصبح الحرب ضرورة في نصرة العدالة وتحقيق السلام. كما لم تكن حروب المسلمين, في الردة  وفي حروب الفتوحات, حروبا على الكفار لفرض الإسلام بحد السيف. فحروب الردة كانت في الجزيرة ضد قبائل ارتدت في الأساس عن دعم الدولة الإسلامية الناشئة ودفع الزكاة والانصياع لها. وهنالك شعوب ودول اتخذت الإسلام دينًا رسميًا لها، دون أن تطأ قدم مسلم أراضيها[8]
وبحسب "غنادريفإنه لم يسجل في التاريخ أن الإسلام شنّ حربًا على المسيحية و/أو اليهودية كديانتين توحيديتين، وإنما كانت الحروب التي شنها المسلمون، في عهد النبي محمد (ص) إما في مواجهة الوثنيين الذين شكلوا خطرًا على الدعوة، وإما ضد اليهود لأنهم خانوا المعاهدات بخصوص حيادهم في المعارك مع الوثنيين، أو ضد المسيحيين بهدف تأمين طرق تجارية وسلامة قوافل ومسارات استراتيجية؛ لتوسيع سلطة دولة المسلمين باتجاه سوريا والعراق وفلسطين.
ولعل الأمر يصل ذروته بشأن العلاقة الاسلامية-المسيحية في عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيما يورد "غنادريبأنه في سنة (631م) جاء وفد من نصارى نجران، يضم 40-60 شخصًا، للاجتماع بالرسول محمد (ص)، فدخلوا عليه في الجامع وصلبانهم على صدورهم، وحين تحين ساعة صلاتهم يؤدونها داخل الجامع؛ حسب عرض الرسول (ص) عليهم، وتنتهي المحادثات بدفع المسيحيين النجرانيين الجزية مع بقاء كل طرف على معتقداته.

-الحلقة الثانية والأخيرة-
الخلافة تتأرجح في تعاملها مع المسيحيين.. والصليبيون "فرنجة" متخلفون
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 28/09/2015م، ص: 13
المحور الثالث: الخلافة الإسلامية تتأرجح في تعاملها مع المسيحيين
في عهد الخلفاء الراشدين؛ فإنه لم يلحق المسيحيين أي أذى، سوى ما تم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، الذي قام بترحيل مسيحيي نجران لسبب يعود إلى تزايد قوتهم وإمكانية تشكيلهم خطرًا على سيادة العرب المسلمين في الجزيرة العربية، ويرفض "غنادري" أقوال بعض الكنسيين اللاهوتيين الذين يعتبرون ذلك السلوك دليل على عنصرية الإسلام ضد المسيحية، ويتبع "غنادري" ذلك بتوصيات الخليفة عمر بمساعدة النجرانيين المرحلين وإعفائهم من الجزية لمدة (24) شهرًا، ، ثم يؤكد على عدم وجود وثائق أو مصادر تاريخية تشير إلى أن "أسلمة" النصارى تمت بقوة السلاح والإكراه. ويشير "غنادري" إلى العهدة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب (رض) إلى صفرونيوس في كنيسة القيامة بالقدس، وهو الخليفة الذي أمر عامليه بإعالة فقراء المسيحيين من بيت المال الإسلامي، وبإعفاء الرهبان والكهنة من دفع الجزية.
في عهد الخلافة الأموية؛ لم يسجل أي عنف ضد المسيحيين بالذات، إذ كان العنف في أوجه ضد المسلمين المعارضين للخليفة، في حين أن المسيحيين السريان العرب كانوا، لبضعة عقود هم المسؤولين عن ديوان المالية الإسلامي. ويرد "غنادري" على المستشرق الغربي الذي يصور كل اعتداء يجري في تلك الحقبة بأنه اعتداء على المسيحيين، بالقول: الخلفاء العرب المسلمين لم يقصفوا بلدة أو كنيسة مسيحية بالمنجنيق، وإنما قصفوا مكة وقتلوا أشرافها، ولم يلعنوا كاهنا عن منبر، وإنما شتموا علي (رض) من على منابر الجوامع... الخ.

لقد عاش المسيحيون في ظل الخلافة الأموية في أجواء من التسامح والاحترام، حتى أنه في العقود الأولى من الخلافة الأموية، وحيث تنتشر أماكن العبادة المسيحية، لم يتم إيذاء أي منها، وإنما كان المسلمون والمسيحيون يدخلون من الباب نفسه للكنيسة، فيتجه النصارى إلى اليسار والمسلمون إلى اليمين ويقيمون صلواتهم لله في نفس المكان، كل على طريقته[9]. كما كان للمسيحيين أدوار بارزة في ظل هذه الخلافة على مستوى الوظائف العليا، وعلى المستويات الاقتصادية؛ الزراعية والصناعية، والثقافية، حتى أن الشاعر النصراني "الأخطل" كان "شاعرًا مسيحيًا لخلافة إسلامية"، وكان الخليفة معاوية قد اتخذ الطبيب النصراني "إبن أثال" طبيبًا خاصًا له وعينه واليًا على حمص".
وفي عهد الخلافة العباسية التي شهدت الكثير من العنف والبطش لحد حرث القبور وحرق الجثث للخلفاء الأمويين، لم يحظ المسيحيون بنفس ما تحقق لهم في الخلافة الأموية، فقد تعرضوا للأذى، بشكل أو بآخر، كما جرى مع مسيحيي تغلب في مقرهم في الجزيرة الفراتية، فرحل العديد منهم إلى بيزنطا التي استقبلتهم وخصصت لهم أرضا، ثم قيام الخليفة المهدي بقتل وطرد آلاف المسيحيين، وتسلط الموالي الأعاجم على المسيحيين والمسلمين في نفس الوقت.

إلا أنه يسجل للمسيحيين دورهم في حياة الدولة العباسية، بما فيها البلاط ودوواوين الحكم (بما فيها المالية)، فكان منهم التراجمة[10] وناقلو التراث اليوناني والفارسي العلمي للعربية، والأطباء والعلماء وفنانو العمارة والنقوش البيزنطية. فقد كان حنين بن اسحاق[11] رئيس دار الحكمة إبان خلافة المأمون، الذي كان يغدق عليه معاشا كبيرا وكان يضيف له ذهبا بزنة الكتاب الذي يترجمه. والخليفة المعتضد يولّي واليًا نصرانيًا على الأنبار؛ شمال العاصمة بغداد. كما يواصل النصارى بناء كنائسهم وأديرتهم، ويواصلون الظهور بشاراتهم المسيحية، وإحياء أعيادهم حسب طقوسهم... الخ.
وإجمالاً للقول، فإنه حدث في ظل الخلافة العربية الإسلامية بمراحلها الثلاث؛ من راشدية وأموية وعباسية، أن تم بناء الحضارة العربية–الاسلامية التي أخذت الحضارات السابقة وطورتها، وبنت ما أصبح يعرف بـ "التمدن الإسلامي", وهي حضارة ومدنية ساهم في وضع أسسها, اقتصاديا وتجاريا وعلمياً وعمرانياً وأدبيا وإداريا, العربي المسيحي إلى جانب أخيه وابن قومه ووطنه العربي المسلم.
وبخصوص الخلافات الإسلامية التي جاءت أثناء الحروب الصليبية وبعدها، من سلاجقة وأيوبيين ومماليك، فقد تعرض النصارى إلى الكثير من المعاناة في ظل حكم السلاجقة والزنكيين والأيوبيين. ومن جانب آخر كان للنصارى حظوة خاصة عند صلاح الدين الأيوبي الذي خاض حرب تحرير البلاد من الفرنجة الصليبيين، وبين جنوده وقادته أناس ينتمون للنصارى الأرثوذكس. وفي عهد المماليك عانى النصارى العرب الأمرّين.
وأما في عهد الخلافة العثمانية، التي حكمت أكبر وأوسع تجمع مسيحي بالمقارنة مع أية خلافة سابقة (ص: 446)، فقد خف الأذى عن المسيحيين، إذ لم يتجاوز الأمر بعض مظاهر التشدد في وجوب تمايز النصارى عن المسلمين في لباسهم وركوبهم، ثم أصبح النصارى رعايا –مواطنين- كالآخرين مع إزالة التقييدات المختلفة بحقهم، وأُبطل إلزام العمل حسب الشرع الإسلامي إزاء الذمّيين واستبدل بـ "نظام الملّة" الذي يمنح أبناء الأديان والمذاهب غير الإسلامية إدارة ذاتية ومساواة واستقلال.

وفي القرن التاسع عشر عاش النصارى في كل من فلسطين ولبنان ومصر عقودًا امتازت بالتعامل السمح معهم، وبإشراكهم على قدم المساواة في حياة الدولة، وفيهم قال السلطان العثماني "محمود الثاني": لم يُعرف عن مسيحيي القدس أنهم خونة ولم يسيئوا للمسلمين في حياتهم لا قولًا ولا فعلًا ولا ضرر منهم"، وفي العام (1822م) أصدر محمد علي باشا مرسومًا يساوي بين المسلمين والنصارى.        
المحور الرابع: الصليبيون: فرنجة متخلفون.. جاءوا لمقاتلة الشرق "الكافر" إسلاميًا و"الضال" مسيحيًا
ظهرت الحروب الصليبية وكأنها انتصار للمسيحيين وللصليب، وتمت تحت وطأت "صيحة: الله أرادها"؛ لإنقاذ الأماكن المقدسة المسيحية في الشرق من المسلمين "الكفار". واستمرت لقرنين من الزمن (1097م-1291م)، حينما كان العالم عبارة عن ثلاثة تجمعات، هي: الغرب اللاتيني[12]، الشرق العربي العباسي والإمبراطورية البزنطية. والتقت الدعوات البابوية لتلك الحروب مع مصلحة الملوك والأباطرة ورجال الإقطاع الغربيين التواقين إلى التوسع نحو الشرق[13].

قامت الحملة الأولى باحتلال مملكة الأرمن الصغرى المسيحية الأرثوذكية، وأقاموا فيها أول إمارة لاتينية لهم، ثم استمرت حتى دخلت فلسطين، وكانوا في رحلتهم تلك يمارسون مهمتهم المركزية، وهي: التنكيل بالمسلمين والاستيلاء على العديد من الجوامع وحرق بعضها، أو تحويلها إلى كنائس. كما أصاب الأرثوذكس باعتبارهم "الضالين" ما أصاب المسلمين من استيلاء على كنائسهم، وتحويلها إلى لاتينية وملاحقة رجال الكهنوت[14]، وتوجت تلك الحملة بقتل (70,000) من أهل القدس المستسلمين[15].
رافق الحملة العسكرية الأولى حملة شعبية؛ حيث الألوف المؤلفة من الفلاحين والفقراء والجهلة، بلا سلاح، بتراتيلهم  الدينية، وعشرات "الرؤى"[16] بظهور المسيح والعذراء، وسيحررون قبر المسيح المقدس، وينعمون بالخيرات ويتخلصون من العبودية والفقر. وعندما انتهت المؤن لديهم، لجأوا إلى نهب وتقتيل سكان القرى المسيحية في طريقهم. مات الآلاف منهم، والباقي تلقاهم الأتراك السلاجقة وقضوا على الكثير منهم. وإذا صادفهم يهود، فإما التنصر أو الذبح تقربًا لله؛ فاختفت قرى ومجتمعات يهودية بأكملها في أوروبا[17].
ثم قامت حملات أخرى للصليبيين الذين أطلق عليهم مسيحيو الشرق "الفرنجة"؛ لتبرئة الصليب من تصرفاتهم وهمجيتهم[18]، وصل عددها الإجمالي إلى تسع حملات، انتهت بالهزيمة على يد المماليك البحرية، وتم تحرير آخر معقل لهم في جزيرة أرواد مقابل طرطوس عام 1303. حيث سمح المماليك للفرنجة بمغادرة البلاد بسلام على سفنهم.
أتى الفرنجة بحضارة متخلفة وهمجية[19] لمشرق عربي-اسلامي راقٍ حضاريًا، بل صاحب أرقى حضارة في عالم القرون الوسطى يومها، وأكثر ما أثار أهل الشرق، يومها، هو مدى عمق جهل الفرنجة، وإيمانهم بالخزعبلات والخرافات، وخيانتهم للعهود والاتفاقيات. فقد كانوا جهلة في الطب[20]، وأصحاب قضاء منحط[21].
هناك انعكاسات كبيرة للحملات الصليبية على المسيحية المشرقية، إلا أن أبرزها: انتقال مسيحيو الشرق من "أهل ذمّة" في ظل حكم المسلمين إلى "أهل بدع وهرطقة" و"ضالين" تحت حكم الفرنجة. وبدلًا من رد الاعتداء على أماكن عبادتهم، يستولي الفرنجة على كنائسهم المركزية وعلى أوقافهم. وبدل منح حرية العمل لرجال كهنوتهم، تتم الإطاحة ببطاركتهم وأساقفتهم[22].
أما المسيحيون الشرقيون، من جانبهم، فقد امتاز تعاملهم مع الفرنجة المحتلين، بما يلي:
à        رأوا فيهم غزاة ومستغلون وقطّاع طرق، أتوا لاحتلال واستغلال وطنهم وكنائسهم، كما رأوا فيهم محاربين للصليب لا محاربين للدفاع عنه؛ فلم يتعاونوا معهم، في حين أن بعض القادة المسلمين، بخاصة الأعاجم منهم، من تعاون مع الفرنجة واستعان بهم في محاربة خصومه[23].
à        لم يشكل نصارى الشرق قاعدة اجتماعية وسياسية وعسكرية للغرب، بل قاوموهم، وشارك العديد منهم إلى جانب المسلمين في تحرير البلاد منهم، حتى أنه كان من بين جنود صلاح الدين وقادته العسكريين نصارى عرب، وكان قد وصله رسالة من أشراف القدس الأرثوذكس يدعونه إلى دخولها وتحريرهم من الفرنجة.
à        لذلك؛ بقي الفرنجة أقلية، إذ لم يتعدّ عددهم ربع مليون نسمة من بين ملايين سكان الشرق في سوريا ولبنان وفلسطين. 
بعد فشل الحملات الصليبية للكنيسة اللاتينية البابوية في احتلال الأرض المقدسة من المسلمين، وفي "لَيْتَنَة" مسيحيي الشرق الأرثوذكس، تحولت النظرة الكنسية الصليبية القديمة للأرض المقدسة من "أرض يجب تحريرها مسيحيًا" إلى أرض للتبشير السلمي؛ فاستحالت بلاد مهد المسيح إلى بلاد للتبشير المسيحي، وانصبّ اهتمام الإرساليات التبشيرية بين الأرثوذكس في الشرق[24]، لا بين المسلمين، بهدف نقل انتمائهم للكنيسة اللاتينية، وأدى ذلك إلى صراعات دموية مؤلمة. 
قبل قيام الإمبراطورية العثمانية، أجريت اتصالات وانعقدت مجامع كنسية، منها مجمع فيرنسه سنة (1439م) بهدف توحيد الكنيسة المنشقة بين غرب لاتيني وشرق أرثوذكسي. وقد فشلت تلك الجهود، وبقي كل شق يتهم الآخر بالهرطقة والانحراف، وفي العام (1450)؛ عشية الهجوم العثماني على القسطنطينية طلبت الكنائس الشرقية من البابا (الغربي) والدول الغربية الدعم والحماية، فاشترط هؤلاء انضمام الكنائس الشرقية للغربية، فرُفِض الطلب، وأخذ أرثوذكس الشرق، بمن فيهم اليونان والبلقان وقبرص والنصارى العرب في الشام يرددون: "عمامة التركي ولا تاج البابا". 
في العهد العثماني، ومنذ العام (1534م)، ومع سيطرة الكهنوت اليوناني وأخوية القبر المقدس اليونانية، انتشر الفساد وعمّ داخل البطريركية المقدسية في فلسطين (وفي مناطق أخرى) وبين رجال السلّم الكهنوتي الأعلى بمن فيهم مطارنة وبطاركة، وتم تلقيب بعض المطارنة "أبو الذهب"؛ لفحش اغتنائهم الشخصي[25]. وقد ساهمت البطريركية المقدسية، بفسادها وبإقصائها للعرب النصارى عن قيادتها، في ظلم وتنكيد حياة النصارى العرب، وعزز ذلك وصول الإرساليات الأوروبية للمسيحية اللاتينية للبلاد وتبشيرها[26]. فأفسح ذلك المجال للولاة العثمانيين المرتشين لإصدار الفرامانات الظالمة المستندة إلى المصالح الخاصة لمن يصدر الفرمان.
وكانت أوروبا تتجه، بشكل استراتيجي، نحو "الإبقاء على امبراطورية عثمانية متخلفة"؛ لضمان استمرار استغلاها لصالحه، أفضل من تحويلها إلى دولة "مسيحية حضارية"، وقد عبر اللورد الإنجليزي "بالمرستون" في العام (1833م)، بقوله: حتى لو أدى احتلال بريطانيا لتركيا إلى تحويل سكان البلاد إلى مسيحيين، وجلب مدنية أوروبية لها، فإن مضار ذلك أكثر من فوائده".      
الخاتمة والتعليق
  يقول "غنادري" حول كتابه هذا: لقد أخذنا على عاتقنا في هذا الكتاب أن نعرض الحقائق كاملة لعكس الصورة على حقيقتها؛ فلا نبالغ بإيجابيات تسامح الخلفاء الإسلاميين مع المسيحية، ولا نخفي النواحي السلبية، ونحذر من تعميم سلبية معينة اقترفها خليفة أو والٍ في وقت محدد وفي ظروف معينة أو لأمزجة شخصية تعود له، تعميمها على الإسلام عمومًا أو على الخلافة (في ذلك العصر).
كما يؤكد "غنادري" أن الإسلام كدين لم يكن مسؤولًا، ولا يجوز اتهامه بالمسؤولية عن تعدّيات ومظالم بعض المسلمين حتى لو كانوا خلفاء، لأن ما كان يوجه هؤلاء الخلفاء لفعل السوء سوى مصالحهم السياسية والاقتصادية ونزعاتهم الشخصية وفهمهم المشوّه لحقيقة الإسلام وموقفه من "أهل الكتاب". ويعزز ذلك كله بما أستشهد به من قول أسقف دمشقي سرياني: هؤلاء العرب الذين أعطاهم الله السلطان، لا يكافحون الديانة المسيحية، بل يدافعون عن عقيدتنا ويجلّون كهنتنا وقدّيسينا، ويقدمون الهبات للكنائس والأديرة".
منذ قول ذلك الأسقف، ومرورًا بآراء النهضويين من المفكرين، وحتى يومنا هذا، تكونت الشخصية الاعتبارية للأمة العربية؛ بمسلميها ومسيحييها، التي ترى في "العروبة" رابطًا هامًا يحفظ للأمة وجودها وحضورها وهيبتها بين الأمم. وأما العروبة القوية والمتينة، فأخال إرث النبوّة أساسًا هامًا من الأسس التي تقوم عليها، والتي يقول فيها المفكر القومي "ميشيل عفلق" في العام (1943م)، بمناسبة عيد المولد النبوي: العروبة والإسلام ليسا متناقضين، بل أن "العروبة هي الجسد والإسلام هو الروح”.
والحالة هذه؛ يبقى القول بأننا أمام مؤلَّف هام يجعل القارئ يعيد حساباته في المعلومات التي اكتسبها عبر سني عمره، ويعيد النظر في العديد من المسلمات والحقائق التي تم "ضخها" في عقله لتكون شخصيته بالشكل الذي أريد لها أن تكون عليه.
ففي هذا الكتاب ما يجعلك تتفق معه، فتكتسب منه ما هو جديد من المعرفة التي كانت تنقصك، بما يدفعك للمزيد من البحث والتمحيص، للوصول إلى المزيد من تلك المعرفة وتمكينها لكي تصبح جزءًا هامًا من شخصيتك وسلوكك، وطريقة نظرتك للأحداث. وفي هذا الكتاب، أيضًا، ما يجعلك تختلف مع الكاتب؛ مما يدفعك إلى البحث المعمق لكي تحاججه بحقائق تقارع فيها الحجة بالحجة، وتجعله يتوقف أمام رأيك بمهابة واحترام.
في الحالتين؛ سواء الاتفاق مع الكاتب أو الاختلاف معه، نكون أمام من رمى "حجرًا" في بركة راكدة، تكاد تكون آسنة، من المعلومات والمعارف حول العلاقة بين الإسلام والمسيحية المشرقية، وحول علاقة المسيحية المشرقية بالحروب الصليبية، التي توارثناها، نحن العرب، جيلًا بعد جيل، كمسلمات "مسكوت عنها"، دون أن نتوقف أمامها بقراءة نقدية-تحليلية تزيح عنها ما تراكم من غبار السنين، بخاصة تلك الآراء والمواقف والنظريات والفتاوى التي يبثها البعض من الديانتين؛ الإسلامية والمسيحية، التي تبذل جهودًا جبّارة من أجل إحداث فجوة واسعة جدا تجعل حالة الالتئام والتعاضد من الأمور المستحيلة.
ويبقى عزاؤنا في وعي أبناء الأمة؛ بمسلميها ومسيحييها، وتفهم كل منهما للآخر والاعتراف به، كلَبِنَةٍ حية وأساسية في هذا الوطن الذي علينا أن "نعض عليه بالنواجذ"، في مواجهة الآخر القوي الذي يسعى إلى محوه ومحونا من الخريطة الجيوسياسية على مستوى العالم.
-انتهى-
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 16 أيلول، 2015م




[1] ورد في (متى 10: 34): لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئت لأحمل سلامًا بل سيفًا (ص: 38).
[2] استشهد الأسقف الأول "يعقوب" على أيدي اليهود، سنة 63م، فخلفه "سمعان" الذي استشهد أيضًا في العام 106م (ص: 48).
[3] أصبح "بولس الرسول" فيما بعد.
[4] ما عدا الإمبراطور "فيليبوس"؛ وهو عربي أو يعود إلى أصل عربي، وقد ظهر في منتصف القرن الثالث، قد تهاون جدا مع المسيحيين. ويروى أنه أعلن مسيحيته بشكل فردي سري (ص: 106).
[5] الهرطقة، هي الدرجة ما بين البدع والإلحاد.
[6] قطن العرب، منذ ما قبل الميلاد وحتى عشية ظهور الإسلام، في ثلاث مناطق جغرافية، هي: البلاد السورية (فلسطين جزء منها)، والعراق، وشبه الجزيرة العربية (ص: 165).
[7] يحذر الكاتب "غنادري" من تجدد التوجهات نحو الهيمنة اليونانية والتنكر لمصالع الرعية العربية، بخاصة بين فلسطينيي-48.
[8] يُقصد بها بلدان: غرب أفريقيا، ونيجيريا، والصين، وأندونيسيا وماليزيا والفلبين... وعدد مسلمي هذه الدول يفوق عدد كل العرب والإيرانيين المسلمين (ص: 351).
[9] كانت قد جرت العادة أن الفاتحين يهدمون معابد السكان الأصليين ويستولون عليها.
[10] بدأت في حقبة الخلافة العباسية ظاهرة قيام مؤلفين كنسيين بكتابة تاريخ كنائسهم ونصرانيتهم، وترجمة الأناجيل والصلوات  والعديد من الكتب الدينية إلى العربية (ص: 298).
[11] يصبح هو نفسه الطبيب الخاص للخليفة المتوكل.
[12] كان الغرب اللاتيني، في حينه، هو الكتلة السياسية الصاعدة والساعية لإعادة مجد الامبراطورية الرومانية (ص: 366).
[13] حيث يتوفر في الشرق الأسواق والطرق التجارية الهامة والأراضي الواسعة للهجرة إليها وإقامة إقطاعيات عليها (ص: 367).
[14] لم يستعد الأرثوذكس ما نهبه الفرنجة منهم إلا بعد أن جاء صلاح الدين الأيوبي، ولم يعترف البابا بذلك، فنقل مقر البطريرطية اللاتينية إلى عكا، التي لم تكن قد تحررت بعد من الفرنجة (ص: 410)
[15] امتاز الصليبيون (الفرنجة) بوحشيتهم وهمجيتهم وخيانتهم للعهود والاتفاقيات (ص: 382).
[16] حلت الرؤى على أوزة أو على ماعز، فلحقت الجموع بها على طريق الخلاص (ص: 374).
[17] كذلك كانت حملة الأطفال بعد هذه الحلة، والذين انتهى أمرهم إلى أنه تم بيعهم كعبيد في شمال أفريقيا (ص: 376).
[18] الفرنجة: قبائل همجية جرمانية، ما كادت تتنصّر حتى وقع الانشقاق الكبير في الكنيسة عام 1045م بين غرب وشرق (ص: 408).
[19] يكتب أحد المؤرخين الغربيين أن أوروبا "يومها" كانت مجتمعا "نسي" أن يستحم على مدى ألف عام (ص: 405).
[20] عالجوا امرأة منهم تعاني من وجع الرأس، عن طريق جرح رأسها عميقًا، على شكل صليب، بآلات حادة لإخراج المرض (أو الشيطان الذي ركب رأسها)، فنزفت حتى ماتت (ص: 404-405).
[21] قاضوا سارقًا بإلقائه في مياه النهر العميقة، فإذا عام يكون بريئًا والله أنقذه (ص: 405).
[22] وجّه قادة الحملة الصليبية الأولى رسالة للبابا في (11/09/1098)، جاء فيها "أنهم انتصروا على المسلمين والوثنيين، لكنهم لم ينتصروا على "الهراطقة من يونانيين وأرمن وسيران ويعاقبة" (ص: 411).
[23] الحضارة العربية الإسلامية مشتركة فيما بين المسلمين والمسيحيين العرب الذين شاركوا في بناء صروحها وعاشوا في ظلها على مدى قرون (ص: 414).
[24] تمكنت الإرسالية الإنجيلية، خلال ثماني سنوات (1839-1847)، من تنصير (51) يهوديًا فقط، فاتجهت للتبشير بين الأرثوذكس أيضًا (ص: 491).
[25] ضبطت روسيا سارقًا كهنوتيًا كبيرًا مبعوثًا من بطريركية القدس، نهب وأخفى تبرعات طائلة جمعها من مسيحيي البلقان وروسيا (ص: 455).
[26] لم يكن النصارى بحاجة لحماية؛ لأن سيف آل عثمان لم يكن مصلتًا على رؤوسهم وحدهم دون غيرهم من مواطني الامبراطورية المسلمين (ص: 486)

إرسال تعليق Blogger

 
Top